طوفان الأقصى

نقاط على الحروف

اللغة السامية الأم وابنتها العربية.. البنت سرُّ أمها
19/09/2023

اللغة السامية الأم وابنتها العربية.. البنت سرُّ أمها

د.علي أكرم زعيتر

غالباً ما نسمع من علماء الألسنية، والمهتمين بعلوم اللغة عموماً، مصطلح "اللغة السامية الأم"، فما المقصود باللغة السامية الأم؟ وما موقع العربية منها؟

 اللغة الأم، أيما لغة أم، بصرف النظر عما إذا كانت سامية أو لاتينية أو أوردية.. إلخ، هي اللغة الأصلية التي تحدث بها قوم من الأقوام في زمان سحيق، ثم تطورت مع مرور الزمن إلى عدة لغات.

العربية، العبرية، الآرامية ”السريانية Neo Aramaic“،  الآشورية، الكلدانية، الكنعانية (الفينيقية).. إلخ، كانت في الأساس لغة واحدة، ثم تطورت إلى عدة لغات بفعل عوامل عديدة، منها:
١_ التنائي الجغرافي، والهجرات السكانية.
٢_التلاقح الثقافي مع الشعوب المجاورة غير السامية.
٣_ مرور الزمن وتعاقب الأجيال.
٤_الاحتلالات المتتالية، والخضوع لسلطان شعوب أخرى ناطقة بغير السامية.

وقد اصطلح علماء الألسنية على تسمية اللغة الأم التي تحدرت منها هذه اللغات بـ ”السامية“، نظراً لأن كل الأقوام الناطقين بهذه اللغة، يعودون في الأصل إلى أرومة ”سام بن نوح“، وفق ما جاء في المصادر اللغوية والدينية.

يُعزى إلى المستشرق الألماني شولتسر (Schloezer) ابتكار مسمى ”اللغات السامية“، فهو أول من أطلق هذا المسمى خلال القرن الثامن عشر. وقد استلهم شولتسر الاسم من سفر التكوين، وهو أول سفر من أسفار العهد القديم (التوراة). ويبدو، أن شولتسر لم يلتفت إلى الخطأ الذي وقعت فيه التوراة حين نسبت العيلاميين والليديين إلى الساميين، ونزعت صفة ”الساميين“ عن الكنعانيين، وألحقتهم بالحاميين.

هذا خطأ كبير، لا يمكن أن يقع فيه مبتدئ في علم الألسنية فما بالك بعالم كبير كشولتسر. فالعيلاميون آريون إيرانيون، والليديون هم الآخرون من العرق الهندو ـ أوروبي. أما الكنعانيون فلا يختلف اثنان حول هويتهم السامية الصرفة، فهم أقرب الشعوب السامية إلى العرب، هذا إن لم نقل أنهم والعرب شعب واحد.

ولكن يبدو واضحاً، أن شولتسر آثر اعتماد هذا الاسم رغم ما يعتريه من خلل، ربما بسبب خلفيته المسيحية، فالاعتقاد بصحة ما جاء في التوراة (العهد القديم) جزء لا يتجزأ من الإيمان المسيحي.

وبصرف النظر عما يقوله شولتسر، في هذا المضمار، فمما لا شك فيه، أن الآشوريين والآراميين والكلدانيين والعرب والعبرانيين والكنعانيين وسواهم متحدرون في الأصل من شعب واحد، كان يتحدث لغةً واحدة، تفرعت لاحقاً إلى عدة لغات كما سبق وأسلفنا، فما خصائص تلك اللغة الأصلية التي كان الساميون الأوائل يتحدثون بها، وأي اللغات السامية الحية أقرب إليها؟

للعربية والعبرية والآرامية والآشورية والكلدانية، والعربية الجنوبية، والعربية الكنعانية، وسواها، مجموعة خصائص مشتركة، تكاد تتفرد بها، ما جعل علماء الألسنية يصنفونها ضمن عائلة لغوية واحدة، من أهمها:

أ_ الجذر الثلاثي للكلمات، فغالبية المفردات المتداولة في اللغات السامية الحية (العربية، العبرية، الآرامية..)، والمنقرضة (العربية الكنعانية، العربية الجنوبية..) ثلاثية الحرف، وقلما تجد في تلك اللغات مفردات ثنائية الحرف، مثال ”أم، أب، أخ..“.

بـ_ تضم اللغات السامية نوعين من الأحرف، قلما نجد لهما نظائر في اللغات الأخرى، هما: الأحرف الحلقية، أي التي تخرج من الحلق كالـ ”ح، ع، غ، هـ، ء، خ“، والأحرف المطبقة ”ص، ض، ط، ظ“.

جـ_ في النصوص السامية القديمة، لم تكن حروف العلة ”ا، و، ي“ تُرسَم (تُكتب) مع الكلمات، فكان العرب القدماء، على سبيل المثال، يكتبون “إبراهيم، إسماعيل، إسحاق، مالك“ على النحو الآتي: ”إبرهم، إسمعل، إسحق، ملك“، وهذا ما كان عليه بقية الساميين، فلم يعرف عنهم أنهم كانوا يثبتون أحرف العلة في كتاباتهم ونقوشهم، ولم يصلنا من آثارهم ما يدل على خلاف ذلك.

د_ تمتاز اللغات السامية عن قريناتها في كون مفرداتها قابلة للاشتقاق بزيادة حرف أو حرفين أو حتى تغيير حركة، مثال في العربية: ”نشر، ناشر، منشور، مناشير، انتشار، نُشور..إلخ“، بينما تفتقد اللغات الأخرى إلى مثل هذه الميزة، فلو أخذنا اللغة الإنكليزية، وهي من عائلة اللغات اللاتينية أو الآرية لوجدنا أنها تحتاج إلى أدوات خاصة أو إلى دمج عبارات ببعضها حتى يتسنى لنا الخروج بمفردة جديدة مشتقة من الأصل.

يقول ثعلب بن يحيى في أماليه:"ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وتلتلة بهراء، وكسكسة ربيعة، وكشكشة هوازن..". (هيام كريدية، الألسنية: الفروع والمبادئ والمصطلحات، ط٢ ــ ٢٠٠٨، ص: ٧).

ويقصد (ثعلب) بتلتلة بهراء (قبيلة عربية) كسرَ أوائل الأفعال المضارعة، كما في بعض عامياتنا الشامية: "يِعطي" بكسر الياء، بدلاً من "يُعطي"، بضم الياء، و"تِشتغل"، بدلاً من ”تَشتغل“. بينما يقصد بعنعنة تميم قَلْبَ الهمزة عيناً، حيث دأب بنو تميم في زمانهم على لفظ الهمزة عيناً، كما في "عن" بدلاً من "أن"، أو "عنين" بدلاً من "أنين". أما كسكسة ربيعة فالمراد بها إقلابُ كاف المخاطبة سيناً. وربيعة هذه قبيلة عربية قديمة كانت تقلب كاف المخاطبة سيناً، فتقول: "أخوس" بدلاً من "أخوك". فيما المراد بكشكشة هوازن، إقلابُ كاف المخاطبة للمؤنث شيناً، كما في قول بني هوازن: "عَينِش" بدلاً من "عينكِ" أو "عليش" بدلاً من "عليكِ"، وهو ما يشيع في أيامنا الحاضرة في لهجات الأشقاء العراقيين، حيث يستبدلون هناك الكاف بالشين، فيقولون "شلونش" بدل "شلونك" و"يدّش" بدل "يدّك" وهلمَّ جرة.

لم يكن للقبائل العربية لهجة موحدة في ما مضى، بل كان لكل منها لهجتها الخاصة. هذه اللهجات على وفرتها وغرابة ألفاظها كان بمقدورها أن تتحول إلى لغات مختلفة لا تشبه إحداها الأخرى إلا بمقدار معين، لولا التفاف العرب حول لهجة القرآن الكريم ”الفصحى“.

لو لم يعتصم العرب بحبل الفصحى (لهجة قريش) لتحولت لهجاتهم إلى لغات، تماماً كما حصل مع اللغة السامية الأم التي تحولت بفعل العوامل التي أتينا على ذكرها إلى لغات مختلفة، لا يكاد يفهم الناطقون بهذه اللغة على الناطقين بأختها البتّة، كما حال الناطقين بالسريانية (الآرامية الحديثة) وأبناء عمومتهم الناطقين بالعربية، حيث لا يكاد يفهم هؤلاء على أولئك إلا بمقدار يسير.

يسجَّل للقرآن الكريم، صون لغة العرب من التغيير والتحريف. فلولا هذا الكتاب السماوي، لكان العرب اليوم، بعد مرور ١٤٠٠ سنة يتحدث كلٌّ منهم لغةً مختلفة عن الآخر. وهذا أمر طبيعي لا بد منه، فاللغات شأنها شأن أي كائن حي أو جماد خاضعة لسنة التطور.

إليكم هذا المثال التطبيقي. في عشرينيات القرن الماضي اقتطعت دولة الاحتلال الفرنسي مدينة أنطاكية ولواء الإسكندرون من سورية، وألحقتهما بتركيا. ومع وصول القومي التركي المتعصب، مصطفى كمال أتاتورك، إلى سدة الحكم في تركيا، شرعت السلطات التربوية هناك في اعتماد سياسة تربوية قاسية وممنهجة حيال السكان العرب، فمنعتهم بدايةً من الكتابة بالعربية أو تعلمها أو تداولها على نطاق واسع. ومع مرور الوقت، وجراء انقطاع التواصل بينهم وبين عمقهم العربي في سورية، بدؤوا يفقدون القدرة على التحدث بالعربية حتى على المستوى الأسري الضيق. ومؤخراً، حتى من بقي منهم متمسكاً بلغته فقد القدرة على اللفظ الصحيح.

إن انقطاع قوم ما عن لغتهم فترة من الزمن، أو تمازجهم مع شعوب أخرى كما حصل مع أهل أنطاكية والإسكندرون، حتماً سيؤدي إلى ضياع لغتهم أو تعرضها للتحريف، وهذا تماماً ما حصل مع اللغة السامية الأم.

فبفعل العوامل التي أتينا على ذكرها في مستهل بحثنا، انقسمت بداية الأمر إلى عدة لهجات، ثم تحولت اللهجات إلى لغات شتى. احتفظت بعضها بخصائص اللغة الأم التي تحدرت منها فيما، فقدت الأخرى اتصالها بها إلى حد كبير.

يرى علماء الألسنية المعاصرون، ومنهم المستشرق الألماني "فيرنر آرنولد"، أن من بين اللغات السامية التي لا تزال حية إلى يومنا هذا، وحدَها العربية هي الأقرب على الإطلاق إلى اللغة السامية الأم، (مقابلة صحفية أجرتها معه صحيفة الشرق الأوسط، تاريخ ٢٧ ــ ٦ ــ ١٩٩٨). ولرأي "فيرنر" ما يؤيده من دلائل وقرائن، منها:

١_ إن انكفاء العرب، لا سيما الشماليين، في الصحراء، جعلهم بمنأى عن التلاقح الثقافي مع الشعوب المجاورة. عاشوا حياةً أقرب إلى العزلة المجتمعية، ما حال بينهم وبين التأثر بلغات الأقوام المجاورة، وذلك بخلاف الآراميين والعبرانيين والآشوريين الذي خالطوا وعايشوا شعوباً كثيرة على مر تاريخهم.

٢_ إن طبيعة الجزيرة العربية الصحراوية، وافتقارها للموارد المائية والغذائية، وقساوة العيش فيها، صرف أنظار المستعمرين والغزاة عنها، ووقاها شر الاحتلالات المتعاقبة، وذلك بعكس بلاد الرافدين وبلاد الشام حيث يعيش الآشوريون والآراميون والعبرانيون، إذ لطالما شكلت هاتان الرقعتان الجغرافيتان مطمعاً ومغنماً للغزاة. ولعل هذا ما يفسر تعاقب الاحتلال الساساني (الفارسي)، واليوناني، والروماني، عليهما.

تحدثنا المصادر التاريخية عن سطوة اللغة اليونانية حقباً طويلة على سكان سورية الطبيعية، بفعل هيمنة الاحتلال اليوناني ومن بعده الروماني، ما فتح الباب واسعاً أمام دخول تغييرات جمَّة على الواقع اللغوي للآراميين. بالمقابل فإن العرب ظلوا بمعزل عن كل هذه المتغيرات، ما جعل لغتهم تحتفظ بأكبر قدر ممكن من خصائص اللغة الأم.

اللغة العربيةالعالم العربي

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة