موقع طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

نظام رأسمالية الدولة الروسي بمواجهة النظام الرأسمالي الإمبريالي الغربي (1)
25/04/2024

نظام رأسمالية الدولة الروسي بمواجهة النظام الرأسمالي الإمبريالي الغربي (1)

تمتلك روسيا اليوم قيادة وطنية صادقة، منفتحة، حكيمة، صلبة، شجاعة ومقدامة، منتخبة دمقراطيًا من قبل الشعب الروسي، المصهور تاريخيًّا في النضال المرير ضدّ العنصرية والاستعمار والإمبريالية.

وفي المواجهة الشاملة، والمصيرية لجميع شعوب العالم، التي تخوضها اليوم ضدّ الكتلة الإمبريالية الغربية، بقيادة الإمبريالية الأميركية والصهيونية العالمية، ترتكز القيادة الوطنية الروسية إلى نظام اقتصادي ــ اجتماعي، هو نظام "رأسمالية الدولة"، الذي تنبني عليه كلّ الجيوستراتيجيا العسكرية والجيوبوليتيكا السياسية والجيوايكونوميكا الاقتصادية، الوطنية والعالمية، لروسيا.

وجميع التطورات والمسارات والأحداث الكبرى، في العالم المعاصر، أصبحت ترتبط عضويًا، مباشرة أو غير مباشرة، بالجيوبوليتيكا العالمية لروسيا، ذات النظام "الرأسمالي الدولوي"، القريب جدًّا وشبه المتطابق اقتصاديا مع النظام "الرأسمالي الاحتكاري للدولة" حسب التعريف اللينيني. وهو ما ينبعي التوقف عنده من قبل جميع الباحثبن العالميين الصادقين والقادة الوطنيين المخلصين والواعين، أيًا كانت ايديولوجياتهم السياسية والفكرية والدينية.

وفي كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية"، الصادر في 1916، يقول فلاديمير لينين (زعيم الثورة الاشتراكية الروسية العظمى) إن "الرأسمالية الاحتكارية للدولة" هي "الغرفة المجاورة للاشتراكية"، من حيث جعل الأرض ووسائل الانتاج وعملية الانتاج والتوزيع، "ملكًا عامًا"، أي ملكًا للدولة، بصورة مباشرة، مؤسساتيًا وحقوقيًا، وبصورة غير مباشرة ملكًا للمجتمع الذي "تمثله" وتسود فيه تلك الدولة.

ولكن من المهم الملاحظة والتأكيد أن ظاهرة "رأسمالية الدولة" في روسيا، لم تتشكّل بفعل قوانين تطوّر النظام الرأسمالي ذاته، حسب التحليل اللينيني، بل تشكلت تاريخيًّا انطلاقًا من "الصدمة النوعية" التي مثلتها ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا سنة 1917، والتي كانت تجسيدًا لصراع الطبقات المالكة الاستغلالية والطبقات العاملة والشعبية (العمال والفلاحون والمثقفون، والشعوب المستعمرة) في إطار الدولة القيصرية الروسية القديمة.

والثورة الاشتراكية العظمى في روسيا سنة 1917 لم تكن مجرد انقلاب فوقي في السلطة السياسية والدولة، بل عملية "تحول نوعي" أو "قفزة نوعية" تاريخية، في مجمل البنية أو التركيبة المجتمعية (الطبقية ــ الاقتصادية ـــ الانتاجية ــ السياسية ــ الاجتماعية ــ الثقافية ــ التعليمية الخ)، من جذورها إلى كلّ فروعها، ومن ادناها إلى أعلاها.

والخلاصة العامة لهذا "الانقلاب النوعي" أو "التحول النوعي" والجذري الذي تم في الثورة الاشتراكية الروسية في أكتوبر (بالتقويم الروزنامي القديم) 1917، انه نزع السلطة في الدولة من أيدي الطبقات البورجوازية والاقطاعية، المالكة لوسائل الانتاج، وسلمها لحزب الطبقة العاملة والفلاحين والمنتجين المباشرين، وانه ارسى الأسس لتحويل ملكية الأرض ووسائل الانتاج وقنوات التبادل والتوزيع والاستهلاك، أي: الصناعة (المنجمية والطاقوية والانتاجية والاستهلاكية والتسليحية) والزراعة والخدمات العامة والقطاعات العامة المجتمعية كالصحة والتعليم والفنون والاعلام والمؤسسات البحثية والنظام المالي والبنكي وشبكات التجارة الخارجية والداخلية الكبيرة والصغيرة الخ، ــ تم تحويلها من الملكية الخاصة، التنافسية منها (الصغيرة والمتوسطة والكبيرة)، والاحتكارية الكبرى، إلى الملكية العامة للدولة المركزية ومتفرعاتها والهيئات المجتمعية ذات الصلة، بقيادة الطبقة العاملة. أي أنه تم الانتقال إلى "رأسمالية الدولة" لا بقيادة الرأسماليين الكبار الاحتكاريين، بل بقيادة البروليتاريا، ذات التوجّه الاشتراكي. وهو ما سمي "النظام السوفياتي" أي "المجالسي" (مجالس العمال والفلاحين والجنود، وكلمة "سوفيات" وتلفظ "صافييت" في الروسية تعني: مجلس).

ولكن هذا النظام الاقتصادي ــ الاجتماعي الجديد (الذي هو أشبه بمرحلة انتقالية بين النظام الرأسمالي الكلاسيكي وبين النظام الاشتراكي الذي لم يولد بعد)، والذي أرست أسسه الأولى "الثورة الروسية"، تعرض لانتكاسات وتطورات تراجيدية، بدأت باغتيال "زعيم الثورة" ذاته: فلاديمير لينين، وذهب ضحيتها ملايين "المناضلين الشيوعيين" والعمال والفلاحين والانتليغينتسيا الشرفاء، على أيدي الطابور الخامس الموالي للغرب الإمبريالي والصهيونية العالمية، المندس في قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي ذاته. وقاد هذا الطابور الخامس، لعشرات السنين، خائن الشيوعي الأكبر يوسف جوغاشفيلي (ستالين) بالاشتراك مع العناصر اليهودية المرتبطين مع اليهودية العالمية.

ولكن بالرغم من كلّ "الديماغوجية التضليلية الأوروبية" و"الاستبدادية الوحشية الآسيوية" للردة الستالينية المعادية للشيوعية، والمزيّفة للفكر الاشتراكي العلمي، ومن ضمن النظام السوفياتي ذاته، فإن الردة لم تستطع تغيير الأسس الجذرية لنظام "رأسمالية الدولة"، التي أرستها الثورة الاشتراكية في أكتوبر 1917.

وكل ما أمكن للردة الستالينية فعله هو اجراء انقلاب في القشرة أو الشريحة الفوقية لأجهزة القيادات الحزبية والدولوية والمجتمعية، واستيلاد البيروقراطية السوفياتية المنحرفة (الحزبية والدولوية)، وكانت تتألف من فئتين، أطلقت عليهما جماهير الشعب تسميتين هما:

1ــ الـ"نومينكلاتورا" (لائحة المحاسيب أو الطغمة العليا). وأطلقت هذه التسمية على الشريحة العليا للبيروقراطية الستالينية، أي القيادات العليا للحزب والدولة والاقتصاد ومختلف المؤسسات والادارات. وكان تعداد هذه الشريحة يبلغ عدة ألوف، وقد شكلت فئة اجتماعة وشبه طبقة متميّزة، لها امتيازاتها العليا ومستوى معيشة بورجوازي رفيع وعادات وتقاليد وعلاقات خاصة بها. وكانت الدولة تضع في تصرف "النومينكلاتورا" المنازل والفيلات الفخمة، والفنادق والمسابح والمصحات والنوادي "الراقية"، الخاصة بهم في أغلب الحالات، ويحظى أفرادها وعائلاتهم بأفضل العناية الصحية، ويتم تنسيب أولادهم إلى الفروع العلمية الأولى، وتخصص لهم أفضل السيارات الفخمة، ويسافرون بالباصات والقطارات والطائرات دائمًا بالدرجة "الفيب" أو الأولى، وغير ذلك من الامتيازات. وكانت هذه الفئة تسرق وتختلس من المؤسسات العامة للدولة ومن المؤسسات التي يعمل فيها أفرادها، بقدر ما تستطيع السرقة، ويكدس أفرادها رساميل خاصة بهم في داخل روسيا أو خارجها. ولكن أيًا منهم لم يكن يستطيع أن يتملك ظاهريًا ورسميًّا أي وسيلة إنتاج أو عقارات أو أي استملاكات خاصة أخرى ظاهرة وباهظة الثمن، مما يجعله تحت طائلة القانون ذاته الذي تدعي البيرقراطية الوصاية عليه وتطبيقه.

2 ــ الـ"اباراتشيكي" (الاجهزاتيين): وقد إطلقت هذه التسمية على الشريحة الوسطى والدنيا من البيروقراطية، أي العناصر المتقدمة في "الصف الثاني" وما دون للبيروقراطية في الادارات وأجهزة الدولة العسكرية والأمنية وهيئات الحزب الحاكم، وكان تعدادهم يبلغ عدة مئات الالوف أو عدة ملايين. وبحكم وضعهم الوظيفي وصلاحياتهم كان هؤلاء يتمتعون بحد أدنى، اقل أو أكثر، من الامتيازات المتوسطة والدنيا ومن الاستقرار المعيشي والرفاهية.

وكانت فئة "النومينكلاتورا" تمتلك سلطة القيادة والقرار، سياسيًّا واقتصاديًا واجتماعيًا الخ. أما "الاباراتشيكي" فكانوا يمثلون "القبضة الحديدية" للقيادة، والاداة التنفيذية لقراراتها.
ولكن في الوقت ذاته الذي كانت فيه الدكتاتورية الستالينية، مع شركائها السريين اليهود، تحرّف الاشتراكية العلمية وتشوه النظام السوفياتي، فإنها كانت مضطرة لتوطيد وتقوية الدور المركزي لأجهزة الدولة السوفياتية، بما في ذلك بل وخصوصًا ملكية الدولة لوسائل الانتاج ومركزية الاقتصاد الوطني، كطريق الزامي ووحيد من أجل توطيد دور الشريحة العليا للبيروقراطية، التي بواسطتها فقط كان بإمكان الستالينية ان تسيطر على المجتمع السوفياتي.

وقد تأسست فئة "النومينكلاتورا" على "الخيانة الوطنية" الضمنية لروسيا والشعب الروسي، بوصفها تمثل تجسيدًا واستمرارًا للخيانة الوطنية المستورة من قبل ستالين والزمرة الستالينية الضيقة المحيطة به، التي كانت في تحالف سري وثيق مع اليهودية العالمية، جنبًا إلى جنب الهتلرية في المانيا.

وفي أواخر المرحلة "السوفياتية" تمخضت أخيرًا فئة "النومينكلاتورا" الخائنة عن الزمرة الغورباتشوفية ــ اليلتسينية، التي خانت النظام السوفياتي الستاليني المنحرف ذاته الذي قامت على كاهله. وتحت شعارات الـ"بيريستريكا" (إعادة البناء) والـ"غلاسنوست" ("الإشهارية" أو "الإعلانية" أو "الشفافية") و"الأوْربة" و"الدمقرطة الغربية" وتطبيق "الاقتصاد الحر"، قامت فئة "النومينكلاتورا" بالانقلاب المفضوح "المعادي للسوفيات"، واتجهت للتحالف المكشوف مع الغرب الإمبريالي والطغمة المالية العليا لليهودية العالمية، وداست على النظام السوفياتي المنحرف ذاته الذي وُجدت بفضله، وباعت الاستقلال الوطني للدولة الروسية، وشرّعت الأبواب للنهب الوحشي للقطاع العام (الاقتصاد الوطني الروسي) بمجمله، ولخصخصته بأبخس الأسعار لصالح الرأسمال الإمبريالي واليهودي العالمي، بالاشتراك مع عناصر (شخصيات) تلك الفئة التي أصبح بإمكان رجالها استخدام الرساميل الخاصة بكلّ منهم التي كانوا يحتفظون بها سريًا منذ العهد السوفياتي. وبين ليلة وضحاها تحول رجال تلك الفئة الخائنة لروسيا إلى شبه طبقة رأسمالية عليا تملك مليارات الدولارات (ما سمي: الاوليغارخيا).

ولكن بالرغم من النجاحات الأولية التي حققها ذلك الانقلاب الخياني و"المعادي للسوفيات"، فإنه فشل فشلًا ذريعًا في أن يعيد التاريخ الروسي إلى ما قبل الثورة الاشتراكية في 1917، ويعيد إلى روسيا النظام الرأسمالي التقليدي، بطبعة جديدة "اورو ــ أميركية".

فبالرغم من كلّ تطبيقات الخصخصة وما سمي "العلاج بالصدمة" و"اقتصاد السوق" وربط الاقتصاد الروسي بعجلة الاقتصاد العالمي القائم على هيمنة الإمبريالية الأميركية والغربية واليهودية العالمية، فإن الزمرة الخائنة الغورباتشوفية ــ اليلتسينية لم تستطع هي الأخرى إجراء أي تغيير جذري في أسس نظام "رأسمالية الدولة" ذي التوجّه الاجتماعي (بخلفيته الاشتراكية) في روسيا.

فحملة الخصخصة الرأسمالية ــ اليهودية، الغورباتشوفية ــ اليلتسينية، لم تفشل فقط في تحقيق أي تقدم رأسمالي لروسيا، بل أكثر من ذلك، كانت بمثابة كارثة على الاقتصاد الوطني والمجتمع الروسيين، وأدت إلى أزمة اقتصادية كبيرة تميّزت بانخفاض بنسبة 50% لكل من الناتج المحلي الإجمالي والانتاج الصناعي بين عاميّ 1990 و1995. وحولت الخصخصة العديد من الشركات من أجهزة الدولة والملكية العامة إلى الملكية الخاصة بأيدي كبار اللصوص وزعماء المافيات ورجال الاوليغارخيا، ولا سيما من اليهود. وأدت حالة الكساد إلى أنهيار الخدمات الاجتماعية وانخفاض معدل المواليد وارتفاع معدل الوفيات بنسب كبيرة. وهوى عشرات ملايين الناس في براثن الفقر من معدل فقر بنسبة 1.5% في أواخر الحقبة السوفياتية السابقة، إلى ما بين 39 و49% بحلول منتصف عام 1993. ويقول الكثير من الخبراء إنه في تلك الظروف بدأ عمليًّا تنفيذ خطة سبيغنيو بريجينسكي لتخفيض عدد سكان روسيا إلى 50 مليونًا فقط، من أجل القدرة على السيطرة عليها.

وبنتيجة ذلك فشل الانقلاب الغورباتشوفي ــ اليلتسيني "المعادي للسوفيات" في اقتلاع تمسك جماهير الشعب الروسي، من العمال والفلاحين والمراتب المتوسطة والدنيا للجنود وقوات الأمن والانتليغينتسيا، ــ تمسكها بالركائز الرئيسية للاقتصاد الوطني الروسي، ولا سيما المجمّع الصناعي الحربي وقطاع الطاقة والصناعة المنجمية، والاتّصالات والمواصلات العامة، والصحة والتعليم والابحاث العلمية والملكية الرئيسية للارض، والسيطرة الكاملة للدولة على القطاع المصرفي والمالي والبورصوي، وأخيرًا لا آخر الشبكات الرئيسية للتجارة الداخلية واحتكار الدولة التام للتجارة الخارجية.  

وأقصى ما استطاعت إنجازه زمر الخيانة الغورباتشوفية ــ اليلتسينية وأسيادها الاورو ــ أميركيون واليهود الكوسموبوليتيون الروس والأجانب، هو اجراء تغيير فوقي في السلطة السياسية، وخصخصة قطاع محدود نسبيًّا من الاقتصاد الوطني الروسي العام. وذلك في ظروف مقاومة شديدة من قبل جماهير الشعب الروسي، بمن فيها فلول "الاباراتشيكي"، أي عناصر الشريحة الوسطى والدنيا للبيروقراطية السوفياتية السابقة ذاتها، الذين تخلت عنهم "النومينكلاتورا" التي اندمجت بالرأسمال الأجنبي واليهودي.
وانعكست تلك المقاومة في أربعة احداث بارزة جرت في العقد الأخير من القرن الماضي بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي في 1991، وهي:

1 ــ محاولة الانقلاب الفاشلة ضدّ غورباتشوف في آب 1991، التي قام بها كبار ضباط الجيش والأجهزة الأمنية ذوو الميول الوطنية الروسية والنزعة "السوفياتية" المحافظة.
 
2 ــ تصدع صفوف النومينكلاتورا ذاتها، تحت ضغط معارضة القواعد الشعبية، وخصوصًا الانقسام بين زمرتي كلّ من غورباتشوف ويلتسين، وعزل غورباتشوف، وتفكيك الاتحاد السوفياتي، واستفراد يلتسين بالسلطة في روسيا.

3 ــ النزاع بين يلتسين والبرلمان الروسي الذي اعتصم فيه معارضو يلتسين وعلى رأسهم نائب الرئيس حينذاك الكسندر روتسكوي ورئيس البرلمان رسلان حسباللاتوف (الشيشاني الاصل)، وقيام يلتسين في تشرين الأول 1993 (طبعا تحت شعارات "الدمقراطية الغربية") بإعطاء الأمر بقصف البرلمان بالمدفعية، بتوجيه مباشر من جورج بوش الأب الذي كان يلتسين يأتمر بأوامره وعلى اتّصال مباشر معه على مدار الساعة. وقد نشرت جميع وسائل الإعلام العالمية صور يلتسين وهو يعتلي مزهوًا ظهر إحدى الدبابات التي قصفت "البرلمان الروسي" باسم "الدمقراطية الغربية".

4 ــ ولكن أكبر مظهر من مظاهر مقاومة الانقلاب الغورباتشوفي ــ اليلتسيني "المعادي للسوفيات" والموالي للغرب الإمبريالي، تمثل في إلزام بوريس يلتسين في الساعة الأخيرة من العام 1999 بالتنازل عن السلطة وتسليمها لرجل المخابرات فلاديمير بوتين، بصفة رئيس بالوكالة، والذي انتخب كرئيس أصيل في الانتخابات الرئاسية في أيار 2000.
ومثّل وصول بوتين إلى الرئاسة انقلابًا حقيقيًا جديدًا في روسيا، التي اتبعت منذ ذلك الحين نهجا سياسيًّا، داخليًا وخارجيًا، معاديًا للإمبريالية الأميركية والغربية واليهودية العالمية.

وإذا كانت محاولة الانقلاب ضدّ غورباتشوف في 1991، ثمّ ضدّ يلتسين في 1993، قد حصلتا داخل "الصفوف العليا"، بمبادرة، وبالاستناد إلى قسم "وطني روسي ــ محافظ" من فئة "النومينكلاتورا" (الشريحة العليا للبيروقراطية السوفياتية السابقة)، فإن "الانقلاب البوتيني" قام على كاهل فئة "الأبراتشيكي" (الشريحة الوسطى والدنيا لتلك البيروقراطية)، ويشمل ذلك بالاخص الجيش والقوى الأمنية والمخابراتية. وهذه الشريحة الواسعة جدًّا و"القوية" بحكم امتلاكها السلاح، وجدت نفسها في مهب الريح في الظروف الصعبة التي تسببت بها لروسيا الخيانة الوطنية للشريحة البيروقراطية العليا.

ومن الأمثلة الصادمة للظروف التي وجدت فيها نفسها هذه الشريحة البيروقراطية الوسطى والدنيا، بفعل الخيانة الوطنية للشريحة البيروقراطية العليا، انه بعد هدم جدار برلين في 1989، وإعادة قوات الجيش الأحمر إلى روسيا، فإن عشرات الوف الضباط الروس كانوا يقطنون مع عائلاتهم لسنوات طويلة في المانيا وغيرها، ولم يعد لديهم مساكن خاصة لهم في بلدهم، مما أخّر سحبهم إلى روسيا. وقد قامت الغورباتشوفية بالتسوّل بحجّتهم من الدول الغربية للحصول على مساعدات مالية لنقل أولئك الضباط والعسكريين وإعادة اسكانهم في وطنهم الام؛ بكلّ ما انطوت عليه هذه العملية من تحقير لوطنية الشعب الروسي وإذلال للجيش الأحمر.

وفي حين أن هذه الشريحة من البيروقراطية السوفياتية السابقة، الوسطى والدنيا، كانت في السابق تلتصق بالشريحة البيروقراطية السوفياتية العليا، وتلعب الدور الأساسي في التسلط على جماهير الشعب الروسي وقمعه وتضليله واستغلاله، فإنها ــ في ظروف الخيانة الوطنية للشريحة البيروقراطية العليا ــ وجدت نفسها في مهب الريح، وتعرضت للعوز معنويًّا وماديًا، ولم تعد تجد من خيار أمامها للخلاص من العار والنفاذ بريشها من الفقر والعوًز، سوى بالالتصاق بالجماهير الشعبية الروسية ورفع راية الوطنية الروسية، في مواجهة الشريحة البيروقراطية العليا وأسيادها من الرأسماليين الإمبرياليين الغربيين والطغمة اليهودية العليا العالمية. وهذا هو بالتحديد الأساس الطبقي ــ الوطني (القوميّ الروسي ــ الاورثوذوكسي) لما جرت تسميته مجازًا "البوتينية".

ونلخص ما تقدم في ما يلي:

إن ظاهرة "رأسمالية الدولة" في روسيا، لم تتشكّل بفعل قوانين تطوّر النظام الرأسمالي ذاته، بل تشكلت تاريخيًّا انطلاقًا من "الصدمة النوعية" التي مثلتها ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا سنة 1917، والتي كانت تجسيدا للصراع الطبقي، بين الطبقات المالكة الاستغلالية، البورجوازية والاقطاعية، من جهة، والطبقات العاملة والشعبية (العمال والفلاحون والمثقفون، والشعوب المستعمرة)، من الجهة المضادة، في إطار الدولة القيصرية الروسية القديمة، التي كانت الحلقة الاضعف في سلسلة دول النظام الرأسمالي والإمبريالي العالمي.

وبعد استيلاء جماهير العمال والفلاحين والجنود والانتلغينتسيا الثورية على السلطة، قامت "رأسمالية الدولة" الروسية على تأميم الأرض ووسائل الانتاج الصناعية والاستخراجية والبنوك، والاحتكار التام للتجارة الخارجية والقنوات الرئيسية للتجارة الداخلية وجميع شبكات المواصلات والاتّصالات والبنية التحتية للخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم الخ.
وبالرغم من كلّ التشوهات التي فرضتها على النظام السوفياتي الجديد الدكتاتورية والخيانة الوطنية للستالينية والنيوستالينية، المنبثقتان من الشريحة البيروقراطية السوفياتية العليا (النومينكلاتورا)، فإنها لم تستطع القضاء على نظام "رأسمالية الدولة" في روسيا، الذي انبثق عن الثورة الاشتراكية، واستمر لما بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي.

روسياالرأسماليةالغرب

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة