طوفان الأقصى

خاص العهد

الأبنية القديمة في لبنان.. ترمَّم أم تُهدَم؟ 
19/02/2024

الأبنية القديمة في لبنان.. ترمَّم أم تُهدَم؟ 

علي ماضي

اعتاد اللبناني أن يعيش دائمًا على الصدمات. للأسف، لا يحسب أموره جيدًا ويستفيق بعد أن تقع الواقعة، فإما أن يتدارك أموره ويخرج بأقل خسائر ممكنة وإما أن يكون قد "أكل الضرب وراحت عليه"، وبعدها لا يعود للندم مكان. ومن الأمثلة الواقعية لهذا النموذج، ما شهدته عدة أبنية من انهيارات كان آخرها مبنى مكون من 5 طبقات في منطقة صحراء الشويفات، حالت العناية الإلهية دون وقوعه على رؤوس قاطنيه الذين أخلوه قبل دقائق من انهياره. هذه الحادثة طرحت عدة علامات استفهام حول أهلية المباني في لبنان ومدى مقاومتها لأي عوامل طبيعية قد تحدث، خاصة وأن عمرها تجاوز عشرات السنين.

وفي هذا السياق، يشير أحد الاستشاريين في الهندسة المدنية إلى أن أي مبنى مرّ على تشييده عدة سنوات يحتاج بالدرجة الأولى لفحص من قبل فريق هندسي مختص بالهندسة الإنشائية أو المدنية، وأوّل هذه الفحوصات الفحص البصري، الذي يحصل عبر كشف أوّلي من قبل مهندس ليأخذ فكرة عامة عن متانة المبنى، وعلى ضوء النتيجة قد يتطور إلى إجراء فحوصات للإسمنت والحديد أو الأساسات وغيرها، وبهذا الفحص البصري تُصنّف المخاطر في المباني، وأبرزها الأعمدة تليها الأسقف، على أنّ ركائز البناء أو أساساته لا يمكن الوصول إليها بصريًا لأنها مخفية.

1 - أعمدة البناء بمثابة العمود الفقري

في الأمور الظاهرة الأهم والأخطر هي الأعمدة لأنها تهدّد سلامة المبنى واتزانه ككل، وهي تقسم إلى أعمدة وسطية، هي الأخطر، وأعمدة طرفية أقل خطورة، مع التركيز على الأعمدة التي بينها مسافات كبيرة (فوق 5 أمتار) وهي الأشد خطورة، كذلك يتم التركيز على الطبقات السفلى (تحت الأرض) والتحتية صعودًا، والقاعدة في شدة الخطورة تبدأ من الأسفل صعودًا إلى السطح.

عند بداية إنشاء البناء يكون صالحًا للسكن بعد إجراءات وموافقة نقابة المهندسين، ولكن بعد 5 خمس سنوات تبدأ درجة حماية الحديد بواسطة غلاف الإسمنت بالضعف، ويبدأ الخلل بالظهور من خلال إهمال الصيانة، ما يؤدي إلى حصول الصدأ في الحديد بعد انكشافه أمام العوامل الطبيعية.

يبدأ الخلل من إهمال الصيانة، وصيانة العمود تتمثل بإبعاد المياه عنه، لا سيما عامل "النش"، وهذه الصيانة تمنع وصول المياه للإسمنت والحديد، وتكون بسيطة عبر استخدام الطلاء وصيانة التمديدات والأدوات الصحية في البناء. والمحافظة على طبقات الطلاء للأعمدة هي العامل الأبرز للمحافظة على عدم وصول المياه إلى العمود من الداخل، وذلك من خلال طلاء طبقات تمنع تسرب الرطوبة والأوكسيجين إلى الحديد المحمي بطبقة من الباطون.

بحسب المختصين، فإن وصول المياه والأوكسيجين وتلف طبقة الحماية تُنتج دائرة كهربائية حول الحديد وتنقل الذرات من مكان إلى آخر، ما يؤدي إلى انتفاخه في جهة وتآكله في جهة أخرى، وهذا يضغط على الإسمنت ويتسبب بكسره، ويظهر لدينا برؤية تفسخات خارجية، عدا عن وجود الكربون والأملاح التي تؤدي إلى تلف طبقة الحماية، (مكونات خلطة الباطون فيها أملاح أو في الطبقات السفلية التي لا يوجد فيها تهوئة وفيها أوكسيجين يدخل إلى الحديد ويبدأ الصدأ). هذه العملية تبدأ بعد 5 سنوات من البناء، وتحتاج إلى حوالى 10 سنوات أخرى للظهور الخارجي على البناء من تفسخات وصدأ.

بعد مرور 15 إلى 25 سنة على إنشاء البناء، ومع إهمال عامل الصيانة تبدأ أجزاء الإسمنت بالتساقط، والأخطر من بين الأعمدة هي التي تتعرض للماء (النش) أو الرطوبة. 
وعندما تصبح نسبة التلف في العمود أكثر من 20% ندخل مرحلة الخطر (إذا كان لدينا عمود طوله وعرضه 60*30 مع تآكل 12 سنتم و6 سنتم في الاتّجاهين يبدأ الخطر)، وهنا يذهب "مُعامل الأمان" الموجود في هذا العمود، ولا يعود يستطيع أن يحمل الأوزان الموجودة عليه.

وإذا كان هناك من خطر على عمود واحد فإن الخطر قد يكون موضعيًا، ومع ازدياد عدد الأعمدة المتضررة ترتفع نسبة الخطر وصولًا إلى تشكيل خطر على المبنى ككل، (كل عمود يتضرر ينقل ثقله إلى الأعمدة الأخرى، وتحصل الأمور بسرعة فالعمود الأقرب لا يمكنه حمل هذا الثقل فيسقط وينقل ثقله إلى عمود آخر، وهكذا يحدث انهيار كلّ الأعمدة).

* معامل الأمان: يعبّر عن مقدار زيادة قوة نظام عما يحتاجه الحمل التصميمي.

معامل الأمان إذا كان منخفضًا، فإن أي تهديد قد يعرّض المبنى للضرر:

 - 0.99: لا يتحمل أي ضغط إضافي
 - 1.1: قد يتحمل فقط ضغط طابق إضافي
 - 2: معامل أمان يتحمّل ضغط عدد طبقات مساويًا للطبقات الموجودة.

ويمكن أن نجد أبنية تكون واقفة وعمودها غير مكسور، لكن أي عامل طبيعي من قبيل هزة أرضية أو غيرها سيسقط البناء لأن معامل الأمان فيه منخفض.

2 - خطورة الأسقف

بعد الأعمدة في نسبة الخطورة تأتي الأسقف، وأبرز ما فيها بحسب تصنيف المخاطر:

 - الشرفات (البرندا - الشرفة النافرة عن العمود ولا شيء يثبتها): وهي من أكبر المشاكل انتشارًا، وقد تقع دون أن يسندها جزء آخر من البناء، وبمجرد أن يصبح فيها خلل ستسقط، ومن أسباب خطورتها أنها معرضة لمياه الأمطار بشكل دائم، كما أنها معرضة لتجمع المياه تحت "البلاط" ووصوله إلى الحديد، ما يؤدي للصدأ دون أن يراها أي من السكان أو المهندس المختص، وفجأة دون أي إنذار واضح قد تسقط.

من الإنذارات التي قد تدلّ على وجود مشكلة في الشرفات أنها تبدأ بالتفسخ عند أطرافها ويتشقق "البلاط" فوقها، وهنا إذا كانت تحتوي على فسخ شَعري (نصف ملم وما دون) فلا تكون هناك مشكلة، أما إذا وصلت إلى 1 ملم وما فوق، وأحيانًا إلى 1 سنتم، فالشرفة ستقع، وهذه الإشارات تبيّن لنا أن هناك مشكلة في الشرفة.

 - ثاني أخطر أمر على الأسقف هي المسافات الكبيرة بين الأعمدة، أي 5 أمتار وما فوق، وهذه المنطقة يركز عليها المهندس ويعاين التشققات من الجهة السفلى، أما المسافات من 3 أمتار وما دون فهي أقل خطورة، وفي هذه الحالة الخطر يتمثل بالكتل من الباطون التي قد تقع وقد تؤدي لمقتل الناس، وهي تنتج عن وجود تسرب للمياه من الأمطار أو من التمديدات الصحية ويتمدد الماء تحت "البلاط" دون رؤيته، ويبدأ الصدأ بالفتك بالحديد ويمتد على مسافة كبيرة، ثمّ يضغط على الباطون لتقع منه قطعة كبيرة قد تصل إلى متر مربع ويمكنها قتل إنسان.

هذه المشكلة رغم أنها موضعية لكنّها مؤذية كثيرًا، وفي هذه الحالة قد لا يكون هناك خطر على المبنى بشكل عام، بل المشكلة محصورة في شقة من البناء ويمكن ترميمها. والمحاذير التي تدلّ على هذا النوع من المشاكل هي وجود تفسخات في السقف وانتفاخ مع صدور صوت عند الطرق عليه، وهو أكثر حدوثًا في الطبقة الأخيرة من البناء، مع وجود مياه الأمطار ومياه الخزانات وغيرها من مصادر النش التي تضر بالسقف بشكل كبير، وهو ما يصبح ملحوظًا بشكل كبير بعد 25 عامًا على التشييد.

في هذه الحالة يمكن للمهندس المختص أن يكشف موضعيًا على سلامة الأسقف، كما أن هناك إشارات تظهر بعد 15 عامًا على تشييد البناء من تفسخات أو هبوط نسبي في السقف أو التواءات، قد يكون سببها "ترييح البناء"، وهو ناتج عن وجود مشكلة في الركائز تتمثل بهبوطها مع الوقت، ما يترتب عليه هبوط و"ترييح" في كلّ أجزاء المبنى.

هنا بات يمكن للقاطن في البناء أن يعرف أنّ هناك مشاكل في الركائز من خلال التشققات في الحوائط، وبات يعرف مشاكل الأعمدة من العلامات التي تظهر عليها، كذلك بات يعرف مشاكل الشرفات من ظهور تشققات عليها، وأيضًا مشاكل السقف من خلال التشققات والانتفاخ فيه.

وبخصوص عنصر الزلازل، ينبغي أن يوجد في المبنى حوائط قص (Shear wall)، وينبغي أن يكون في المبنى 4 حوائط بالحد الأدنى مبنيّة بطريقة متعاكسة، وهي تكون مبنيّة من الباطون المسلّحو تبدأ من أساساته إلى الطابق الأخير، ودورها مساعد في حفظ اتزان المبنى في الحالات العادية وليس فقط في حالات حصول زلازل.

عمر البناء والصيانة الدورية

يلفت المهندس الاستشاري إلى أن طفرة البناء حصلت في لبنان في فترة التسعينيات، أي منذ حوالى 35 سنة، وهذا من أسباب ظهور المشاكل الكثيرة حاليًّا في الأبنية، وهنا نتحدث عن بناء مصمّم بشكل صحيح وضمن الأصول، فما بالنا بالمباني العشوائية التي يتكوّن بعضها من 3 أو 4 طبقات دون أساسات أصلًا، وهي بذلك خارج القواعد الهندسية ولا يمكن فحصها؟

ومن المعروف أن عمر المباني قد يتراوح بين 80 و100 سنة مع المحافظة على صيانتها الدورية، ودون صيانة يبدأ المبنى بالتلف من عمر 20 أو 25 سنة، وبالأصل لا يوجد مشكلة في الباطون بحد ذاته، بل المشكلة في عمر الحديد الذي بداخله، والخطوة الأساسية في الصيانة هي منع وصول المياه إلى الحديد.

الفترة المتعارف عليها في الصيانة الدورية:

 - الطلاء: كلّ 3 سنوات
 - صيانة الأدوات الصحية: كلّ 5 سنوات
 - فحص الإسمنت بشكل دائم: من 5 إلى 10 سنوات
كما توجد عدة أمور يمكن فحصها من قبل مختصين وصيانتها على فترات مختلفة.

جهات الرقابة وآلية التدقيق بالمبنى

في لبنان، لا يوجد جهة رسمية تراقب أو تشرف على موقع البناء وتقول إن هذا البناء صالح ومتين أو غير صالح، والرقابة تتم عبر إصدار رخصة البناء من قبل نقابة المهندسين، حيث يتابع البناء مهندس مسؤول عن المبنى ومعه مجموعة من المهندسين تصمم المبنى، والنقابة تقوم بالتأكيد على سلامة الخرائط دون متابعة متواصلة على الأرض بل بشكل ظاهري. 

وهناك بعض المباني تخضع للتدقيق من قبل شركات خاصة، وعلى المشروع أن يمرّ بهذه الشركة، وهي تقوم بالتدقيق بكلّ التفاصيل بعد تدقيق عام من نقابة المهندسين، هذا في مرحلة التصميم، أما في مرحلة التنفيذ فتشرف الشركة أيضًا على مراحل تشييد البناء وتصدر تقارير دورية وتطلب تصحيح الأمور في حال حدوث خلل خلال عملية البناء، وعندما يصبح المبنى صالحًا للسكن ينبغي لهذه الشركة أن تعطي موافقة بأن هذا المبنى كانت خرائطه مطابقة للمواصفات ونُفذ ضمن الأصول والقواعد، إلا أن بعض المساحات الصغيرة من الأبنية وعدد الطبقات القليلة لا تحتاج لشركة تدقيق.

ويبقى الشق القانوني وهو متعلّق بالبلديات التي عادة ما تقوم بدورها، وهو أمر له علاقة بالتعديات أو المخالفات، سواء لناحية عدد الطبقات أو التعدي على الجيران أو الطرقات وغيرها.

متى يصبح المبنى غير صالح للسكن؟

عندما يكشف المهندس على المبنى ويجد أن درجة الخطورة عالية، يطلب إخلاء مكان في الشقة قد يكون معرضًا للخطر، أو قد يطلب إخلاء شقة في المبنى والقيام بأعمال الصيانة، أو قد يطلب إخلاء المبنى، وذلك وفقًا لمدى خطورة الوضع ومستوى السلامة المتوفّرة.

كما أن صيانة المبنى تكون محفوفة بالمخاطر في حال كانت سلامته مهدّدة ككل، وينبغي لمن يقوم بالترميم أو الصيانة أن يمتلك خبرة كبيرة ويؤمّن سلامة العاملين في الترميم، ويبدأ الترميم بالأقسام الأكثر خطورة، ثمّ بعد اتزان المبنى يبدأ بالأقسام الأقل خطورة.

أحيانًا، يتم تقييم المبنى بعد مرور فترة 40 سنة على تشييده، أي ما يوازي نصف عمره تقريبًا، فيقوم المعنيّون بدراسة للترميم، فإن وجدوا أن كلفة الترميم ستكون كلّ 10 سنوات تكلف بنسبة 20% من ثمن المبنى - على سبيل المثال - هنا تجتمع لجنة المبنى، فإن كانت هذه الكلفة مناسبة لها ماديًا تمضي بعملية الترميم، أما إن كان ذلك غير مناسب، فقد يتم اللجوء إلى خيار هدم المبنى كليًا وإعادة تشييده من جديد.

كما يُطرح إشكال حول الموازنة بين المناطق المتضرّرة في المبنى التي يتم ترميمها، فترميم صدأ الحديد على سبيل المثال قد يمدّد عمره في قسم متضرر جدًا بأحد الأعمدة ويصبح عمره 80 سنة، في حين أن عمودًا آخر لم نقم بترميمه سيكون عمره فقط 20 سنة، أي أن رفع أداء المبنى بالصيانة لا يحصل بشكل متوازن، وإن كان هذا الأمر متوازنًا فقد يكون مكلفًا جدًا.

وإجمالًا، فإن حصول الصدأ والاهتراء في الأعمدة كلها وفي كلّ الأسقف يدلّ على انتشاره في كامل المبنى، وهنا تصبح الجدوى الاقتصادية لصيانته خاسرة والأفضل الذهاب إلى خيار الهدم الكلّي للبناء وإعادة التشييد.

أما الجهة المعنيّة بسلامة البناء ومتابعة أموره فهي لجان الأبنية، وتقع على عاتقها بشكل رئيسي متابعة الصيانة الدورية، وطالما حصلت هذه الصيانة بشكل جيد يمكن للبناء أن يُرفع أكثر من عمره الافتراضي ويعيش لمدة أطول، لكن الواقع على الأرض لا يشير إلى وجود صيانة جيدة في المباني التي بات عمرها من 30 إلى 40 عامًا أو أكثر، وتبدو على واجهاتها التشققات والاهتراء وقطع الباطون المتكسّرة وانكشاف واضح لقضبان الحديد الصدئة.

لبنانالبناءالأبنية المتصدعة

إقرأ المزيد في: خاص العهد

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة

خبر عاجل