طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

موازنة مصر.. للفقر دُرْ
10/05/2019

موازنة مصر.. للفقر دُرْ

أحمد فؤاد
تبقى الموازنة العامة للدولة، أي دولة في الكوكب والتاريخ البشري المعروف لنا، أقوى تعبير عن انحيازات الحكومة والنظام السياسي، أرقام بطبيعتها جافة ومحايدة، في آن، لا تقبل التأويل أو الظن، مباشرة في وضوح أهدافها ومقاصدها، وتمثل انعكاس للقوى المسيطرة والحاكمة، والتي تجعل من السلطة إطارًا يحقق إرادتها، لكن بطريقة شرعية ودستورية.

والموازنة في مصر تأتي في هذا السياق، كاشفة للتوجهات والسياسات، بعيدًا عن تشنج الخطاب السياسي الزاعق، أو معسول الكلمات، ولأن السلطة في مصر مركزية تمامًا، تطوع نفسها على مقاس الحاكم، وفق هواه أو رؤيته، بدفع من قواعد راسخة، كما الجغرافيا التي جعلت من الوادي الضيق حول النيل شريان الحياة الأوحد والأهم، فالفرعون في مصر هو مناط كامل السلطة وكل الشرعية والسياسات، والأفكار حتى، يرى أن دور الدولة ينحصر في تجهيز وفرش الطريق للاستثمار الأجنبي، فتعمل كل الجهات والأجهزة على جذب ذلك الهدف، الذي يبدو كالعنقاء الأسطورية، لن يظهر على المسرح في الأمد المنظور.

تخلت الدولة عن دورها، كدولة، منذ أن اعتمدت سياسة الانسحاب من الواقع اليومي، تاركة الجمعيات الخيرية، ومؤسسات المال الدولية، تقوم بدور الموجه واللاعب الأساسي، وارتضت "دكة البدلاء"، لا تخرج إلا حين تتهدد السلطة، ولا تسمح في تفريط فيها، حتى وإن استبيحت السيادة بالكامل، وطفق مسؤولوا صندوق النقد والبنك الدوليين يعطون الدروس ويعلنون الرغبات، ثم تنفذ سلطة الحكم وصفة العلاج الغربية، فإذا بالمريض شارف على النهاية، والأمل كسراب بعيد، لا يظهر حتى يختفي في صحراء الأحلام.

أُعدت وقُدمت موازنة العام المالي 2019-2020، بعد زحام حادث إقرار التعديلات الدستورية، وللمفارقة، متأخرة عن موعد استحقاقها الدستوري، والمفترض قبل بدء السنة المالية بأشهر ثلاث، ربما لن يعترض أحد في مجلس نواب النظام جديًا، ولا توجد قوة على الساحة تستطيع التعطيل أو تأخير إقرارها، أو حتى النظر بتدقيق في بنودها، متى شاء النظام الحاكم أن تمر، فسوف تمر.

وكما جاء توقيت الطرح متأخرًا، جاءت الموازنة غربية، فاضحة في أرقامها، بشكل لا يجعل من المجدي النظر للشكل دون المضمون، وأول ما يستلفت النظر، خاصة خلال السنوات الأخيرة، حجم الديون وأقساطها، المستحقة الدفع خلال العام المالي القادم، وجاء الرقم كالصاعقة، تبين مآل الإصلاح الاقتصادي المزعوم أو المفترض، نحو 973 مليار جنيه مصري، ما يقارب الترليون جنيه، لمجرد خدمة الديون، التي بدأ فيها النظام، رغم التحذيرات كافة، التي انطلقت منذ أعوام، من قبل خبراء وطنيين، مشهود لهم بالكفاءة والخبرة والغيرة على البلد.

والرقم يصبح مثيرًا بالفعل، إذا ما تمت مقارنته بإيرادات الدولة بالكامل، وهي 1.1 ترليون جنيه، أي أن 88% من إيرادات مصر ستذهب لخدمة الدائنين، وهو رقم غير مسبوق، ولا يمكن تصور أن يستمر الوضع الحالي إلى 3 أعوام إضافية، على الأكثر، مهما افترضنا من حسن النوايا، أو أصابتنا البلاهة لتصديق أن مشروعات مثل الكباري والأنفاق ستولد الدولارات، أو أن الاستثمار الأجنبي كان ينتظر بالباب، طوال السنوات الماضية، إنشاء طرق جديدة.

إذًا، ستذهب غالبية الإيرادات إلى الدائنين، بدون أي عائد على الشعب، سواء في خدمات عامة، غير موجودة بالأصل، أو مشروعات إنتاجية، تحتاجها البلد التي تكاد تنفجر بسكانها، وتقذف بهم إلى المجهول، سواء في صحراء الخليج، أو إلى باطن البحر المتوسط، بلا ثمة أمل في طريق جديد، يحل الأزمة القائمة، ويمنح المستقبل مجرد فرصة للميلاد بلا قيود واشتراطات صناديق السيطرة الدولية.

السبب الرئيس للأرقام المخيفة، هو سفه الاقتراض، فالنظام المصري "مدمن قروض"، سواء خارجية ـ وهي الأخطر بالتجربة ـ أو الداخلية، بأعبائها الكبيرة بسبب الفوائد المرتفعة، وشهد النوعان انفلاتًا جنونيًا خلال السنوات القليلة الماضية، فارتفعت الديون الخارجية من من 43 مليار دولار قبل 4 سنوات فقط، إلى نحو 96.6 مليارًا، وجهت نحو مشروعات بنية تحتية، أفاض خبراء واقتصاديون في شرح خطورة توجيه موارد النقد الأجنبي الشحيحة إليها، خاصة مع انحسار السياحة ومواردها، وسجلت الديون الداخلية هي الأخرى قفزة هائلة، لتصل إلى 3.88 ترليون جنيه.

اللافت في أرقام الموازنة أن العجز في العام المالي الجديد سيبلغ 440 مليار جنيه، ناتج من زيادة المصروفات عن الإيرادات المقدرة، والتي تأتي في أغلبها من الضرائب والرسوم، إضافة إلى البقية الباقية من شركات ومصانع قليلة تنتج وتعمل وتربح، إذ تبلغ قيمة الضرائب وحدها 856 مليار جنيه، مشكلة أغلب إيرادات الدولة، العاجزة عن إيجاد وخلق موارد دائمة، عم غير طريق الجباية.

البند الأهم لنحو 5 ملايين عامل، هو الأجور، والتي بشرنا مشروع البيان المالي أنها ستصل إلى 301 مليار جنيه، ارتفاعًا من 266 مليارًا العام المالي الحالي (2018-2019)، بنسبة زيادة 13% فقط، مع الوضع في الحسبان أن السياسات الاقتصادية زادت الفقراء المصريين من 27.8%، وهو رقم رسمي حكومي معلن في 2016، إلى 60%، طبقًا لتقرير البنك الدولي الصادر مطلع الشهر الحالي، وهو بمنزلة شهادة شاهد من أهلها، فالمؤسسات الدولية هي المتحكم الأول حاليًا في السياسات الاقتصادية، لا راد لقضائها، ولا عاصم من قراراتها.

ببساطة وبشكل مباشر، فإن رواتب 5 ملايين مصري، يعملون لدى الحكومة أو القطاع العام، أقل من 1/3 (ثلث) ما سيدفع لخدمة الديون، وفي البيان المالي لوزارة المالية ما يرد على كل ترهات النظام وأقطابه، حول الهدر في المرتبات والمعاشات، فمن باب أولى أن يتم وقف الاقتراض، لسد عجز الموازنة المتزايد، عوضًا عن جلسات التقريع الدائم لعمال وموظفي الدولة، وهؤلاء لا يحسبون فرادي، إذ خلف كل موظف منهم أسرة، وكل منهم له حق في هذا البلد، ليس منة من حاكم، ولا منحة من رئيس.

الأغرب من الزيادة الهزيلة للأجور، كان الخفض المزري لبند يمثل أولوية لكثير من الأسر الفقيرة ومتوسطة الدخل، بند "الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية"، إذ تراجع من 328.2 مليار جنيه إلى 327.6 مليارًا فقط، وهو بالأسعار الحقيقية يعد خفضًا هائلًا، مع زيادة واتساع نسب الفقر، وتراجع الدخول الحقيقية للأغلبية الكاسحة من المصريين.

بالفعل فإن الأغلبية مقبلة على عام مالي جديد أسوأ، لم تختبره قبلًا، وكما خطها الجغرافي المصري العبقري جمال حمدان: "مصر مرشحة، في ظل خيارها، ليس بين السيئ والأسوأ، بل بين الأسوأ والأكثر سوءاً، لتتحول في النهاية من مكان سكن على مستوى وطن، إلى مقبرة بحجم دولة".

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل