طوفان الأقصى

خاص العهد

واشنطن والاستثمار في الفوضى..هذا ما تريده من لبنان  
22/11/2019

واشنطن والاستثمار في الفوضى..هذا ما تريده من لبنان  

فاطمة سلامة

ثبّتت شهادة السفير الأميركي السابق في لبنان جيفري فيلتمان كل ما قيل ويُقال عن اليد الأميركية الساعية لزعزعة الاستقرار في لبنان. طبعاً، كلام فيلتمان لم يكن مستغرباً لكنّه أتى ليؤكّد المؤكّد، فما لعبته واشنطن في الخفاء ظهر علانيةً وبشكل واضح لا يحتمل الشك أو التفسير والتأويل. منذ بدء الحراك الشعبي، كُشفت معلومات عن تورط الولايات المتحدة الأميركية حتى العظم في إشاعة الفوضى ومحاولة جر لبنان نحو الفراغ. تحوّلت شهادة فيلتمان الى "وثيقة" فضحت تفاصيل "أجندة" الولايات المتحدة الأميركية حيال ما يجري في لبنان وكل ما تُفكّر به سراً، وتتشاركه مع أدواتها في الصالونات السياسية. 

التدخل الأميركي المباشر وغير المباشر في شؤون الداخل اللبناني ليس بجديد، فهذا الأمر اعتدنا عليه على مدى عقود خلت. سفارة عوكر بالتحديد وكل ما دار في غرفها المغلقة من أحاديث وتوصيات و"تعليمات" للأدوات اللبنانيين، كانت خير دليل على اتخاذ واشنطن من لبنان ساحة لتحقيق مصالح عدة على رأسها ما يُسمى بـ"الأمن القومي الإسرائيلي". هذه النقطة تحديداً جعلت واشنطن تسعى الى "تطويع" كل قدراتها لخدمة هذا المشروع. وهو ما يُفسّر محطات الفترة الأخيرة التي تلت 17 تشرين الأول/أكتوبر بكل ما حملت من تهديدات للبنان وعقوبات. ماذا تريد واشنطن من لبنان؟ لعل الاجابة على هذا السؤال ببساطتها وبداهتها وعدم حاجتها الى "الفلسفة"، توصلنا الى الكثير من الحقائق، وهي حقائق لا نجهلها ربما، بل إنّ معظمنا يؤمن بها، لكننا نحتاج الى التعبير عنها بصوت عال، لنعي حجم المؤامرة التي نتعرّض لها. واشنطن لا تريد شيئاً من لبنان الرسمي ككيان ووطن. هي تريد من المقاومة الموجودة في لبنان. تريد رأسها حفاظاً على ما أدرجناه سابقاً أي على الأمن القومي "الإسرائيلي". واشنطن لا تريد شيئاً من لبنان سوى أن ينقلب على تلك المقاومة التي تستمد شرعيتها من القاعدة الشعبية الكبيرة. تريد إخراج تلك المقاومة من المؤسسات الدستورية وسحب الغطاء الرسمي عنها، لممارسة المزيد من الضغط عليها. وفي هذا الإطار، اندرجت استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري بضغط أميركي شهدت عليه قوى سياسية بارزة في البلد، سيأتي الوقت لتُكشف تفاصيله لاحقاً. 

لم تكتف واشنطن باستقالة الحكومة، بل عملت على عرقلة تشكيلها لتتم بشروطها وكما يحلو لها. حكومة تكنوقراط لا سياسة فيها، رغم أنّ وظيفة مجلس الوزراء سياسية. إلا أن واشنطن تريد أن تضمن لربيبتها "إسرائيل" تجريد حزب الله من شرعيته. كلام فيلتمان كان واضحاً للدلالة على هذا الهدف. اشترط تقديم "دولته" الدعم المالي والاقتصادي بالخيارات السياسية المقبلة، وتلبية دعوات المتظاهرين بتشكيل حكومة تكنوقراط. أكثر من ذلك، قدّمت واشنطن على رأس الشروط، استبعاد وزير الخارجية جبران باسيل. هذا الرجل بنظرها يُشكّل حجر عثرة في طريق تحقيق مصالحها في المنطقة. المحافل الدولية تشهد على ذلك، فمواقفه الداعمة للمقاومة جعلت منه رجلاً "مستفزاً" لواشنطن لا بد من التخلص منه في أي حكومة مقبلة، خصوصاً لجهة مواقفه المؤيدة لعودة اللاجئين السوريين من لبنان الى ديارهم، وإعلانه العزم على زيارة سوريا لتنسيق تلك العودة. 
 
والجدير ذكره أنّ كلام فيلتمان يُبين أن واشنطن قرّرت هذه المرة الدخول على خط العبث في الساحة اللبنانية بلا أقنعة ولا كفوف لمحاربة -كما بات معروفاً- المقاومة، والأسباب كثيرة. طفح كيل واشنطن من قوة واقتدار حزب الله في لبنان وقدرته على الصمود. هذا الحزب الذي يُشكّل أكبر تهديد للعدو الصهيوني، وما أدراك ما العدو الصهيوني بالنسبة لواشنطن، هذا الحزب يبدو غير مبال بكافة التهديدات التي تطلقها أميركا بين الحين والآخر حفاظاً على "أمن إسرائيل". الأمثلة على ذلك كثيرة. في عدوان تموز 2006، كان المطلوب تجريد حزب الله من سلاحه، اتخذت أميركا صفة المفاوض، واشترطت تسليم حزب الله كامل سلاحه لإيقاف الحرب. حينها، جاءت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قائلةً بكل ثقة إنّ حزب الله سيُهزم وسيُدمّر واستخدمت الجملة الشهيرة: المنطقة تواجه حالة ولادة شرق أوسط جديد. المقاومة آنذاك لم تهتم بل صمدت على مدى 33 يوماً وانتصرت. 

خاضت بعدها واشنطن حروباً بالواسطة عبر "التكفيريين" الذين عملوا على إقامة ما تُسمى الإمارة في لبنان وأرهبوا شعبه بالتفجيرات المتنقّلة، لكنّ المقاومة كانت بالمرصاد وحقّقت مع الجيش اللبناني التحرير الثاني. بالموازاة، اتخذت واشنطن من "العقوبات" على حزب الله ومؤيدين له وسيلة للضغط عليه وعلى الرأي العام المؤيّد، لكنّ هذا الأسلوب لم يُغيّر في عقيدة ومنهج حزب الله قيد أنملة، بل على العكس كان الصمود عنوان المرحلة، رغم كل زيارات التحريض والتهويل التي قام بها مساعد وزير الخزانة الأميركية لما تسمى شؤون الإرهاب ومكافحة تبييض الأموال، مارشال بيلينغسلي وتحريضه المصارف على حزب الله. بل واستخدام أسلوب تضييق الخناق على المصارف اللبنانية بحجة تعاونها مع الحزب، وممارسة أقصى عمليات الضغط غير المسؤول، والذي بلغ ذروته في العدوان الاقتصادي الذي شنته مؤخراً، ورغم ذلك صمد لبنان ومعه المقاومة في وجه كل تلك المؤامرات، لتسقط كافة المحاولات الأميركية أرضاً. 

بموازاة الحروب العسكرية والاقتصادية، لجأت واشنطن الى الحروب الاعلامية والناعمة، متخذة من سياسة بث الأضاليل والشائعات وسيلة. إذ عملت على تسخير الامكانيات لبعض الوسائل الاعلامية، عبر جلب الدعم لها، كما دفعت مئات ملايين الدولارات لتشويه صورة حزب الله، لكنها لم تستطع. على العكس، قاعدة هذا الحزب توسّعت يوماً تلو آخر، والانتخابات النيابية الأخيرة شهدت على ذلك، اذ نال مرشّح حزب الله في بيروت أمين شري أصواتاً تفضيلية (22.961) أكثر من رئيس الحكومة سعد الحريري (20.751).      

لكل تلك الأسباب ومعها المزيد مما لا يتّسع المقال لذكره، دخلت واشنطن وبقوة على خط الفوضى في لبنان. فرأس المقاومة لم "ينكسر" رغم كل تلك التحديات التي فرضتها واشنطن على مدى سنوات، بل على العكس ازدادت قوة، وهو الأمر الذي دفع بالولايات المتحدة الأميركية الى الانتقام من لبنان بكل ما فيه، وتسخير كافة الامكانيات لزعزعة استقراره. الى الانتقام من لبنان ليس لأنّه لبنان، بل لالتفافه الرسمي والشعبي حول المقاومة. لكل هذه الأسباب، عملت واشنطن على ركوب موجة "الحراك" وبث الفوضى، ودفع لبنان نحو الانهيار اقتصادياً عبر "خنقه" ومالياً ونقدياً، مستخدمةً أسلوب تشديد العقوبات واللعب من تحت الطاولة في سعر صرف الدولار وعرقلة تشكيل الحكومة، واضعةً لبنان أمام خيارين: إما الفقر والجوع والفوضى أو تنفيذ "خياراتنا" بسحب الغطاء عن المقاومة عبر تشكيل حكومة تكنوقراط وما شابه من شروط. 

تبدو واشنطن ومن كلام فيلتمان أنها مستعدة لتأمين كافة أشكال الدعم للبنان شرط التخلي عن المقاومة. كلام السفير الأميركي السابق لجهة تعاطفه  مع المؤسسة العسكرية يثير الغرابة. فواشنطن التي تلوّح كل فترة بتجميد ما تسميها "مساعدات" للجيش اللبناني وتمنع "تسليحه" بأسلحة ذات قيمة، تراها اليوم تفصح على لسان أحد دبلوماسييها عن تقديم معونات "مشروطة" للجيش شرط "حماية المتظاهرين" الذين تتقاطع مطالبهم مع المصالح الأميركية. تلك المصالح التي لا شك لا تخرج عن مصلحة "إسرائيل". وفي هذا السياق، لا بد من الاشارة الى نقطة استراتيجية في هذا الصراع القائم اليوم تتعلّق بملف النفط والغاز وترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة والذي تتخذ فيه واشنطن صفة المفاوض الساعي لتحسين شروط كيان العدو ولو على حساب ثروات وخيرات لبنان. وفي هذا التوقيت بالذات لا بد من طرح الكثير من علامات الاستفهام حول المستفيد من عرقلة مرحلة التنقيب عن النفط التي كان من المفترض أن يطلقها لبنان منذ أيام. 

تسعى واشنطن إذاً لكسر إرادة المقاومة مستخدمةً بعض الأدوات في الداخل اللبناني من سياسيين وإعلاميين وغيرهم. تسعى لتحقيق هذا الهدف مستغلةً أوجاع الناس ظناً منها أنها تستطيع كسر إرادة الشعب اللبناني عبر تهديده بالجوع والفقر، وهو الهدف الذي عجزت عن تحقيقه لعقود، ليبقى ما تطمح اليه أضغاث أحلام أثبتت التجارب السابقة أنّها لم ولن تصبح حقيقة.
 

جفري فيلتمان

إقرأ المزيد في: خاص العهد

خبر عاجل