طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

فتنة فيلتمان تهدّد
27/11/2019

فتنة فيلتمان تهدّد "الحراك" وتؤسس للانقسام الشامل في لبنان

محمد أ. الحسيني

لا يكاد ذيل سفير الفتنة الأمريكي جيفري فيلتمان يغيب إلا ويظهر رأسه ناشرًا سمّه حيثما حلّ، وشهادته الأخيرة حول لبنان في اجتماع اللجنة الفرعية للشرق الأوسط وشمال افريقيا في الكونغرس الأميركي، والتي تضمّنت الكثير من الدسّ والتحريض، تأتي في خانة السعي لنشر الفوضى في لبنان وإيقاع الفتنة، ولا سيما بين الجيش اللبناني وحزب الله، حيث أجرى مقاربات خبيثة تأخذ الحراك المطلبي أولاً إلى الحظيرة الأمريكية، وثانياً تجعل الجيش قبالة حزب الله في عملية تشويش مكشوفة، تستعيد في لغتها تفاصيل الخطاب الذي دأب فيلتمان على إطلاقه منذ أن كان سفيراً في لبنان عام 2004.

وتتطابق إفادة فيلتمان مع دراسة أعدّها هو، ونشرها معهد "بروكنز" الأميركي، قال فيها إن "الاحتجاجات في لبنان بيّنت أنّ ما كان غير وارد في السابق قد يصبح الآن ممكناً". ولئن كان فيلتمان اليوم معزولاً عن أي منصب سياسي أو دبلوماسي أمريكي أو دولي بعد إنهاء مهامه كمساعد للأمين العام للأمم المتحدة، إلا أن استدعاءه للإدلاء بهذه الشهادة لا يعني الداخل الأمريكي بقدر ما يرتبط بإمعانه في إذكاء نار الفتنة في الداخل، واستنهاض أذنابه من اللبنانيين في خضم اضطراب النظام السياسي الذي يعيشه لبنان.

ولطالما مثّل لبنان في نظر الإدارة الأمريكية، ولا سيما بعد حوادث 11 أيلول / سبتمبر 2001، واحدة من الجبهات الثلاث في ما أسمته الحرب على الإرهاب (إلى جانب العراق وأفغانستان)، وصولاً لتحقيق ثلاثة أهداف رئيسية هي: ضمان أمن "إسرائيل"، ضمان بقاء الأنظمة العربية الحليفة لأمريكا، والحفاظ على مصادر الطاقة في منطقة الشرق الأوسط، وفي طليعتها النفط. وبعد إسقاط خيار الحرب العسكرية، التي جعلت من الولايات المتحدة البلد الأكثر كرهاً في العالم، تحوّلت الأدوات الأساسية لتحقيق هذه الأهداف إلى نشر الديمقراطية في دول المنطقة تحت عنوان التغيير، وتعزيز دور ما يسمّى المجتمع المدني ودعم منظّماته وتشكيلاته المختلفة، والسعي لجعلها شريكة في الحياة السياسية في هذه الدول.
 
المطالبة بالانتخابات المبكرة

ليست المرة الأولى التي يشهد فيها الشارع اللبناني امتلاءً للساحات، فلطالما كان لبنان ساحة للحريّة والتعبير الحر، وشهدت بيروت، منذ عهد ما قبل الاستقلال، تظاهرات ومسيرات شعبية طالبت برحيل الاحتلال وإرساء منظومة حكم تلبّي تطلّعات الشعب، لكن المسألة هذه المرّة تتجه إلى استغلال التظاهرات الشعبية والحراك بطريقة معكوسة. فمطالبة فيلتمان الإدارة الأمريكية بإيلاء الشأن في لبنان اهتماماً أكبر، لا يتعلّق بدعم واشنطن لتلبية المطالب بمكافحة الفساد ومحاسبة المسؤولين عن الهدر والأزمة المالية، بل يهدف إلى دفع الشعب اللبناني لاتخاذ خيارات في "خدمة مصالحنا الخاصة، والمساهمة في التقديرات التي سيقوم بها اللبنانيون في ما يتعلق بالحكومة والقرارات السياسية، ومنع فراغ من شأنه أن يملأه الآخرون على حسابنا".

فيلتمان - الذي لم يتخلَّ عن أبوّته لقوى 14 آذار وما يسمّى "ثورة الأرز" ولم يحِد عن السير في خطه الفتنوي - أكّد على أهمية تفعيل هذه الأدوات في الساحة اللبنانية مع دخول الحراك المطلبي أسبوعه السادس، والظروف الراهنة، وفق تقديره، تساهم في هذا الأمر من زاوية مماثلتها للواقع الذي أعقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط من العام 2005، حيث جعلت هذه القوى من استشهاد الحريري مطيّة سياسية للانقلاب على الوجود السوري في لبنان، وإحراج الرئيس عمر كرامي ودفعه إلى الاستقالة، ومن ثم إجراء انتخابات نيابية حازت فيها هذه القوى على الأكثرية لتتّجه إلى تأليف حكومة جديدة برئاسة فؤاد السنيورة، وتهيئة الساحة أمام تنفيذ الأجندة الأمريكية وصولاً إلى محاصرة الرئيس إميل لحود، وتشكيل نظام يسير في ركب السياسة الأمريكية.. السيناريو اليوم يتكرّر بعناوين مختلفة وتفاصيل وأسماء جديدة، والمواقف التي أطلقها فيلتمان آنذاك، وشكّلت الأهداف الأساسية لمهمته في لبنان، تتكّرر أيضاً.

ومن هنا يمكن فهم دفع فيلتمان باتجاه إجراء انتخابات نيابية مبكرة تكسر تمثيل الأكثرية التي حققها الخط الوطني الذي يمثّله حزب الله وحلفاؤه، (الحلفاء هنا وفق منظور الرجل هو "التيار الوطني الحر" الذي يمثّل الأغلبية المسيحية في لبنان)، وهذا لا يتحقق إلا بإسقاط عهد الرئيس العماد ميشال عون، عبر سحب الدعم الشعبي له، وتحميله مسؤولية تدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية، وإسقاط شرعيته والتوجّه نحو إجراء الانتخابات واستعادة الاكثرية النيابية، وصولاً إلى تغليب كفّة الخط الآخر الذي تمثّله قوى 14 آذار وتيار "المستقبل"، وتقوية دور القوى الأخرى في الشارع المسيحي (القوات اللبنانية والكتائب وتفرّعاتهما)، وهذا المستجدّ في حال حصوله يسهم باستعادة التأثير الأمريكي المباشر على القرار اللبناني الرسمي.

مطالب الحراك ونزع سلاح المقاومة

هكذا وبكل وقاحة يحرّض فيلتمان على استغلال الحراك المطلبي والتدخّل في تشكيل المواقف السياسية والمؤسسات الحكومية لإبقائها تحت السيطرة وفي خدمة المصالح الأمريكية، ومنع أخصام واشنطن (روسيا والصين وإيران وبعض دول أوروبا) من أن يكون لهم موطئ قدم في لبنان، سواء تحت عناوين سياسية أو اقتصادية وإنمائية، والحرص على إبقاء لبنان رازحاً تحت عبء أزمته الاقتصادية - المالية، وضرب قدرته على معالجتها، وهو الذي يتحضّر لاستخراج النفط بمساعدة شركات روسية وفرنسية وإيطالية. وفي المقابل شهر فيلتمان جزرة الابتزاز المبتذل حين ألمح إلى قدرة واشنطن على تأمين الدعم الاقتصادي للبنان وربطها "بالقرارات التي ستُتخذ بشأن تشكيل الحكومة المقبلة".

ولعلّ ورود كلمة "حزب الله" عشرات المرات في شهادته يظهر محوريّة الحزب وسلاحه في سياق الوجهة التي يعمل على تكريسها كقضية جوهرية تتعلّق بحل الأزمة والتي لا تكون إلا بنزع سلاحه "على المدى الطويل"، فضلاً عن تعمّد فيلتمان الربط بين بقاء سلاح حزب الله والفقر الدائم، وبين نزعه وتحقيق الازدهار في لبنان، وبالتالي فإن كلام فيلتمان عن خيارات الشعب اللبناني يدلّ على مدى استخفاف الأميركيين بالشأن اللبناني وبقراره وسيادته وبمطالب شعبه، فلا يهم الإدارة الأميركية من لبنان إلا أن يبقى ضعيفاً أمام "إسرائيل" ومرتهناً لهم من جهة، وإخراجه من محور المقاومة من جهة ثانية ومنعه من تشكيل أي تهديد للكيان الصهيوني، وليس الحراك الشعبي ومطالبه المحقّة، بالنسبة لفيلتمان ووفق رؤيته، سوى مطيّة جديدة يعمل الأمريكيون وأعوانهم في الداخل على استغلالها بأدوات داخلية، لتحقيق ما لم يستطيعوا تحقيقه بأدوات خارجية وإسرائيلية.

الجيش اللبناني في المنظور الأمريكي

وضعت الإدارات الأميركية المتعاقبة، ولا سيما منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، بنداً أساسياً في كل مشاريعها السياسية المخصّصة للبنان، يقضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع فلسطين المحتلة، وألصقت هذا البند بمطلب نزع سلاح حزب الله وإبعاد عناصره عن الحدود ووقف عمليات المقاومة ضد الاحتلال، ولكن واشنطن لم تفعل أي شيء لتحقيق انسحاب إسرائيل من الأرض اللبنانية المحتلّة، وإمداد الجيش بالقدرات العسكرية والأسلحة والتجهيزات التقنية المتطوّرة التي تمكّنه من القيام بواجباته في نشر الأمن والدفاع عن سيادته تجاه الاعتداءات الإسرائيلية، بل إن أقصى ما قدّمته الولايات المتحدة للجيش في هذا الشأن، منذ العام 1985 وحتى العام 2005، تجهيزات لوجستية عادية وذخائر بسيطة تؤهله فقط ليكون شرطة داخلية أو حرس حدود، كما خصّصت مساعدات مالية زهيدة للتثقيف والتدريب العسكري، وغالباً ما تعمّدت واشنطن ابتزاز لبنان عبر التهديد بإنقاص قيمة هذه المساعدات أو وقفها، مع تحديد مهل زمنية للإفراج عنها في حال تم نشر الجيش على الحدود.

وبعد العام 2006 استأنفت واشنطن تقديم مساعداتها العسكرية للبنان، وبلغت خلال عامين فقط 220 مليون دولار، ولكنها اقتصرت على تجهيزات مستعملة ومحدودة الفعاليّة والاستخدام، فالطائرات الحربية ممنوعة والقذائف والصواريخ والأسلحة المتطوّرة محظورة، وكذلك أجهزة المراقبة الحسّاسة، فضلاً عن فرض فيتو على المساعدات التي وعدت الدول الأوروبية بتقديمها إلى لبنان، وذلك بهدف ضمان التفوّق النوعي الإسرائيلي وعدم الإخلال بالتوازن - وهو أمر غير وارد في كل الحالات - بين الجيش اللبناني وجيش الاحتلال.

لم  يعفِ فيلتمان الجيش اللبناني من خطاب التفرقة، فامتدح في شهادته سمعة الجيش وأداءه "الرائع" في حماية المتظاهرين ضد من أسماهم "البلطجية" في بيروت، بينما بقيت وحداته في النبطية على الحياد!! دعياً إلى رعاية هذه المؤسسة لأن ذلك "بالتأكيد في مصلحتنا". وإذ استبعد فيلتمان وضع الجيش في مواجهة حزب الله خشية نشوب حرب أهلية، إلا أنه شدّد على أهمية "تحسُّن قدرات الجيش وكفاءته المهنية بفضل التدريب المستمر والمعدات الأميركية"، وكأنه يرسم الدور الذي يجب أن يضطلع به الجيش اللبناني، ويضع تصنيفه كمؤسسة مرتهنة للمساعدات الأمريكية، وهذا الكلام لا يندرج فقط في خانة التدخّل السافر بالشأن اللبناني الرسمي، بل يشكّل وقاحة وفوقية ذميمة اعتاد فيلتمان على القيام بها في التعاطي مع بعض السياسيين اللبنانيين، ولكنها غير مقبولة أبداً حيال مؤسسة الجيش التي بذلت الكثير من التضحيات من أجل السيادة الوطنية.

ولعلّ الإشارة الأكثر وقاحة في شهادة فيلتمان بهذا السياق، حديثه عن المعارك التي خاضها الجيش من مخيم "نهر البارد" وصولاً إلى منطقة الجرود على الحدود اللبنانية - السورية، لاعباً مرة جديدة على وتر الفتنة المذهبية بالحديث عن انتماء هؤلاء التكفيريين إلى الطائفة السنّية، ليختم حديثه بالغمز من زاوية استياء بعض ضباط الجيش مما أسماه "مصادرة حزب الله لدورهم"، متوقّعاً "خروج هذا الاستياء إلى العلن" بعد فترة، وهذه دعوة علنية لتأليب الجيش على حزب الله ومحاولة يائسة لدق إسفين بين الطرفين، ويعكس مدى حنق فيلتمان على سلسلة إحباطاته في هذا السياق، ولكنّه يدعو أيضاً في المقابل إلى أخذ كلام فيلتمان بعين الاعتبار، والاحتياط من مغبة مساع أمريكية جديدة لخلف فتنة جديدة تحت هذا العنوان، لا سيّما أنه ربط ذلك بدعوته للإفراج عن المساعدة الأمريكية للجيش في لعبة ابتزاز رخيصة ومكشوفة كمقدّمة لاعتبار الجيش مؤسسة وطنية تحظى باحترام الولايات المتحدة، وتسهم في تمتين سمعة الجيش مقابل تراجع سمعة حزب الله، وتقويض ما اعتبره فيلتمان "المحاولات المستمرة التي يقوم بها حزب الله وإيران وسوريا وروسيا لجذب اللبنانيين إلى مداراتهم من خلال التشكيك في موثوقية الولايات المتحدة".

 

جفري فيلتمان

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل