قضايا وكتب

قراءة في كتاب: "زمن اليسار الجديد"
19/03/2024

قراءة في كتاب: "زمن اليسار الجديد"

قراءة في كتاب:
"زمن اليسار الجديد"
المؤلف: فوّاز طرابلسي
بيروت، الطبعة الأولى، كانون الأول (ديسمبر) 2023، عدد الصفحات 351
الناشر: رياض الريس للكتب والنشر
مراجعة: شوكت اشتي
 - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

التجربة الحزبية في لبنان غنيّة جدًا، ممّا يجعل قراءتها، من حيث المبدأ، على قدر كبير من الأهمية والضرورة. ومهما كانت هذه القراءة "ذاتوية" و"شخصية"، فإنها تُلقي الضوء على العديد من جوانب هذه التجربة، وتكشف خفاياها، وتُبيّن خلفية مواقفها، وطبيعة خياراتها الفكرية والسياسة، كما توضّح خلافاتها الداخلية، واصطفافات المحازبين وأبعادها، خاصة وأن الأحزاب، عادة، لا تعتمد تقويم تجاربها، أو توضّح خبايا قضاياها الداخلية، أو تُصّرح عن العوامل المؤثرة على المسارات التي اتّخذتها.

من هنا يمكن النظر إلى هذا الكتاب، موضوع القراءة، ضمن هذه الرؤية "الإيجابية"، لقراءة التجربة الحزبية السياسية في لبنان، لسببين على الأقل: الأول، لأن الكتاب يتابع ظاهرة "اليسار الجديد" في لبنان، المميزة بأفكارها، و"أحلامها"، والتي لعبت في لحظتها السياسية دورًا "رائدًا" في القضايا التي طرحتها والنقاشات التي أثارتها والمواقف التي اتّخذتها، والثاني، لأن المؤلف، كان ولا زال، أحد رموز "اليسار الجديد"، لبنانيًّا وعربيًّا، وهو يكتب بالتالي عن تجربة كان من مؤسسيها وأبرز روادها، الأمر الذي يُعطي لهذه الكتاب، مهما كان الموقف من الظاهرة ومن المؤلف، موقعًا مهمًا في المراجعة السياسية من جهة، ويفتح أمام من عاش تلك المرحلة، سواء داخل اليسار "الجديد"، أو "القديم"، آفاقًا للنقاش و"المعرفة" من جهة ثانية، ويضع أمام الأجيال "الجديدة" تجربة "غنية" تستحق كشف أغوارها، والاطلاع على جزء مهم من تاريخها.

طبيعة النص

يُبيّن المؤلف، بدءًا من الأسطر الأولى، طبيعة الكتاب، باختصار ووضوح. فهو من جهة، "شهادة" عن تجربته في تنظيمين من تنظيمات "اليسار الجديد"، هما: "لبنان الاشتراكي" و"منظمة العمل الشيوعي في لبنان"، وهو من جهة ثانية، تتمة لكتاب كان قد أصدره المؤلف عام 1994، بعنوان" "صورة الفتى بالأحمر". لهذا فإن العنوان الرئيس للكتاب، بعد الغلاف، يذكر "صورة الفتى بالأحمر"، وهو من جهة ثالثة، نتيجة مباشرة لحوار، تم تسجيله مع "مريم يونس" التي كانت تُحضّر لنيل أطروحة دكتوراه.

غير أن هذا الحوار لم ينحصر في حدود السؤال والجواب فقط، بل تخطاه إلى أن يكون مدخلًا لتعميق الإجابة، لاحقًا، وتوسيعها، الأمر الذي أنتج "شهادة" المؤلف حول تجربته السياسية – الحزبية، وبينّت رؤاه ومساهماته في مسار تبلور "اليسار الجديد"، بأفكاره وهمومه، وطروحاته، وخلافاته، ومحاولات تمايزه، ممّا جعل الإجابة عن الأسئلة، وتأصيلها وتعميقها، هي بحد ذاتها، مراجعة توثيقية، تحليلية، نقدية، لها طابعها الخاص/الذاتي، بدءًا من المفصل الأساس المتمثل في نكسة الخامس من حزيران 1967، إلى الحرب الأهلية عام 1975، إلى جملة الأفكار والتصورات والطروحات التي حاول اليسار التمايز من خلالها عن السائد "حزبيًا"، بين "اليساريين". غير أن "ذاتوية" "الشهادة" في عرض التجربة، لم تُلغِ الواقع، أو تُصادره. بالمقابل فإن "الواقع" الموضوعي لم يُهمّش "الذات"، أو يحجبها، وفي الحالتين كان النص، موضوع المراجعة، وثيقة إضافية في قراءة تجربة "اليسار الجديد"، قد تفتح الآفاق أمام نقاشات تبدو ضرورية، للاستفادة من التجارب الحزبية، على اختلاف تنوعها، ولرسم معالم "جديدة" لمستقبل واعد.

بدايات الفتى بالأحمر

كانت طفولة المؤلف "طبيعية" جدًا ومريحة بوضوح. عاش في أسرة وضعها المادي جيد، ضمن عائلة متواجدة في أكثر من منطقة في لبنان، ولها امتدادات في أكثر من دولة. لهذا توفر له تعليم خاص، و"مميز"، سواء في مرحلة ما قبل الجامعة، حيث تعلم في مدرسة "الفرير"، ثمّ مدرسة "برمانا العالية"، التابعة لإحدى "الشيع" البروتستانتية، أو في التعليم الجامعي في الجامعة الأميركية في لبنان، وجامعات في بريطانيا وفرنسا.
تركت مدرسة "برمانا العالية"، الأثر "الإيجابي" في نشأته ونظرته للعالم. ويمكن القول، إن طبيعة المدرسة من جهة، ونوعية الأساتذة، وتنوع زملاء الدراسة، والأحداث التي مرت وفرت الأرضية الأولية لتنمية شخصية مندفعة و"طموحة". فقد مارس، وزملاءه الذين يذكرهم، ويتذكر العديد منهم، الكثير من النشاطات، الفكرية، والثقافية، والعلمية...، ويروي مواقف وأعمالًا، قاموا بها داخل المدرسة وخارجها، لدرجة اضطرّت الإدارة إلى طرده، أكثر من مرة، بسبب الإضرابات التي كانت تواكب الأحداث السياسية في تلك المرحلة.

إن العدوان الثلاثي على مصر، يمكن اعتباره حدثًا تأسيسيًّا في وعيه السياسي، وثورة الجزائر، وتأييده، والزملاء، لثورة 1958، الأمر الذي جعل البعض في بلدة برمانا، يتّهمونهم بأنهم يُخبئون السلاح والمسلحين. وتوسعت مداركه السياسية والفكرية، وبدأ حواره المبكر مع كوادر "حركة القوميّين العرب".

يبدو أن هذا التوجّه "اليساري"، غير التقليدي، لم يكن غريبًا، بإطاره العام، عن الأسرة، فوالده كان مُعجبًا بكمال جنبلاط، وعضوًا "غير ناشط" في صفوف "الحزب التقدمي الاشتراكي". كما أن طبيعة عمل الوالد، الذي استقر بعد مسار طويل في استثمار فندق "سميراميس" في بحمدون الضيعة، وصداقاته الواسعة، و"حزبية" العائلة المتعددة المهن والانتماءات الاجتماعية، رغم تماسكها المتراخي وعصبها الضعيف، فإنها في بلدته مشغرة، "حليفة الحزب الشيوعي"، وبعض الأقارب في الحزب. كلّ هذا، وغيره، ساهم في بلورة وعيه السياسي، وتوسيع آفاقه، وتحديد توجهاته، في رفض الظلم، وكره الاستبداد، ممّا قاده إلى "التفكّر في تلك الحلقة الخطيرة بين الحرية والمساواة". وعليه، هل يمكن اعتبار هذه المقولة "معيارًا"، أو مقياسًا، يوجه خيارات المؤلف السياسية؟

الالتزام بحزب البعث

انتسب المؤلف إلى صفوف "حزب البعث" في مدينة "مانشستر" في بريطانيا، وبالتحديد إلى جناح ماركسي في الحزب. فالحزب كان حضوره وازنًا في صفوف الطلاب في "لندن"، رغم الطابع اليميني للقيادة في "لندن"، وتركز نشاطه في العمل بين العمال اليمنيين، دون أن يحول ذلك، أو يُقيد نشاطاته في التضامن مع الثورة الجزائرية، وقضية فلسطين. بل إنهما أخذا القسم الأكبر من وقته. لكن هنا يبدو التساؤل: إلى أي حد كان "البعث" موزعًا "تنظيميًا" على أساس "الأجنحة"؟ بالتأكيد، كان يوجد ميول لدى العديد من الأعضاء بالاتّجاه الماركسي، لكن هل وصلت الأمور إلى وجود "أجنحة" و"تكتلات"؟ وهل كان يمكن للقيادة السماح باستمرار هذه التشكيلات؟ إن التجارب المعروفة، عن "البعث" وغيره، كانت خارج هذا المنحى "التنظيمي الديمقراطي". من هنا سرعان ما يترك العضو "الماركسي"، أو "الناقد"، أو المعترض صفوف الحزب، أو سرعان ما تقوم القيادة، وبكل سرعة، بفصله، أو تجميده. وهذا ما حدث مع المؤلف نفسه، كما سيأتي في سياق المراجعة.

إن اختياره "حزب البعث"، بديلًا عن "حركة القوميّين العرب"، وعن الأحزاب الماركسية، ناتج عن الفكرة الاشتراكية، إذا جاز التعبير. فحزب "البعث" تبنى الاشتراكية في دعوته، وشدّد على المضمون الاقتصادي والاجتماعي للفكرة القوميّة. أما الأحزاب الشيوعية، فكانت على خلاف "الناصرية" و"البعث"، لجهة تركيزها في التحليل السياسي على “مرحلتي الثورة: ثورة وطنية وديمقراطية، وأحيانًا بقيادة البرجوازية، الأمر الذي يفتح المجال أمام الانتقال إلى الاشتراكية". لكن التساؤل هنا، يبدو أيضًا "مشروعًا"، لجهة المسار الذي يمكن "للبعث" اعتماده لبلوغ الاشتراكية، وهل الاكتفاء بالشعار كافيًا؟ وهل كانت فكرة "الثورتين" واضحة بالنسبة "للشيوعيين" في بلادنا؟ أم أن "قيادة البرجوازية" كانت استفزازية؟ ومبرر هذه التساؤلات، الأولية وغيرها، أن المؤلف اختار التوجّه الماركسي، وكان من أبرز رموزه، فهل عالجت التنظيمات "الماركسية" التي ساهم المؤلف في تشكيلها، هذه المسألة؟ وكيف؟ أم أن النشاط السياسي همّشها وبقيت شعارًا؟

أن مسار عضويته في "البعث"، بعد عودته إلى بيروت، والتحاقه بالجامعة الأميركية "مثيرة" و"مميزة". فقد سيطرت الخلافات والنزعات داخل "البعث"، وأخذت مداها، الأمر الذي أدى إلى انشقاق معظم أعضاء القيادة في لبنان، لوقوفهم إلى جانب أكرم الحوراني المناوئ لـ"جناح" ميشال عفلق وصلاح البيطار. من هنا تم تجميد عضويته، نتيجة علاقته بهؤلاء. وبعد انتهاء مدة عقوبته انتُخب أمين سر الفرقة الحزبية في الجامعة الأميركية. وقد أعقب هذه "المحطة"، ما يمكن اعتباره نوعًا من "التمايز" و"الاستغراب" في تجربته الحزبية. وهذا يعود بالدرجة الأولى، إلى "تمايز" المؤلف و"اختلافه"، و"عمق" تجربته، فكريًا وسياسيًا ونضاليًا... كيف؟ ولماذا؟

اليساري الناقد مفصولًا

إن كتاباته في جريدة "الكفاح العربي"، المؤيدة للحزب، لفتت نظر "الرفاق" في دمشق، المتأثرين بالفكر الماركسي. لذلك تم اختياره، من "كتلة اليسار في دمشق"، ليمثلها في اللجنة الثلاثية لصياغة مقررات المؤتمر السادس "للبعث"، الذي قدم فيه ياسين الحافظ، دراسة نقدية قاسية جدًا، من موقع "يساري"، لفكر "البعث"، وبالأخص "لفكر" ميشال عفلق، وتجربته القيادية.
إن اللجنة الثلاثية المقترحة، كانت تضم، إلى جانب المؤلف، ميشال عفلق، وجبران مجدلاني. من هنا كانت العضوية مفاجئة وصادمة. فالمؤلف، لم يكن، أساسًا، مشاركًا في المؤتمر، وهذا بحد ذاته مسألة مُثيرة للتساؤل والاستغراب، فهو طالب في الجامعة الأميركية، وله من العمر (25) سنة، مقارنة بقائد الحزب التاريخي، وغيره من القيادات... والنص لم يحسم مبرر هذا الزج باسمه في مثل هذه اللجنة الخاصة والمهمّة. فهل كان ترشيحه، من قبيل "الاستهتار" باللجنة، وبالأستاذ ميشال عفلق بالتحديد؟

في الأحوال كافة فإن عفلق لم يعترف باللجنة، ورفض مقابلة الطالب الجامعي "رفيقه" في اللجنة، أي أن اللجنة لم تجتمع. غير أن عفلق حسم المسألة من خلال "اعتكافه" في اللاذقية، وأعاد صياغة المقررات الصادرة عن المؤتمر السادس بنفسه. لذلك جاءت مغايرة، ومختلفة. لكن مجدلاني اقترح على المؤلف، كنوع من التسوية، أن يكتب مقدمة الوثيقة، وهذا ما كان، حيث عنونها بـ "النظرية والممارسة".

وفي السياق "الناقد" للحزب، كان قد التقى، مُصادفة، بمجموعة من الرفاق، في حيّ النبعة، وأصدروا وثيقة بعنوان "رسالة إلى الرفاق"، أدانت سياسات الحزب الحاكم في العراق، وقمعه للشيوعيين، وحربه على الأكراد.
من هنا قامت قيادة الحزب في لبنان بفصله، رغم أنه كان مُنتخبًا كعضو في المؤتمر السابع للحزب. فتضامن معه، وانفصل عدد من الرفاق، من فرقتي الحزب في الجامعة الأميركية والنبعة، والذين سينضم قسم منهم إلى مجموعة "لبنان الاشتراكي"، وستبدأ مسيرة مختلفة، تكون الماركسية أساسها.

بدايات "لبنان الاشتراكي"

إن مسار الأحداث المتلاحقة، التي أعقبت فصل المؤلف من حزب "البعث"، كشفت، من حيث المبدأ، مجموعة من المسائل، المترابطة والمتداخلة، التي تُبيّن طبيعة العمل الذي وجّه البدايات الأولى، لبلورة "لبنان الاشتراكي"، لعلّ  الأبرز منها هو الآتي:

 - اندفاعة "شبابية"، تسعى "بقوة" ليكون لها الدور الفاعل في مسار الأحداث السياسية. من هنا نلاحظ "غزارة" الأسماء الواردة، في مسار هذا الاتّجاه.

 - قلق "فكري"، فرض السعي الحثيث "للرسو" على أرضية "معرفية"/ عقائدية متينة، تكون أكثر مقدرة على "قراءة" الواقع و"تحليله".

 - التنظيم السياسي، التفكير الجدي بضرورة وجود إطار تنظيمي، للنشاط والعمل السياسي.

 - الإعلام، العمل المبكر لإيجاد وسيلة إعلامية، فكرية، سياسية، تكون المدخل/المنبر لتوضيح "الفكرة"، وتحديد المسار، وتعبئة الملتزمين، واستقطاب المناصرين. لهذا بدأت المجموعة بإصدار نشرة "لبنان الاشتراكي" في أيلول 1966.

 - الاستقرار المادي، يبدو أن الوضع المادي – الاجتماعي، المريح والميسور، لأغلب "الكوادر" الأساسية، ساهم في توفير المستلزمات الأولية، للانطلاق وتسهيل العمل، دون "خوف" على "المستقبل".

 - القاعدة المحرومة، لقد انجذب هؤلاء الشباب إلى مجموعة "النبعة"، والمجموعات الكادحة والمحرومة، لتكون الدعوة السياسية - "الفكرية"، أكثر تناغمًا مع الواقع. وهذا المنحى حكم مسار عمل المجموعة لاحقًا.

 - بعثيون سابقون، يُلاحظ أن عددًا، ليس بقليل، من المجموعة الأولى التي تحركت باتّجاه " "لبنان الاشتراكي" كانت منتسبة في السابق لـ"حزب البعث".

 - تأثير الشخص، يبدو أن حضور وضّاح شرارة، وفاعليته، ومدى تأثيره، كان واضحًا منذ البدايات الأولى. وهذه "الخصيصة" ستبقى مُلازمة، بشكل أو بآخر، لمسار العمل التنظيمي والثقافي، للمجموعة وما أعقبها. دون أن يعني هذا التقليل من دور الآخرين.

 - التمايز، ستبقى فكرة التمايز، الشاغل والمحرك، من حيث المبدأ، لمسارات عمل المجموعة، السياسي والتنظيمي. حيث ركزت فكرة التمايز على اتّجاهين سياسيين، على الأقل، هما، حزبا "البعث" و"الشيوعي". وإذا كان "البعث" قد حُسمت العلاقة "السلبية" معه، مبكرًا، خاصة وأن المجموعة اتّخذت منحى فكريًّا وسياسيًا مختلفًا، ومتناقضًا، غير أن ضرورة التمايز عن "الشيوعي" بقيت هاجسًا حاضرًا و"متجذرًا" و"قويًا"، كون "الشيوعي" من "البيئة الفكرية" نفسها، الأمر الذي يجعل التمايز عنه، من مبررات الوجود، بل لتبرير هذا الوجود وشرعنته.
هذه المسائل، وغيرها، تساعد، وإلى حد كبير، في تبيان المسارات التي اتّخذتها المجموعة، وأثرت على العديد من خياراتها، في مسار التأسيس.

الاسم والتأسيس

دون الولوج في التفاصيل المهمّة، وذكر الأسماء العديدة، فإن فكرة قيام التنظيم السياسي "لبنان الاشتراكي"، اتّخذت، عند المجموعة، بداية منحى آخر. حيث اقترح وضاح شرارة فكرة "النضال" أو العمل من داخل صفوف "الحزب الشيوعي"، وبالتحديد من ضمن أحد تياراته المعروفة بـ"التيار اللينيني". وهذا ما قام به، الأمر الذي عطّل اجتماعات "النواة التأسيسية". لكن هذه التجربة، التي خاضها وضّاح، لم تدم أكثر من عدة أشهر. لذلك عاد إلى المجموعة الأولى، (دون أن يذكر المؤلف أسباب هذه العودة، كونه لم يعد يتذكرها). انطلاقًا من هنا "انتظم" العمل، مُجددًا.

تم اختيار اسم "لبنان الاشتراكي"، كإطار لعمل المجموعة الأولى، بناء على اقتراح وضّاح، على الأرجح. ورغم أن هذا الاسم، يتضمن التركيز "الكامل" على فكرة الاشتراكية، غير أنه سيجعله مُنطلقًا لمجريات الأحداث اللاحقة من جهة، ومجالًا للتمايز عن التيار القوميّ العربي (البعث، حركة القوميّين العرب، الناصرية) من جهة ثانية، وعن "الشيوعي" الذي كان لا يزال قابعًا ومُتشبثًا بمقولة "الرأسمالية الوطنية.." من جهة ثالثة.
لكن من الضروري الإشارة، إلى أن الاقتصار في الاسم/التسمية على "لبنان الاشتراكي"، كان يبدو، من حيث المبدأ، ردة فعل على "الشطحات القوميّة" السابقة لغالبية أعضاء المجموعة من جهة، وهي قد تكون نوعًا من التصميم على التفكير والعمل في لبنان فقط من جهة ثانية.

الاسم ومأزقه

إن التبريرات المقدمة، من قبل المجموعة، لتسويغ التسمية/الاسم، حملت مأزقه أولًا، وتركت بصماتها السلبية على عمل المجموعة لاحقًا، و"تفاعلها" مع القوى الأخرى ثانيًّا. لأن التسمية/الاسم، تضمنت أمرًا من اثنين، أو الأمرين التاليين، معًا. الأول، تضمن الاسم نوعًا من المبالغة، أو الادّعاء الفكري غبر المبرر. بمعنى آخر، كيف تصورت المجموعة؟ وهي على قدر رفيع من الثقافة السياسية، أن يكون لبنان المعروف "دولة اشتراكية"؟ ما هي المقومات ليكون لبنان "دولة اشتراكية"؟ الثاني، "تضخم إيديولوجي" عند المجموعة، ساهم في التعالي على الواقع والانقطاع عنه. بمعنى آخر إن الاندفاعة الفكرية شكلت للمجموعة تصورات، قد تكون "مُتضخمة" حول إمكانية الفعل والتأثير، مما أدى ليساهم هذا المنحى الفكري المُغالي، في القطع بين الفكرة والممارسة. لكنّه بالمقابل أدى إلى "انتاج فكري"، ليس بقليل، برأي المؤلف، في أقل من خمس سنوات من نشاط "لبنان الاشتراكي". غير أن هذا "الانتاج الفكري" لم يتناول، بجدية، "التركيب الطبقي للمجتمع اللبناني". وهذا ما أبقى "اقتصادوية" الحزب "الشيوعي"، مُحركًا للتمايز عنه.

وعليه فقد حظي الجانب الفكري، باهتمام خاص ومميز سواء بالعودة إلى "التراث الماركسي"، أو في البحث في المراجع "الجديدة"، في تلك الحقبة، لـ "تعريب الماركسىية". لكن ما المقصود هنا بـ"تعريب الماركسية"؟ وهل انحصر "التعريب" في ترجمة المراجع إلى اللغة العربية؟ أم تخطتها إلى استنباط أنماط "جديدة" للعمل السياسي والتنظيمي؟ أم في تقليد التجربة البلشفية؟ وإلى أي حد نجحت المجموعة في أي من هذه المسائل؟ هذه التساؤلات، وغيرها، تبقى مطروحة للنقاش. لكن من الضروري لفت النظر إلى أن "النشرة" السرّية التي تم إصدارها دوريًا، كانت "الواسطة للتثقيف" وكسب الأنصار والأعضاء، بهدف بناء الحزب "الماركسي اللينيني الثوري". وهنا ايضًا، كان لوضّاح شراره، موقعه المميز، كما كان للمؤلف دوره الفاعل في هذا المجال. لكن هذا الشغل الشاغل، والمميز، والجدير بـ"التقدير" والثناء، في أقل من خمس سنوات، من العمل و"الانتاج" الفكري تغافل عنه البعض.

المسار التنظيمي

اجتهدت المجموعة في كسب الأعضاء والأنصار، سواء من خلال الاتّصالات الفردية، أو النقاشات المطولة، أو من خلال النشرات... وعند نضج الشخص، كان يُرشحه عضوان عاملان للانضمام إلى حلقة يُشرف عليها أحد الأعضاء العاملين، وعند بلوغ الحلقة، أو أحد أفرادها الأهلية، يتم ترفيعه/ترفيعها إلى العضوية العاملة في خلية أخرى. ويبدو أن هذا المسار كان سائدًا في الأحزاب، عامة، من عروبية، أو ماركسية في تلك المرحلة.
 أما على المستوى القيادي، فكان يتم التنسيق بين الخلايا، بواسطة مندوبين عن كلّ خلية، وهؤلاء يشكلون "هيئة تنسيق". من هنا يمكن الإشارة إلى أن الإطار التنظيمي، لم يكن مركزيًا، فالهيئة محصور عملها بـ"التنسيق"، كما يدل اسمها، وليست سلطة على الخلايا. لذلك فعملها يقوم على مبدأ الإجماع أو النقض. هذا الوضع التنظيمي، الذي اعتمده "لبنان الاشتراكي"، سيكون من أسباب الانشقاق بعد تشكيل "منظمة العمل الشيوعي".

امتدت خلايا المجموعة إلى صيدا وصور وزحلة وطرابلس. كما كان لهم صلة بالثانويين، و"اتحاد الطلاب الجامعيين"، و"جبهة القوى الطلابية"، التي تأسست العام 1964، والقطاع التعليمي، مع اتصالات في الجامعة الأميركية. وفي المجال التنظيمي، يأتي المؤلف على ذكر العديد من الأسماء التي لعبت دورًا في تلك الفترة، وما أعقبها. ويبدو أن هذا المسار التنظيمي كان له "فاعلية"، سياسية ونضالية وفكرية... وقد تجسدت هذه "الفاعلية"، سواء في مواضيع نشرة "لبنان الاشتراكي، أو في بلورة التمايز عن "الشيوعي"، الذي "حمل قدرًا من المبالغة والادّعاء والتشاوف النظري"، فكان الموقف، على سبيل المثال، من معركة الانتخابات النيابية اللبنانية العام 1968، أحد مظاهر "الاختلاف"، حيث دعا "الشيوعي" للمشاركة، أو في نقد قانون الانتخابات، بحد ذاته، وإظهار أن البرلمان ليس مركز الثقل في النظام.

من هنا حدّد المؤلف، في الفصل الثالث، مجموعة من الملاحظات والمراجعات، المتضمنة نوعًا من "النقد الذاتي"، خاصة لجهة ضرورة وجود "مرحلة وطنية ديمقراطية"، تُمهد الطريق للاشتراكية. أي أن المجموعة عادت إلى ما كانت تنتقد "الشيوعي" عليه، أو لجهة إشكالية العلاقة بين الداخل والخارج للتغيير، أو لجهة نقد الشهابية في بعض جوانبها...

الهزيمة والتداعيات

كان لهزيمة الخامس من حزيران العام 1967، ارتدادات كبيرة على المستويات كافة. على المستوى الطلابي داخل الجامعة الأميركية، مثلًا، احتلال الحرم الجامعي، ومواكبة الطلاب، من داخل الحرم الجامعي، التظاهرة الشعبية ضدّ السفارة الأميركية. حيث أعد فؤاد السنيورة، وعصام عرقجي "قنابل مولوتوف" للتصويب على نوافذ المبنى. وأصدرت المجموعة بيانًا، لأول مرة باسم "اشتراكيون لبنانيون"، هاجموا فيه الجيش اللبناني، الأمر الذي أدى إلى اعتقال أحد الرفاق من مجموعة "النبعة"، مما أدى إلى استدعاء المؤلف للتحقيق، غير أن تدخل الوساطة حال دون اعتقاله. لذلك طلب "التنظيم" منه الانكفاء وعدم النشاط فترة من الوقت، حماية للمجموعة.

وضعت الهزيمة أمام المجموعة، تحديات فكرية ونضالية، فكانت المقالات، غنية ومتعددة، تسعى للتوفيق بين المعركة الوطنية والاجتماعية، والعمل لبناء الحزب "الماركسي اللينيني"، وشعار "التنظيم الثوري الموسع في الداخل"، وخيار الحرب الشعبية، ودعم الفدائيين، وتأكيد أولوية "ضرب الحكم الرجعي في الداخل، لأنه عائق أمام العمل الفدائي"، والغوص في "العمل التنظيري"، لما يمكن حدوثه على مستوى الحكم، ودور البرجوازية، والحرب الأهلية والطائفية، ومحاولة التمييز بينها...

ومن التداعيات، على المستوى السياسي الشعبي العام والعربي، كانت التظاهرات، وحالة الغضب التي عمت البلد كله، واستقالة عبد الناصر، وبداية "العصر السعودي"، المُدجج بالبترودولارات، وبدء الهجوم على حركة التحرر الوطني العربية، والأنظمة الرأسمالية الوطنية، باسم الإسلام، والتقاطع بين الأحزاب الشيوعية والحركات القوميّة، وبداية انشقاق "حركة القوميّين العرب" ابتداء من العام 1968، واستقلال اليمن الجنوبي، ومسار الانشقاقات في صفوف المقاومة باتّجاهات يسارية جديدة، والمراجعة في الحركة الشيوعية العربية، التي توجت بالمؤتمر الثاني للحزب "الشيوعي اللبناني" العام 1968، واستقلاله عن "الشيوعي السوري" وهيمنة خالد بكداش، وقيام "الحركة الاشتراكية الثورية" واحتلالها "بنك أوف أميركا" في بيروت...

ومن المفارقات الغريبة أثر الهزيمة، أن مسار الانشقاقات اتّخذ منحى ماركسيًا، بدلًا من احتدام الشعور القوميّ والالتجاء إليه. لكن هذا الشعور بقي "قابعًا"، حيث تسرب إلى فكر اليسار، الجديد والقديم، بزخم أكبر، كما يُشير المؤلف. لكن هذه النتيجة تدفع المتابع، بالمقابل، للتساؤل عن "طبيعة" مسار الانتقال إلى الماركسية، وعمقها. بمعنى آخر، هل حصل القطع المنهجي حقيقة؟ أم بقي شكليًا وظرفيًا؟
لقد اتّخذ "النقد الطبقوي للهزيمة"، كما يسميه المؤلف، اتّجاهين: الأول، ركز على التأخر الثقافي، أي النقد الثقافوي، ممّا يعني أن الهزيمة ناتجة عن عدو داخلي، علينا مواجهته بثورة فكرية وثقافية شاملة، ومثّله، صادق جلال العظم، وأدونيس. الثاني، ركز على التأخر المجتمعي، مثّله ياسين الحافظ الذي تعامل مع الهزيمة على مستويات ثلاثة: طبقي (تحميل البرجوازية الصغيرة المسؤولية)، عسكري (الدعود لإعادة بناء الجيوش العربية، ونقد عسكرة القضية الفلسطينية، مستعينًا بالتجربة الفيتنامية، ومجتمعي (أبرز مظاهره تخلف الوعي)، ليصل المؤلف إلى المقارنة بين هذه المقاربات للهزيمة.

بناء عليه، يُحدّد المؤلف موقفه المتمثل في أمرين على الأقل، الأول، عدم الانجرار إلى مقولة إن المقاومة الفلسطينية رافعة الثورات العربية، لأن هذا يتطلب بناء القدرات من خلال "كتلة تاريخية". الثاني، نقد القصور العربي، سواء في معرفة العدو، أو في الاستخفاف به، أو في تضخيم قوته، وانتظار اللحظة الخلاصية.

اليسار الأوروبي وفلسطين

في سياق النضال السياسي في بريطانيا، يُشير المؤلف إلى مدى الصعوبات التي كانوا يعانون منها "لخرق اليسار الأوروبي، ولو كان جديده أو أقصاه، عندما يتعلق الأمر باليهود والصهيونية ودولة إسرائيل". ويُقدم نموذجًا عن دراسة كتبها العام 1969، في مجلة "اليسار الجديد"، إحدى أبرز مجلات اليسار البريطاني، وما أثارته من "أزمة" داخل أسرة التحرير، بحجة غير موضوعية. غير أن المجلة، "بحلتها الجديدة"، وبعد أكثر من ثلاثة عقود، تكتب افتتاحية، في عدد تموز 2001، انتقادية ضدّ الصهيونية، والاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزّة، تبدأ بالعبارة التالية: "الصراع على فلسطين هو صراع... قومي"، ولم يعثر على أي "أثر للطبقات" ولا "للصراعات الطبقية في النزاع العربي – الإسرائيلي". وهو ما كانوا قد اعترضوا عليه العام 1969، دون أن تُشير هذه الافتتاحية، إلى ما نُشر سابقًا، كما هي العادة في تقديم كلّ ما هو جديد، الأمر الذي يدفع للتساؤل، من موقع المناقشة، هل "تطورت" رؤية "اليسار العربي" عامة، في مقاربة القضية الفلسطينية؟ وإلى أي مدى سيكون لحرب الإبادة الجماعية التي يشنها العدوّ الصهيوني، وبريطانيا، وغيرها من الدول "الديمقراطية"، أثره في إعادة تصويب مقاربة هذا اليسار لقضية فلسطين؟

مواقع نضالية

بقي الهم النضالي، الشُغل الشاغل للمؤلف، رغم التسجيل في إحدى الجامعات في لندن، لإنجاز اطروحة الدكتوراه. فتابع أحداث أيار 1968، وشارك في المظاهرات واللقاءات... دعمًا لفلسطين، وفيتنام، وساهم في تعزيز نواة تنظيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، في باريس، وتعرف على العديد من المناضلين واليساريين والشيوعيين...

من هنا يعرض العديد من الأحداث عن "ثورة ظفار"، واليمن، وحركة التحرر في الجزيرة العربية والخليج العربي، وزيارته لجمهورية اليمن الشعبية، بعد تسلم اليسار الحكم العام 1969، ومقابلاته في اليمن وظفار، لإنجاز كتاب عن الثورات في الخليج، وزيارته للأردن، عشية الانفجار الكبير في أيلول 1970.

وعليه فإن التحصيل الدراسي تأخر كثيرًا، وكانت الأرجحية للعمل السياسي، إلى أن وقعت القطيعة مع أستاذه المشرف، المنحاز "بوقاحة لإسرائيل". لذلك قرر العودة إلى بيروت، لاستكمال الدراسة، خاصة وأن الاندماج بين "لبنان الاشتراكي" و"منظمة الاشتراكيين اللبنانيين" قد حصل، الأمر الذي أثر على الدراسة، كونه تفرغ للعمل الحزبي، لأكثر من 15 سنة. وهذا ما يقودنا إلى مسار الاندماج وما أعقبه.

"منظمة العمل الشيوعي"

ولادة المنظمة، التي جاءت نتيجة لاندماج "لبنان الاشتراكي" و"الاشتراكيين اللبنانيين"، يمكن اعتبارها، في إطار المناقشة، حدثًا سياسيًا مهمًا. لأن السائد في الحياة السياسية عامة، والحزبية خاصة، التفرقة والتباعد، إذا لم نقل الانقسام. وهذا سرعان ما ستؤول إليه المنظمة، ممّا قد يُرجح فكرة الانقسام، على فكرة التلاقي والاتحاد.

كان للاندماج أسباب متعددة، قد يكون من أبرزها على المستوى الوطني/القوميّ، نكسة الخامس من حزيران 1967، وارتداداتها اللبنانية والعربية. إضافة إلى الأسباب "الذاتوية" عند التنظيمين. أي أن الاندماج يُحقق لكل منهما ما كان "ينقصه" و"يحتاجه". خاصة وأن التنظيمين يتقاطعان حول فكرة التمايز عن "الحزب الشيوعي"، والرغبة في الوصول إلى الفئات الاجتماعية، وتأكيد الصفة الماركسية و"مضامينها"... وقد "جذب" الاندماج العديد من الأشخاص، ومن مناطق متعددة من لبنان، الأمر الذي يدفع للقول إن التجربة، "نظريًا"، كان يُفترض أن تكون "واعدة"، لما تضمنته من غنى، وطموحات، وأحلام، وطاقات... لكن إلى أي حد كان هذا التوقع ممكنا؟

الأزمة والافتراق

العديد من المعطيات التي تضمنها الكتاب، موضوع المراجعة، عن "منظمة العمل الشيوعي" كانت معروفة، من حيث المبدأ. غير أن ذكرها من قِبل أحد رموز المنظمة له أهميته، أولًا، لأنه يؤكد المعروف. ثانيًا، لأنه يكشف الجوانب المخفية وتسلسلها وأبعادها. ثالثًا، لأنه قد يساعد في التأسيس لمراجعة التجارب الحزبية في لبنان. رابعًا، لأنه يُبيّن نقاط التقاطع بين هذه التجارب، رغم حدة التباعد بينها.

انطلاقًا من هذه الرؤية، فإن الاندماج سرعان ما واجهته خلافات "داخلية"، كشفتها الممارسة السياسية. وهذا ما عبر عنه المؤلف في "الأزمة التنظيمية"، والتي يمكن التعبير عنها، بأزمة الهوية، لجهة تحديد أولوية العمل: هل هو وطني؟ أم اجتماعي؟ وأزمة النموّ وحدود العمل: هل يتم الاكتفاء بالتنظيم القاعدي، أم الفعل يطال "الأطر النقابية الجامعة" بحد ذاتها؟ وما هي طبيعة الإجراءات والقواعد التنظيمية التي تحكم المنظمة داخليًا؟
هذه الأزمة التي بدأت تتفاقم، لم يكن لها "مرجعية"، فكرية، أو نظرية، أو برنامجية، وليس لها نظام داخلي لحل النزاعات المتفاقمة، والوصول إلى تسويات، الأمر الذي أدى إلى نشوء "آلية فردية للحل، والتسوية"، تمثلت في وضّاح شرارة عن "لبنان الاشتراكي" ومحسن إبراهيم عن "منظمة الاشتراكيين اللبنانيين"، لدرجة بلغ اليأس بالأخير، واقترح على محمد كشلي تسليم المنظمة للجيل الجديد والتنحي.

من هنا أخذ وضّاح المبادرة بإصدار "وثيقة نحو مؤتمر عُيّن موعد سريع له". غير أن المؤلف اختلف مع صاحب الوثيقة، وحصلت قطيعة بينهما، حول مسألتين: الأولى، رفض وضّاح للديمقراطية المركزية، دون أن يُقدم أي بديل تنظيمي، والبقاء على صيغة التنسيق، وليس "السلطة"، الثانية، المدة المحدّدة لمناقشة الوثيقة في الخلايا لم يكن كافيًا.

وعليه، فإن ما أنجزه المؤتمر (نيسان - أيار 1971) كان "شكليًا"، ولم يحل أيًا من الخلافات القائمة، واكتفى بإقرار نشوء "منظمة العمل الشيوعي"، رغم اعتراض البعض على كلمة شيوعي كونها مُنفّرة في الأوساط العمالية، وتم انتخاب الهيئات القيادية (يذكرها المؤلف بالأسماء)، المكتب السياسي من (7) أشخاص، ولجنة مركزية من (19) عضوًا. ومن الجدير الاشارة، إلى أن المعركة الانتخابية كانت شكلية، كونها جاءت بالتسوية، باتفاق محسن ووضّاح.

وجاءت الانتخابات النيابية اللبنانية العام 1972، مباشرة بعد المؤتمر، وفي إطار الخلافات المستحكمة داخل المنظمة، فشكلت موضوعًا خلافيًا، حول المشاركة أو عدم المشاركة، في حين رفع المؤلف شعار "الورقة البيضاء"، كون المجلس النيابي "لا يُمثلنا". لكن قرار القيادة كان بتأييد المرشحين التقدميين.

من هنا، وبناء على ما تقدم، يمكن توقع ما يمكن أن تصل إليه الأمور داخل المنظمة الناشئة من جهة، مع الإشارة إلى أن الشعارات كانت شفوية/كلامية، أكثر مما هي واقع يمكن تجسيده في الأطر التنظيمية من جهة ثانية، وأن المؤتمرات أقرب لأن تكون "إعلامية" "توافقية" بين "التيارات" أو "الأجنحة" داخل التنظيم من جهة ثالثة. وفي الحالات كافة، فإن الأزمة التنظيمية بقيت على ما هي عليه، إذا لم نقل إن الممارسة عمّقت الأزمة وزادتها حدة، خاصة وأن جماعة "لبنان الاشتراكي"، داخل المنظمة الناشئة، أعادت تأكيد رفضها لأي صيغة مركزية في العمل التنظيمي. من هنا خرج من المنظمة الناشئة، مجموعة مهمّة من مجموعة "لبنان الاشتراكي". وهذا بحد ذاته يدعو للتعجب والاستغراب في العمل السياسي عامة، والحزبي بطابعه "العقائدي" خاصة. كما أن هذا الموقف يؤكد الطابع "الثقافوي"، والنمط "التجريدي" المُعتمد في الممارسة السياسية الحزبية. وعليه، فقد أعادت "منظمة العمل الشيوعي" البناء التنظيمي، بعد خروج مجموعة من "لبنان الاشتراكي" من المنظمة، بطابع اتسم بالمركزية "الصارمة"، من حيث المبدأ.

"المجموعة المستقلة"

في خضم هذه الأجواء التنظيمية غادر وضّاح إلى باريس، لتحصيل شهادة الدكتوراه، وبعد عودته رفض ممارسة نشاطه في المكتب السياسي، إلى أن انفصل كليًا، مع مجموعة أطلقت على نفسها اسم "المجموعة المستقلة"، متهمًا، في كراس أصدره مع أحمد بيضون، المنظمة بأنها انتهت إلى "خط تحريفي، قطري، إصلاحي"، وبأنها "تُغازل" الحزب "الشيوعي". غير أن هذه المجموعة سرعان ما انتهت، دون أن تُقدم رؤية موضوعية لمسار العمل السياسي والنضالي.

ويمكن الإشارة، في إطار المناقشة، إلى أن المغالاة في التجريد، والتماهي المُبالغ فيه، مع التجارب الماركسية، و"الإسقاطات"، غير الموضوعية على الواقع اللبناني، و"التنظير" "المتضخم"....، أضاع فرصة "تاريخية"، أمام "اليسار الجديد"، لتأصيل الفكرة، وتجسيدها في الحياة السياسية واللبنانية والعربية. وليس من المغالاة القول: إن "الذاتوية"، "صادرت" الجماهير، وأقامت الأطر التنظيمية، باسم الجماهير لبناء "التنظيم الثوري الماركسي".

خسرت "منظمة العمل الشيوعي" في حركة الانشقاقات والاستقالات، أكثر من نصف الأعضاء، لكنّها لم تحدّ، من حيث المبدأ، من النشاط والفعالية. غير أن حركة الخروج من المنظمة جعلها تتماثل مع النماذج الحزبية القائمة حينها، وخاصة "الحزب الشيوعي" لجهة "المركزية الصارمة"، والانضباطية "المُتشنجة"، رغم طابعها "الثقافوي" الخاص. كما تكرس محسن إبراهيم قائدّا، وأمينًا عامًا للمنظمة، الأمر الذي جعل المنظمة تتسم بشيء من "الذكورية"، بعد "تقييد" النظرة والأفكار "المتقدمة" التي كانت "اللجنة النسائية" قد طرحتها. فهل كان إعفاء المؤلف من مسؤوليته عن هذه اللجنة، بناء على ما طرحتها من أفكار؟.

 الحرب تقتحم

إن الانتقال من النضال السياسي السلمي، إلى ميادين القتال كان مفاجئًا، إذا لم نقل صادمًا. خاصة وأنهم لم يكونوا يتوقعون الحرب، ولا مدتها عند وقوعها.
ويبدو أن انكشاف عمليات التدريب والتسليح عند حزبي الكتائب والوطنيين الأحرار، والحصول على ما سمّي "وثيقة التقسيم"، التي قدمتها الرهبانيات المارونية والرابطة المارونية، في كانون الأول 1975، إلى المندوب الفرنسي كوف دي مورفيل، سرّعت، وإن بتواضع، عمليات التدريب والتسليح، قبل أن "تتعسكر" المنظمة. وقد تسلم المؤلف مسؤولية "جهاز التعبئة والأمن" لفترة وجيزة، قبل اندلاع الحرب (1973 - 1974). وفي هذا الفضاء الملتهب تداخلت عناوين النضال وقضاياه، سواء المتعلّقة بالمقاومة الفلسطينية، أو طبيعة النظام السياسي أو حدود التغيير،.. .. وقد حكم "الحركة الوطنية"، قاعدتان:

 الأولى، تصاعد التناقض بين النظام الاقتصادي الرأسمالي (البنية التحتية)، والنظام السياسي الطائفي (البنية الفوقية). وبالتالي ساد الاعتقاد بأن الضغط العسكري سينجح في إنجاز "البرنامج الإصلاحي". وهذا ما ورد في تقرير المنظمة (آب 1975)، بأن التغيير يمكن أن يكون بواسطة "الانتصار العسكري". وهنا يمكن التساؤل، من موقع المناقشة، طالما أن هذه المراهنة، لم تتحقق، كيف وصلت المنظمة، كما أحزاب الحركة الوطنية، إلى هذا المستوى من المبالغة؟ وكيف لم تُدرك هذه القوى "التغييرية"، طبيعة البنية المجتمعية في لبنان، وامتداداتها الخارجية؟ وكيف "توهمت" أن الأنظمة العربية، باختلاف طبيعتها، يمكنها أن تكون ضدّ نفسها، بتبني مطالب هذه الأحزاب؟....

الثانية، تقوم على فكرة ثنائية عروبة/انعزال، وبالتالي راهنت "الحركة الوطنية" على أن الدول العربية ستحتضن النضال الوطني اللبناني، ضدّ الانعزالية. لكن هذه القوى "التغييرية" سرعان ما تبين لها انحياز العديد من الأنظمة العربية، إلى جانب حزب الكتائب. خاصة بعد اتفاقية "كامب ديفيد"، الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية. وهنا يمكن التساؤل، ومن باب المناقشة أيضًا، هل أن سرعة انكشاف هذه الأنظمة، ولّدت إجراءات عملانية للمواجهة؟ ما هو الطريق، أو الطرق التي لجأت إليها هذه الأحزاب، لتجاوز هذه العراقيل؟... هل يمكن لبرنامج الحركة الوطنية، ولطروحات أحزابها، في الديمقراطية، والعدالة، والاشتراكية، والكفاح الشعبي المسلح....، أن تتبنّاها هذه الأنظمة؟ وكيف؟ باختصار، ما الفائدة من انكشاف هذه الأنظمة؟

البرنامج المرحلي

يستعرض المؤلف مسار البرنامج المرحلي للإصلاح الديمقراطي الذي طرحته "الحركة الوطنية"، مُبديًا أسماء المشاركين في إعداده، ويُشير إلى بعض التفاصيل حول مسألة إلغاء الطائفية السياسية، ودور الاقتصاد الحر في إنتاج الحرب، والحل العَلماني المُقترح لألغاء الأساس الطائفي للنظام السياسي في لبنان... كما يستعرض، باستفاضة، التقرير الذي أصدرته اللجنة المركزية "لمنظمة العمل الشيوعي" في آب العام 1975، بعنوان "الوضع اللبناني والمهام المرحلية للحركة الشعبية"، حيث كانت مشاركة المؤلف في صياغة أقسام منه، الأخيرة ضمن الوثائق الصادرة عن المنظمة. إذ إن هذا التقرير كان تعبيرًا عما طرحته الحركة الوطنية، بلغة ماركسية، الأمر الذي يدفع للتساؤل: ما هو مبرر التقرير؟ ما الغاية منه؟ وماذا يخدم؟ وهل هو للتمايز عن الحركة الوطنية؟ أم للتعبير عن البُعد الماركسي، بما يحمله من "تعالٍ و"شوفة حال"؟ وماذا خدم هذا التقرير؟ هل كان "سلاحًا" يمكن الاستفادة منها؟ أم مدخلًا لتحريض قسم من بيئة "الحركة الوطنية" على ما تطرحه؟....

فشل التسوية وتداعياتها

من هنا تشكلت "الهيئة الوطنية للحوار" - التي استمرت من أيلول إلى تشرين الأول 1975، وضمت كلّ الأطراف المعنية بالنزاع المسلح - سعيًا لتحقيق التسوية بين أطراف النزاع المسلح. غير أنها فشلت في مهمتها، وعجزت عن تحقيق أية تسوية، إذ قاطع بيار الجميل، وكميل شمعون الجلسة التي حددت التوصيات الإصلاحية. أي أن فكرة التغيير السياسي الداخلي، التي طرحها كما جنبلاط، قبل اغتياله، في "الهيئة الوطنية للحوار"، رفضها حزبا "الكتائب" و"الوطنيين الأحرار"، كما لم تتقبلها قوى عربية ودولية، الأمر الذي وسّع دائرة القتال، بأشكال أكثر عُنفًا، وعزّز فكرة السيطرة على "منظمة التحرير الفلسطينية"، ونزع سلاحها، وإخراج مسلحيها من لبنان لاحقًا...

إن فشل "التسوية الداخلية" أعقبها العديد من الأحداث السياسية على المستوى اللبناني والعربي، المتعلّق بلبنان وما يجري فوق أرضه. ويمكن الإشارة، باختصار شديد، إلى أبرزها، خاصة وأن المؤلف يستعرض هذه الأحداث بتسلسل دقيق ومفيد، على النحو الآتي:

 - التوتر بين سورية والحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية، حيث كان اللقاء بين كمال جنبلاط وحافظ الأسد، غير ودي. وأعقبه الإعلان السوري عن رغبة دمشق في إدخال قواتها إلى لبنان، بحجة طلب الرئيس سليمان فرنجية من سورية المساعدة العسكرية. وهذا ما حصل، حيث أمنت الدبلوماسية الأميركية الغطاء السياسي للتدخل السوري، وتم تحييد "إسرائيل"، وإقناع "الجبهة اللبنانية"، خاصة وأن زيارة جوزيف أبو خليل إلى "تل أبيب"، موفدًا من بشير الجميل، لم تنجح في إقناع "إسرائيل" بالتدخل. وقد أحدث التدخل السوري انقسامًا في صفوف المقاومة الفلسطينية، خاصة داخل حركة فتح، ففي حين انسحبت بعض القوات من المتن، قاتل البعض (الكتيبة الطلابية) لصد الهجوم السوري في بحمدون. وكان خطاب الأسد بتاريخ 2 تموز 1976، وما تضمنه من تهديدات، مؤشرًا لما آلت إليه الأمور، سياسيًا وعسكريا...

 - المصالحة بين أنور السادات وحافظ الأسد في القمة العربية المُصغرة، في الرياض (16 تشرين الأول 1976)، وما نتج عنها من تطعيم للقوات السورية بقوات عربية، تحت اسم "قوات الردع العربية".
ضمن هذه التحولات السياسية يمكن اعتبار العام 1976، عام "الهزيمة"، أو بداية هزيمة "الحركة الوطنية"، بكلّ ما قد تعنيه الكلمة من دلالات وأبعاد.

 - على صعيد "منظمة العمل الشيوعي"، طلب محسن إبراهيم من المؤلف المغادرة إلى باريس للإشراف على "تنظيم الخارج"، وتسلم المساعدة المالية الواردة من بغداد. وجاء الطلب نتيجة لمعلومة، تُفيد أن المؤلف مطلوب للمخابرات السورية. وخلال فترة الغياب انتخب محسن إبراهيم أمينًا عامًا، وهو بالأساس كان يتصرف من هذا الموقع ومتطلباته.

مسؤولية اندلاع الحرب

في إطار النقاش حول مبررات اللجوء إلى السلاح لحل النزاعات السياسية، فإن المؤلف يُشير في سياق هذه التبريرات والمسوغات إلى فكرة استحالة التعايش بين الثورة والدولة، لكنّه يعتبر أن الأزمة في المصطلحين وتبلورهما واقعيًا. بمعنى آخر، "لا الثورة ثورة ولا الدولة دولة". وإذا كانت "الحرب استمرارًا للسياسة بوسائل أخرى"، فمن رأيه، يُفترض التركيز على هذه "الوسائل الأخرى"، وما تولده في مسارات الحرب ومنطقها، واستمرارها. وبالتالي فإن "ولادة اقتصاد حرب"، تؤدي، من وجهة نظره، إلى مقولة "الحرب استمرار للاقتصاد بوسائل أخرى". وهذا ما كان قد فصله في كتاب آخر بعنوان "تاريخ لبنان الحديث".
من هنا يُحمّل "الجبهة اللبنانية"، المسؤولية الأكبر في نقل النزاع من سياسي إلى عسكري، نتيجة لتصلبها في الدفاع عن "الواقع السائد"، سواء تجاه الوجود الفدائي، أو تجاه الإصلاح السياسي والاجتماعي، فقد رأى "حزب الكتائب"، أن المطروح سياسيًا، يُحدث إخلالًا بتوازن القوى الطائفية، ويُهدّد "الأسبقية المسيحية" في السلطة والنظام، خاصة وأن "حزب الكتائب" بدأ بالتسلح في عام 1969. لذلك اتبع سياسة الحفاظ على الأمر الواقع وديمومة استمراره، ورفض فكرة العدالة والمساواة.

ضمن هذه الأجواء، انكسر الاجتماع اللبناني عموديًا عند "الفالق الطائفي"، لأقدمية نظام الطائفية السياسية والإدارية من جهة، ولـ"شرعنة" نظام التمثيل الطائفي السياسي، وتجذر مؤسساته، مقابل عدم "تجذر المؤسسات المهنية والنقابية من جهة ثانية... ممّا جعل، ويجعل، الانقسام المجتمعي "طبقيًا" أقل حضورًا. لهذا يُرجّح المؤلف إمكانية العودة إلى "الصراع الاجتماعي". لكن هذا يتطلب "صراعًا اجتماعيًا من تحت لفوق".
أن هذا العرض التفصيلي والغني بمعطياته، يدفع من موقع المناقشة، للقول إنه نوع من التكرار لما كان سائدًا، من حيث المبدأ، قبل مرحلة الحرب الأهلية في لبنان. بمعنى آخر إن محاولة رسم معالم أولية لتوصيف المأزق الطائفي، وانشراخاته المجتمعية، وسُبل الخروج منه، لا تزال وكأنها تدور في الحلقة ذاتها، دون إمكانية تجاوز "البنية الطائفية"، رغم تصاعد موجة "العداء" لها، و"رفضها"، لدرجة أن القوى الطائفية، تدعي أنها ضدّ الطائفية، وأكثر مزايدة في رفضها من الأحزاب التغييرية، ممّا يجعل الخطاب السياسي، لهذا الطرف أو ذاك، أقرب لأن يكون حالة "صوتية"، سرعان ما تذوي وتختفي. لذلك فإن هذا المنحى الذي يسم الحياة السياسية في لبنان، يزيد المأزق الوطني و"يُحاصر" أي اتّجاه للإصلاح و"التغيير".

المأزق يتعاظم

إن مسار الأحداث التي أعقبت العام 1976، (عام الهزيمة)، "تتوجت" بعملية اغتيال كمال جنبلاط (17 آذار 1977)، حيث يُشير النص إلى بعض المعطيات المهمّة حولها، ويطرح العديد من التساؤلات الأساسية التي لم تزل خارج الإجابة. فرغم أن العملية ساهمت للحظة في "تماسك" "الحركة الوطنية"، غير أن التفكك سرعان ما اتسع مداه في إطار هذه الحركة.
على صعيد "منظمة العمل الشيوعي"، يوضّح الكتاب أن تعيين محسن إبراهيم أمينًا عامًّا لـ"لحركة الوطنية"، كانت له مضاعفاته السلبية على أكثر من مستوى وصعيد. حيث ساهم في استفراده في "القيادة"، وهمش الأمناء العامين لسائر الأحزاب، وشجع على "انتقال" كوادر المنظمة إلى مؤسسات "الحركة الوطنية"، السياسية والعسكرية...، ممّا ساهم في "تحلّل الروابط التنظيمية" للمنظمة وتفككها، فبهتت شخصية المنظمة "المستقلة الاشتراكية اليسارية والعَلمانية والديمقراطية..".

على الصعيد العام، "تطايرت المراجعات والارتدادات والإنكارات بكلّ الاتّجاهات"، بحيث "اختلط الحابل بالنابل"، من هوس "إسلاموي"، إلى الإعلان عن "الكفر" بالماركسية، ومن إدانة للحرب الدائرة، إلى الانسحاب من السياسة. ويُقدم المؤلف بعض النماذج/العيّنات، المهمّة والمُعبرة بدقة عن هذه الوضعية، والمنشورة في الصحف المحلية من "يساريين". وقد ترافق هذا مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، إذ قدمت العديد من هذه النماذج/العيّنات، نوعًا من المغالاة في مراجعة التجربة، ووقعت في التناقض لجهة ما طروحته، وعمدت إلى "الارتداد"، والتقلب بين النقيض ونقيضه، في الرؤية والنظرة.

محطات خاصة

في هذا الخضم المضطرب، يُشير المؤلف إلى أنه لم يُشارك في "التشبيح الإسلاموي"، مثلما لم يكن مُشاركًا في "التشبيح العروبي – بالمعنى اللبناني". وكان متوازنًا في رؤيته للقضايا المُثارة، على مستوى الدعوة الدينية، والعَلمانية، وما يؤمن الحياة الديمقراطية، وحرية الاختيار. وقد قضى "قسطًا وافرًا" من وقته (1977 و1982) في رحلات خارجية، إلى العديد من الدول، يروي العديد من تفاصيلها وخفاياها المشوقة والمهمّة.
كان "همه"، توحيد "الحزب الشيوعي"، و"منظمة العمل الشيوعي"، معتبرًا أن مشروع الدمج بين الحزبين، هو المآل الأخير لما يطمح إليه، لجهة "قيام المنظمة والحل الفعلي لأزمتها الوجودية"، لدرجة كان هذا المشروع "مهمة شخصية"، إذا لم نقل "مشروعه الشخصي"، خاصة وقوع الحرب في لبنان، وتماهي المنظمة مع "الحركة الوطنية"، لدرجة بددت فيها كلّ مُبرّر فكري وسياسي وعملي لوجودها المستقل. وقد أخذ "الرفاق" مشروع الدمج على محمل "الجدّ والعجلة". وتكرّرت فكرة الدمج خلال الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان العام 1892، وعند التحضير لإطلاق المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول). لكن المسألة بقيت "مجردة"، ولم تتجسد فعلاّ حيًّا، إذ سرعان ما تبين أن الفكرة كانت شكلية، عبّرت عن "موقفه الشخصي"، حيث قرأها "بطريقة ساذجة وخاطئة من بدايتها للنهاية".

وعليه، يمكن القول، من موقع المناقشة، إن فكرة الدمج، كانت "حلمًا" سرعان ما "تبخر". غير أن الفكرة، بحد ذاتها، تحمل، على الأقل، إيجابية، وسلبية في الوقت ذاته. تتجسد الإيجابية، في الانتقال من فكرة التمايز عن "الحزب الشيوعي"، إلى فكرة الاندماج معه. وهذا تطوّر إيجابي في مراجعة التجربة ومتابعة التحولات والخروج من "الذاتوية" التي يبني البعض وجودهم على أساسها.

وتتبلور السلبية، في عمق الإنشراخ بين الأحزاب عامة، وتلك التي تتبنّى خلفية فكرية/إيديولوجية واحدة خاصة، بحيث يبدو أن المنحى "الانقسامي" خصيصة، رافقت، ولا زالت، الحياة السياسية في لبنان. وهذه المسألة قد تكون مدخلًا للبحث والنقاش، بعد هذه السنوات الطويلة. خاصة وإن ما كان يُسمّى بـ"اليسار الجديد"، أصبح من الذاكرة، كما أن "القديم"، من هذا اليسار، هامشي الحضور، يعيش على بعض المحطات من تاريخه، وأقرب لأن يكون مستقيلًا، للأسف الشديد، من دوره.

الغزو "الإسرائيلي"

لم يكن الغزو مُفاجئًا، لأحزاب "الحركة الوطنية"، على عكس "مفاجأة" اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. حيث كان أبو عمار، في الاجتماعات المشتركة الفلسطينية – اللبنانية، يذكر وباستمرار، إن الغزو حاصل، وواقع حتمي، ويُحدّد آفاقه الجغرافية، ويشير إلى أن دور "القوى اللبنانية"، اقتحام بيروت الغربية. وعليه، فقد حصل الاجتياح / الغزو، لكن لم تقم "القوى اللبنانية"، بالدور المطلوب منها، نتيجة لنصيحة أميركية لبشير الجميل، الذي تُعِده لرئاسة الجمهورية.

اتسع نطاق القصف "الإسرائيلي"، في الغزو، واشتد الحصار على بيروت الغربية التي غادرها الكثير من السكان... وسرعان ما تبين أن هذه العملية ليست موقتة، الأمر الذي جعل الجُهد ينصب على التفكير في المرحلة التالية والتحضير لها. من هنا كان مسار تنظيم المقاومة، الذي يشرحه الكتاب بدقة، من أولى المهمات. وبعد سلسلة من الاجتماعات حسمت التنظيمات اليسارية الثلاثة (الشيوعي، المنظمة، العمل الاشتراكي العربي - فرع لبنان)، وأطلقت "جبهة المقاومة اللبنانية" (جمول). ويبدو أن جورج حاوي هو من اقترح الاسم. كما تم الاتفاق مع الجبهتين الشعبية والديمقراطية، مشاركة مناضلي الجبهتين في عمليات المقاومة، تحت اسم (جمول).

أعدت "منظمة العمل الشيوعي" برنامجًا تنظيميًّا للمتابعة، داخليًا وخارجيًا. وكانت عملية الانتقال من الوجود المسلح العلني، إلى المقاومة، مدنيًا وعسكريًا، من أبرز الصعوبات. ويُقدم الكتاب العديد من الأحداث "السرية" عن مسار الحركة  و"تنظيم" اللقاءات والاجتماعات في تلك اللحظة السياسية... مُشيرًا إلى أن أبو عمار كان مطاردًا بشكل مباشر ومستمر، وعلى مدار الأربع والعشرين ساعة، غير أنه كان سريع الحركة وكثير التنقل والترحال، في سيارة مع مرافقه الشخصي، فتحي، في أغلب الأوقات فقط، وأن أبو عمار، في تنقله السريع والدائم، كان يفاجئ الجميع في دخوله وخروجه، إلى أن غادر المقاتلون الفلسطينيون بيروت، في أجواء مؤثرة اختلطت فيها الدموع بالمكابرة على الهزيمة.

تبعات الغزو

كان انتخاب بشير الجميل لرئاسة الجمهورية "تتويجًا للاحتلال الإسرائيلي"، فوصوله اعتمد الترغيب والترهيب، وبرنامجه كان "توفيقيًا"، يستعيد "مشروعه الفيدرالي". أما على صعيد "مثقفي اليسار"، فاستمرت حالة "الإحباط والارتداد". وجاء اغتيال الجميل "إيذانًا بأفدح الكوارث". من هنا بدأت عملية الاجتياح "الإسرائلي" لبيروت من خمسة محاور. وبعد انتخاب أمين الجميل، عارضت "منظمة العمل الشيوعي" التوجّه التفاوضي معه، وما نتج عنه، الأمر الذي زاد من مساحة التباعد بين المنظمة وبعض اليساريين والأصدقاء.

كانت مجزرة مخيمي "صبرا وشاتيلا"، برعاية وتنفيذ وتغطية "إسرائيلية". حيث تُشير بعض المراجع، إلى أنها أعقبت زيارة شارون للتعزية ببشير، في منزل آل الجميل، حيث أبلغهم "أن الفلسطينيين هم من قتل بشير". وعليه اتّخذت قيادة "القوات اللبنانية"، وبمباركة رئيس "حزب الكتائب" بيار الجميل قرار الهجوم على مخيمي "صبرا وشاتيلا". مُحددًا الأسماء التي خططت ومواقعها، وعدد الذين نفذوا (400)، موضّحًا حالة أساسية ومهمة، وغير متداولة في لبنان، متمثلة في أن "الإسرائيليين" نقلوا إلى مطار بيروت عدة مئات من المقاتلين النظاميين في "القوات اللبنانية"، ليكونوا في طليعة احتلال بيروت الغربية. غير أن هذه العملية أُلغيت، مرجحًا سبب الإلغاء إلى "الضجة الدولية على المجزرة".

دافع المقاومون عن بيروت ضد الغزو "الإسرائيلي"، ممّا أربك العدو. لذلك لم يستمر وجود العدوّ في بيروت، أكثر من أسبوعين. حيث انسحب يوم 27 أيلول 1982، معلنًا، بمكبرات الصوت، عدم إطلاق النار على قواته، لأنه ينسحب. كما إن عمليات "جمول"، شملت تنظيمات متعددة من حركة أمل، والسوري القوميّ الاجتماعي، والبعث، والتقدمي... وبعد بدء مشاركة "حزب الله" كانت بياناته تصدر باسم "المقاومة الإسلامية". غير أنه من المفيد الإشارة هنا إلى أن المؤلف، لم يشر مثلًا إلى أن بعض التنظيمات الناصرية (الاتحاد الاشتراكي العربي – التنظيم الناصري)، كان من ضمن الذين شاركوا في مقاومة العدو.

اضطراب يساري

رغم التناغم "العميق" الذي نشأ بين المنظمة و"الشيوعي"، غير أن جورج حاوي في الاجتماع المشترك لقيادة التنظيمين، فاجأ المجتمعين بالطلب من محسن إبراهيم التنحي عن الأمانة العامة التنفيذية لـ"الحركة الوطنية"، حيث كان الطلب خارج المُتعارف عليه في العلاقات بين التنظيمين عامة، وغير مألوف بين القائدين خاصة.

لم يكن تبرير جورج مُقنعًا. ونظر إليه محسن بريبة وشك. ويبدو أن طلب جورج، مرده الرغبة في "استعادة" الشيوعي "هويته اللبنانية"، وأخذ "مسافة من المقاومة"، ورغبته في تسوية العلاقة مع النظام السوري. ما زاد الأمر استغرابًا، وتعجبًا، بعد هذا الطلب، زيارة جورج حاوي أمين الجميل في القصر الرئاسي في بعبدا. وجاء رد محسن على هذا التوجّه "الشيوعي" في البيان الذي حمل توقيع وليد جنبلاط (رئيس الحركة الوطنية)، ومحسن إبراهيم (الأمين العام التنفيذي للمجلس السياسي للحركة)، يُعلنان فيه تعليق أعمال "الحركة الوطنية اللبنانية".

من هنا يُرجّح المؤلف، أن هذا التوجّه جاء رضوخًا لضغوطات خارجية "إسرائيلية أميركية"، استقاها جورج خلال زيارته للاتحاد السوفياتي. في الأحوال كافة، كان موقف جورج، أقرب لأن يكون قطيعة مع محسن من جهة، وقطيعة بين التنظيمين من جهة أخرى. وقد بينت محاولات "النقد الذاتي" لكل من القائدين لاحقًا، جوانب من هذه القطيعة.

إن المنحى السياسي الذي اعتمده "الشيوعي"، في تغيير صيغة العلاقة مع المنظمة كانت حادة جدًا، لدرجة تبلغ مسؤولون سوفيات خبر "نهاية العلاقة المميزة بين الطرفين"، مُرفقًا بطلب "وقف توفير المنح الدراسية للمنظمة"، التي كان الاتحاد السوفياتي يُقدمها.

استعاد " الشيوعي" "موقعه اللبناني"، فتصالح مع القيادة السورية، وفتح له مكتبًا في دمشق وشارك في "جبهة الخلاص"، فيما تم استبعاد المنظمة. ورغم عدم مشاركة الشيوعي في حرب المخيمات، لكن جورج حاوي، اتهم من دمشق (تموز 1985) ياسر عرفات بتفجير هذه الحرب، وفي إطار الاتهام ذاته، وأقسى، أكد كريم مروّة هذا التوجّه دون أية مواربة. وقد تجسدت سياسة "الشيوعي"، مباشرة، في ما حدث في مدينة طرابلس من أعمال عسكرية ضدّ "حركة التوحيد". أما على مستوى (جمول) فقد كان "الرفاق في المنظمة"، خلال توجههم للقيام بعمليات عسكرية ضدّ العدو، يُعتقلون على الحواجز السورية، ويتم إطلاق سراحهم بعد إعلانهم أنهم من "الحزب الشيوعي".

استمرت القطيعة بين التنظيمين اليساريين، وانتقلت المنظمة "نحو الانكفاء الذي سيطول ويطول"، وتعطل مسار الاندماج. حيث يبدو أن "الشيوعي" لم يكن راغبًا في الأساس بتحقيقه من جهة، و"متضايقًا" من يسارية المنظمة من جهة ثانية، فتغلبت "العصبية الحزبية" على كلّ ما عداها.

 هذه المعطيات صادمة ومؤلمة، في الوقت ذاته، كونها تكشف مدى "سطحية" بعض السياسات الحزبية من جهة، وتفضح خطاباتهم من جهة أخرى، وتُعرّي فكرة إحالة التراجع والتعثر و"الهزيمة"... إلى المؤامرة، لإعفاء "الذات الحزبية" من المسؤولية من جهة ثالثة. ويصدق على خطابات بعض القيادات القول: "أسمع كلامك أَصدقك، أشوف أفعالك أتعجب".

"الطلاق الديمقراطي"

بعد نحو خمس عشرة سنة من التفرغ الحزبي، قرر المؤلف "الانسحاب" من المنظمة، والسفر إلى أسرته في باريس لمتابعة تحصيله العلمي. ولم تنجح مسلسلات الحوار والنقاش في ثنيه عن قراره. ووضّح "للرفاق" ملاحظاته النقدية بالتفصيل، وبيّن أزمة المنظمة التي غدت "ضحية" وجودها في "الحركة الوطنية اللبنانية"، حيث اضمحلت "هويتها"، وغابت عنها "الهيبة الفكرية"، وهيمنت القيادة الفردية، والأهم، بالنسبة له، أنه "فَقَد الأمل" في "إعادة البناء".

بالمقابل، رفض نقل الخلاف الداخلي إلى العلن. لكن هذا القرار كلفه تحمّل العديد من الاتهامات بكلّ ما تحمله من تجنٍّ وظلم، غير أنه "مرتاح الضمير".
وعليه فقد تابع دراسته في "جامعة باريس الثانية"، وتكلفت المنظمة بتغطية نفقات إقامته في باريس، لحوالي ثلاث سنوات، كنوع من "التعويض" عن سنوات "التفرغ"، إضافة إلى مساعدة والدته، ودفع إيجار شقته في "الزيدانية" - بيروت، التي تحولت إلى مقر ومنامة للرفاق. وعليه أنجز أطروحة الدكتوراه حول "أشكال الانتساب والتضامن في الصراعات اللبنانية". وكانت المذكرة التي قدمها، بعد الاقتتال بين أجنحة "الحزب الاشتراكي" في اليمن، آخر نشاط له في "منظمة العمل الشيوعي".

المراجعة النقدية

بعد هذا العرض التفصيلي والمشوق، وأضافة لما كان قد عرضه في الصفحات السابقة، من مواقف وآراء نقدية، يأتي الفصل الحادي عشر، "مُخصصًا" للمراجعة النقدية المباشرة، سواء لما صدر عن "منظمة العمل الشيوعي" بدءًا من المؤتمر التأسيسي (1971)، وصولًا إلى المؤتمر الثالث (2012)، وما صدر عن الأمين العام للمنظمة بشكل خاص، إلى جانب، ممارسة المؤلف النقد الذاتي للمفاهيم والمواقف التي حكمت مسيرته خلال تلك الفترة، الأمر الذي يجعل هذه المراجعة، بكلّ ما يمكن أن تتحمله من صواب وخطأ، "نافذة أمل" في "جدار" الصمت الجاثم على التجربة الحزبية في لبنان. حيث يسود، من حيث المبدأ، عند الأحزاب السياسية، "منطق" "التمجيد"، وتنتشر فكرة "التعظيم"، ويُهيمن خطاب "الفرادة"، إذا لم نقل الاستعلاء، على حساب الدقة والموضوعية في إعادة قراءة ومراجعة التجربة. ويتضمن هذا الفصل مواضيع وعناوين متعددة الأوجه، فكريًا، وسياسيًا، وتنظيميًا... ويمكن توزيعها، باختصار شديد، على مستويين:

الأول، يتعلق بـ"منظمة العمل الشيوعي"، وأمينها العام، الذي لم يستطع الخروج من النسق الفكري - السياسي الذي اعتمده منذ هزيمة الخامس من حزيران، 1967، وازداد مبالغة في ممارسته بعد الخروج من حركة القوميّين العرب. يتمثل هذا النسق الفكري - السياسي، في "الارتداد ضدّ القوميّة العربية واتهامها بالفاشية"، واستبدال عبد الناصر بالمقاومة الفلسطينية "رافعة الثورة العربية"، وتبني "الماركسية اللينينية المتشددة".
وقد حكم هذه المراجعة، التي قام بها الأمين العام، محطتان: المحطة الأولى، سقوط الاتحاد السوفياتي، وما ولدته من خيبة أمل، بالماركسية والاشتراكية، وصولًا إلى "اكتشاف الحداثة واستعادة العَلمانية"، المحطة

الثانية، "انتفاضة الاستقلال، وانسحاب القوات السورية من لبنان، الأمر الذي أنتج إعلان "الخيبة بالعروبة"، وتبني "إحياء الوطنية اللبنانية". دون أن يُلغي هذا النقد الإشارة إلى أن الأمين العام يتمتع بحدة الذكاء والبداهة والنكتة الجاهزة والطاقة الكبيرة، والتمكّن من اللغة العربية... وقد كان مع جورج حاوي قائدًا مميزًا، ضاق كلّ منهما بـ"تنظيمه السياسي". ورغم أنهما شكلا عامل زخم ونمو، لكنهما، في الوقت ذاته، شكلا عنصر ضعف وانحلال، رغم اختلافهما في المنشأ والشخصية والتجربة، ورغم ما يوجه إليهما من نقد، فإن كلًّا منهما "إنسان حرّ".
الثاني، على مستوى المؤلف، يتضمن الكتاب عدة محطات نقد ذاتي، على الصعيد المفاهيمي، والسياسي، والتنظيمي خلال وجوده في المنظمة. غير أنه لا يزل متمسكًا بـالماركسية - "منهج المادية التاريخية" - كمرجعية فكرية أولى، وليست الوحيدة. مُقدمًا، في الخاتمة، بعض ما تعلمه خلال الحرب الأهلية في لبنان، والتي تبدو عناوين مهمة، يمكن التوافق عليها من الذين عاشوا التجربة، سواء داخل "اليسار الجديد"، أو "اليسار القديم"، أو من كان خارجهما. كما إن هذه العناوين، يمكن أن تكون علامات "مضيئة" على الطريق، لمن لم يعش هذه التجربة.

مسألة للنقاش

قد لا يكون من المبالغة القول، في سياق المراجعة والمناقشة، إن "منظمة العمل الشيوعي" قد تكون النموذج الأكثر تعبيرًا عن فكرة "اليسار الجديد"، في لبنان. لكنّها في الوقت ذاته، النموذج التنظيمي "الأسرع" في الولادة، والأسرع في الانقسام. وبالتالي، قد تُعبر، رغم نضاليتها، عن مأزق هذا اليسار، ومحازبيه من اليساريين الجدد، حيث جسّد هؤلاء نموذج "اليساري المثقف"، الذي يعتقد أنه يعرف في " كلّ شيء"، وله موقف من "كل شيء".

فبدأ هذا "اليساري المثقف" وكأنه مسكون بـ"التجريد"، ومتشوق لممارسة هذا التجريد، هو المتسّرع "لقطف الثمار"، وغير "القابل" بأي تنازل، سواء أمام رفيقه، أو الآخر خارج التنظيم. إنه المؤمن بأن "منطقه" هو "الأصح"، ومقولاته هي "الأنقى"، ونضاليته هي الأرقى، الأمر الذي أوقع المنظمة عامة، والعديد من الأعضاء فيها خاصة، في جدلية "الذات" و"المجموع"، وإشكالية التنظيم و"التحرر" من قيوده، وتحديات "الرغبة" في الإنجاز، ومحدودية الإمكانات، ومأزق الفكرة وكيفية ممارستها،، وأزمة المواءمة بين الواقع الحياتي المادي للبعض، وهوس الانخراط في "بحر" الفئات الكادحة، وتجسيد هذا التماهي مع "الطبقات" العمالية والفقيرة.
 قد تكون هذه التعارضات والتناقضات، وغيرها، أو بعضها، من السمات، الملازمة لإعضاء هذا التنظيم الحزبي أو ذاك، غير أنها بدت في "اليسار الجديد" خاصة، أكثر حضورًا وسطوعًا.

إقرأ المزيد في: قضايا وكتب