طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

اليمين واليسار والتشكّل السياسي الجديد لأوروبا
29/10/2022

اليمين واليسار والتشكّل السياسي الجديد لأوروبا

حسين حرب

يسجل اليمين المتطرف في أوروبا حضورًا سياسيًا متزايدًا، تعبر عنه الانتخابات النيابية في غير بلد أوروبي، مستخدمًا خطابًا شعبويًا ضد اليسار، خصوصًا من الناحية الايديولوجية، يشبه إلى حد ما خطاب اليسار في السبعينيات حين كان اليمين حاكمًا لأوروبا. ينجح التيار اليميني في اجتذاب كتلة شعبية تبدو ناقمة على السياسات المتبعة في بلادها لا سيما في ظل التردي الاقتصادي، الذي فاقمته تداعيات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والمتوقع أن تكون لها تأثيرات سياسية عميقة داخل القارة الأوروبية.

نشأ تيار اليسار السياسي في أوروبا منذ منتصف القرن التاسع عشر بعد الخلاف الذي ظهر في فرنسا خصوصًا، بين من هو جمهوري وبين من هو ملكي، وقد طُرحت حينها فكرة مهمة جدًا، وهي هل يجوز للملك أن يكون لديه حق الفيتو؟ وقف مؤيدو حق الفيتو للملك إلى يمينه ومعارضو الأمر إلى يساره. هذه المسألة البسيطة لم تكن تحمل ايديولوجيا معينة، وتطورت عبر السنين وعبر التنظير السياسي لها لتصبح مسألة تيارين هما اليسار واليمين. لم تبق المسألة بينهما محصورة بحق الفيتو أو الجمهورية والملكية بل انسحبت على العديد من القضايا والأمور حتى وصلت إلى وقت انقلبت قواعد ومبادئ الأطراف وأصبحت كل جهة مؤلفة من أحزاب مختلفة لا تلتقي إلا بعناوين عامة جدًا، وهي أقرب لكونها حزبًا سياسيًا من كونها تيارًا سياسيًا. حتى أن مصطلح اليسار لم يُتبنَّ من ثورة العمال على سبيل المثال في أواخر القرن التاسع عشر ولم تكن الثورة العمالية تحبذه، مع أن اليسار لاحقًا حمل شعارات العمال للوصول إلى الحكم في فرنسا خصوصًا، وفي القارة الأوروبية عمومًا.

ويمكن القول إن اليسار نشأ كمفهوم ايديولوجي على يد الفوضويين ثم تحول إلى الاشتراكية، علمًا أن الاشتراكية نشأت بدايةً مع الفيلسوف الفرنسي "بيار لوهو" وبعدها ظهرت الفكرة الماركسية.
 
منذ سبعينيات القرن الماضي ظهر تيار اليسار كتيار سياسي جامع للاشتراكيين والشيوعيين وذلك لمصلحة واحدة هي الاطاحة بحكم اليمين، وكانت أعداد الناخبين لليسار كبيرة جدًا من فرنسا إلى ألمانيا وايطاليا، وظهر في ذلك الوقت اليسار المتطرف، الذي استعمل العمليات العسكرية في أوروبا، وهذه الفئات لها جذور فوضوية، وهي نفسها لاحقًا تحولت إلى اليمين المتطرف، مما يعيدنا إلى نقاش حقيقة ما هو اليسار وما هو اليمين؟ خصوصًا أن اليمين المتطرف اليوم يحمل شعارات حملها اليسار في السبعينيات ولا يتحدث عن أي تغيير بالشكل الاقتصادي للحكم الليبرالي الراسمالي الموجود في الدول الأوروبية.

في مطلع الثمانينيات حكم اليسار في أوروبا خصوصًا فرنسا، وبعد ذلك انفصلت الحركة الاشتراكية عن الحركة الشيوعية لتبدأ بينهما معركة السيطرة على الحكم من خلال الأحزاب، وليبدأ اليسار بالتحول من فكرة الدفاع عن العمال وحقوق العمال الى فكرة برجوازية، وانتقل الصراع من تأمين حقوق العمال الى تأمين الحقوق الاجتماعية والانسانية والعدالة الاجتماعية، وبسبب ذلك بدأ اليسار يخسر حقيقة انطلاقته والفكرة الأساسية لقوته وهي العمال. فاليسار مرّ بتقلبات عديدة حتى اليوم، وهي الأساس في تعثره وضعفه في الوقت الحاضر مما ساعد في عودة اليمين الى المنافسة على الحكم. فمن هو اليمين؟

اليمين واليسار والتشكّل السياسي الجديد لأوروبا

اليمين المسمى اليمين المتطرف والأصح تسميته باليمين القومي، لا يختلف في حقيقته فكريًا عن اليسار. يقع الاختلاف بينهما من الناحية الاجتماعية والسياسية فقط، وليس لديه رؤية اقتصادية خاصة أو جديدة، بل هو يتبنى الاقتصاد الحالي الدامج بين الرأسمالية والليبرالية. فعلى سبيل المثال، أهم شعار يستعمله اليمين القومي اليوم هو: "الشعب الفرنسي ضد مئتي عائلة" وهو قد أطلق من قبل مؤسس الشيوعية موريس توريز في اطار مواجهة البرجوازية آنذاك التي كانت تحكم البلاد.

يركز اليمين القومي اليوم على مفهوم السيادة، وهو ما نجح في بريطانيا بشكل خاص، حيث تمكن من اخراج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي حفاظًا على مصالحها وسيادتها. ويُرفع هذا الشعار في العديد من الدول الاوروبية بالاضافة إلى تأكيد الهوية القومية من خلال رفعه شعارات منع المهاجرين وضبطهم وعدم تغيير لون أوروبا الديني من المسيحية إلى الإسلام، علمًا أن اليمين لن يستطع الاستغناء عن حركة المهاجرين إليه بسبب الشيخوخه التي تكتسح أوروبا، فهو بحاجة إلى يد عاملة شابة تبقى محافظة على الاقتصاد الصناعي الأوروبي ولكن سيسعى إلى ضبط هذا الأمر وتشديد عمليات الاختيار وتنويعه لعدم اعطاء قوى مهاجرة أفضلية أو تحولها الى لوبي ضاغط، في مقابل اليسار الذي يرفع شعار المواطنة ليس في حدود جغرافيا البلد بل اعتبار العالم وأوروبا بشكل خاص كقرية صغيرة، بالاضافه الى مناداته بحقوق الانسان. وهذا التضاد أسس لمفاهيم سياسية، وهناك حركات سياسية تستدعي خطابًا عنصريًا من قبل الحركات اليمينية في إطار دفع التهديدات للهوية وللسيادة.

الأزمة الاقتصادية التي تعصف بأوروبا، خصوصًا بعد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ساعدت اليمين القومي على ازدياد شعبيته، وذلك بسبب تركيزه على المناطق البعيدة عن المدن والمناطق الفاصلة بين المدن الكبرى والتي لا تصلها الخدمات بشكل كبير مثل المدن الرئيسية، فهذه المناطق المهملة من قبل الدولة زاد إهمالها بعد الأزمات المتلاحقة أكثر، مما دفع باليمين لسد هذه الفجوة وجذب الشعب نحوه سياسيًا. ومن أسباب ازدياد حضور اليمين هو دعم الاستخبارات الأميركية لليمين في أوروبا في زمن حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وتمويل الأحزاب اليمينية وتدريب الكادر النخبوي، وذلك لسببين، الأول أن أميركا تريد أن يبقى الصراع بين اليسار واليمين وأحزابهما قائمًا لإضعاف الدول، والثاني بسبب وجود قوّتين في أميركا هما قوة "الرجل الأبيض" المتمثلة بالحركة الترامبية، وقوة الأعراق الأخرى المواجهة للرجل الأبيض واستئثاره بالحكم.

لا يطرح اليمين القومي حلولًا للأزمات التي تشهدها أوروبا، بل يذكر المشاكل الموجودة ويعتبر اليسار هو السبب فيها، ويستخدم الشعارات العاطفية في جذب الشعب في اطار تقديمه للحلول، كاطلاق مفهوم السيادة والهوية والقومية، بينما تبقى مقاربته الاقتصادية هي مقاربة يسارية لا تخرج عن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والحركة الأميركية العالمية الاقتصادية، ولا تنفصل عن جوهر الاقتصاد العالمي الذي تديره الدوائر الأميركية.

تمر أوروبا بمرحلة مفصلية بين فترتين، الأولى فترة المواجهة بين تيار اليسار واليمين، والثانية وهي المقبلة بعد اعادة تموضع التيارين واعادة أدلجة الحركات السياسية في أوروبا. بالتالي ربما نحن أمام تسميات جديدة في أوروبا خارج تسميات اليسار واليمين، ولكن يبقى السؤال الأهم: لمن تكون مصلحة هذا التشكل السياسي الجديد في أوروبا؟

فرنساالعمالأوروبااميركاالاتحاد الاوروبيالرأسماليةالإسلامالقوميةالمهاجرين

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة
مصر والأردن وفرنسا: لوقف فوري للعدوان على غزة
مصر والأردن وفرنسا: لوقف فوري للعدوان على غزة
سورية تدين البيان الأميركي البريطاني الفرنسي الألماني ضدها: استمرار للسياسة الهدامة
سورية تدين البيان الأميركي البريطاني الفرنسي الألماني ضدها: استمرار للسياسة الهدامة
بسبب العدوان على غزّة.. نائب فرنسي يدعو إلى طرد سفيرة "إسرائيل"
بسبب العدوان على غزّة.. نائب فرنسي يدعو إلى طرد سفيرة "إسرائيل"
استمرار العدوان الصهيوني على القرى الحدودية.. وباريس تنتظر ردًا من بيروت على مقترحاتها
استمرار العدوان الصهيوني على القرى الحدودية.. وباريس تنتظر ردًا من بيروت على مقترحاتها
شهيدتان في المنصوري.. والمقاومة تواصل عملياتها النوعية في الجنوب
شهيدتان في المنصوري.. والمقاومة تواصل عملياتها النوعية في الجنوب
بعد إغفال الحكومة الزيادة على غلاء المعيشة.. هل ينزل العمّال إلى الشارع؟
بعد إغفال الحكومة الزيادة على غلاء المعيشة.. هل ينزل العمّال إلى الشارع؟
نداء من اتحادات ومنظمات ونقابات عمالية عربية يدعو لفتح معبر رفح
نداء من اتحادات ومنظمات ونقابات عمالية عربية يدعو لفتح معبر رفح
"عمال اليمن" لاتحاد نقابات العمال العالمي: متحدون لنصرة القضية الفلسطينية 
"عمال اليمن" لاتحاد نقابات العمال العالمي: متحدون لنصرة القضية الفلسطينية 
نقابات العمال العرب: لوقف التطبيع وفضح الأكاذيب الصهيونية
نقابات العمال العرب: لوقف التطبيع وفضح الأكاذيب الصهيونية
شحادة: أكثر من 1500 عائلة من عوائل العاملين في بلديات البقاع باتت تحت خط الفقر
شحادة: أكثر من 1500 عائلة من عوائل العاملين في بلديات البقاع باتت تحت خط الفقر
ليفركوزن بطلًا للدوري الألماني وتعثّر لأرسنال وليفربول في إنكلترا
ليفركوزن بطلًا للدوري الألماني وتعثّر لأرسنال وليفربول في إنكلترا
باحث أميركي: الغرب غير قادر على استيعاب نهاية هيمنته
باحث أميركي: الغرب غير قادر على استيعاب نهاية هيمنته
كاتب أميركي: أوروبا أمام خطر الإرهاب بعد هجوم موسكو
كاتب أميركي: أوروبا أمام خطر الإرهاب بعد هجوم موسكو
هلع أميركي ــ أوروبي من مؤشرات انهيار أوكرانيا
هلع أميركي ــ أوروبي من مؤشرات انهيار أوكرانيا
مواجهات نارية في دوري الأبطال الأوروبي
مواجهات نارية في دوري الأبطال الأوروبي
استقالة مسؤولة بالخارجية الأميركية احتجاجًا على دعم "إسرائيل"
استقالة مسؤولة بالخارجية الأميركية احتجاجًا على دعم "إسرائيل"
الهندي: قرار مجلس الأمن يعكس العزلة التي تعيشها "إسرائيل" في كل العالم
الهندي: قرار مجلس الأمن يعكس العزلة التي تعيشها "إسرائيل" في كل العالم
في عاشر أعوام الصمود.. السيد القائد الحوثي يضع شروطًا خمسة للسلام مع السعودية
في عاشر أعوام الصمود.. السيد القائد الحوثي يضع شروطًا خمسة للسلام مع السعودية
أميركا لم تقدم لروسيا معلومات لمنع حدوث هجوم موسكو الإرهابي
أميركا لم تقدم لروسيا معلومات لمنع حدوث هجوم موسكو الإرهابي
طائرة "ميغ-31" تمنع قاذفتين أمريكيتين من انتهاك الحدود الروسية
طائرة "ميغ-31" تمنع قاذفتين أمريكيتين من انتهاك الحدود الروسية
بوريل: "إسرائيل" حوّلت غزّة إلى "مقبرة مفتوحة"
بوريل: "إسرائيل" حوّلت غزّة إلى "مقبرة مفتوحة"
بوريل يدعو لدعم غوتيريش بعد تفعيله المادة 99 الأممية بشأن غزّة
بوريل يدعو لدعم غوتيريش بعد تفعيله المادة 99 الأممية بشأن غزّة
الاتحاد الأوروبي يتراجع عن قرار تعليق المساعدات للفلسطينيين
الاتحاد الأوروبي يتراجع عن قرار تعليق المساعدات للفلسطينيين
بوريل: الاتحاد الأوروبي لا يمكنه تعويض أوكرانيا عن المساعدات التي أوقفتها واشنطن
بوريل: الاتحاد الأوروبي لا يمكنه تعويض أوكرانيا عن المساعدات التي أوقفتها واشنطن
كيف بَنَت أميركا هيمنتها الاقتصادية ضد العدو والصديق؟
كيف بَنَت أميركا هيمنتها الاقتصادية ضد العدو والصديق؟
رأسمالية الكوارث.. الحل الغربي ورؤية السيد
رأسمالية الكوارث.. الحل الغربي ورؤية السيد
هل ستغير الكورونا من طبيعة الرأسمالية؟
هل ستغير الكورونا من طبيعة الرأسمالية؟
 في جريمة مروّعة.. أميركي يقتل طفلًا فلسطينيًا بـ26 طعنة ويجرح والدته
 في جريمة مروّعة.. أميركي يقتل طفلًا فلسطينيًا بـ26 طعنة ويجرح والدته
صوت الوحدة الإسلامية يصدح في منصة "إكس"
صوت الوحدة الإسلامية يصدح في منصة "إكس"
الهند: غضبٌ بعد تصريحات معادية للإسلام داخل البرلمان
الهند: غضبٌ بعد تصريحات معادية للإسلام داخل البرلمان
التمييز ضدّ الطالبات المحجبات في فرنسا يزداد وشكوى ضدّ باريس أمام الأمم المتحدة
التمييز ضدّ الطالبات المحجبات في فرنسا يزداد وشكوى ضدّ باريس أمام الأمم المتحدة
"وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ".. ندوة إلكترونية دفاعًا عن المصحف الشريف
"وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ".. ندوة إلكترونية دفاعًا عن المصحف الشريف
انقاذ مركب سلعاتا.. إليكم عدد الناجين والضحايا
انقاذ مركب سلعاتا.. إليكم عدد الناجين والضحايا