خاص العهد
ثلاث سنوات على انفجار المرفأ.. أين التحقيقات القضائية؟
فاطمة سلامة
عشيّة الذكرى الثالثة لانفجار مرفأ بيروت، يسأل البعض عن التحقيقات القضائية. أين أصبحت؟ الإجابة عن السؤال ليست خافية على أي متابع لهذا الملف. إنها مجمّدة منذ أكثر من عام ونصف الى أجل غير مسمى. أما الأسباب فمرهونة بحرف التحقيقات عن مسارها الطبيعي.
لا خلاف على أنّ القضاء كان رُبّما أوّل ما "لمع" أو خطر في رأس المتضرّرين من الانفجار. صورة القضاء حضرت في الأيام الأولى كمُنقذ يثأر للدماء والأوجاع، إلا أنّ الصدمة كانت لاحقًا. صحيح، لم يكن يؤمّل من هذا القضاء أن يأتي بالعدالة بسحر ساحر، فأهالي الضحايا يعلمون أنّنا أمام ملف شائك ومعقّد. لكنّ أكثر ما أثار الريبة كان في "سلخ" القضاء عن وظيفته الأساسية وإلباسه لبوسًا لا يليق به.
واذا كانت وظيفة القضاء في الأصل وضع حد للنزاعات التي تُعرض عليه باتخاذ أحكام وقرارات فاصلة فيها، باتت وظيفته في انفجار المرفأ العمل على تنفيذ أجندات سياسية حيكت له. أما الاستقلال والنزاهة اللذان هما صفتان تُلازمان القضاء أينما حلّ ذكره فلا مكان لهما منذ بدء التحقيقات ليحل مكانهما الاستنسابية وازدواجية المعايير وما الى هنالك من مصطلحات غريبة عن معجم "القضاء".
أمام هذا الواقع، يستعير المتحدث باسم أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت ابراهيم حطيط من وزير الداخلية السابق محمد فهمي مقولته الشهيرة التي اعتذر عنها لاحقًا: "95 بالمئة من القضاة في لبنان فاسدون". يرى في هذا الكلام حقيقة وواقعًا. "القضاء صدمني وكنت أتوقع أن يكون هناك مستوى 10 أو 20 أو 30 بالمئة فساد لكن للأسف ثمّة 95 بالمئة من القضاء فاسد، وهذه النسبة تُحطّم الآمال". لكن حطيط يُراهن على نسبة الـ5 بالمئة المتبقية ويطالب القضاة بأن يحكموا بالعدل تنفيذًا لشعارهم المرفوع.
في حديثه لموقع "العهد" الإخباري، يُجري حطيط جردة حساب لما وصلت إليه التحقيقات القضائية في قضية انفجار المرفأ. يؤكّد المؤكّد: "التحقيقات منذ أكثر من عام ونصف مجمّدة. كنّا نأمل أن تعود وتستمر حتى مع القاضي طارق البيطار في حال صحّح مسار التحقيقات وابتعد عن الطريقة التي نعتبرها "خطأ بخطأ". يلفت حطيط الى أنّنا كأهالي ضحايا منحنا البيطار أكثر من فرصة وناشدناه لتغيير طريقة العمل وحذّرناه من أنّ التحقيقات قد تتوقف جراء إدارتها بهذه الطريقة، لكنه صمّ أذنيه ولم يرُد.
على إثر تجاوزات البيطار المتعدّدة، يُشدّد حطيط على أننا وصلنا الى مرحلة بات لدينا إيمان مطلق فيها بأن هذا القاضي متآمر على قضيتنا ولا نريده بدليل أننا رفعنا عليه أكثر من دعوى، وللأسف رُدّت بالشكل. وهنا يُبدي حطيط أشدّ الاستغراب كيف تُرد دعوى أولياء دم بالشكل دون الدخول الى المضمون. وبالتالي فالصراع السياسي الذي حصل جعل القضاء معطلًا بأكمله. وفي هذا السياق، يقول حطيط: " ليس من عمل أهالي الضحايا الدخول بالصراعات السياسية، لدينا أيتام، أرامل، ثكالى، وأمهات مفجوعة. هؤلاء لا يهمهم السياسة. يهمهم أمران فقط: معرفة الحقيقة لجهة من قتل أولادهم، ومعرفة كيف ستستمر حياتهم".
هذان السؤالان لا جواب عنهما حتى اللحظة. ورغم ذلك، لدينا إصرار قوي للوصول الى تطور ما في هذا الملف يضيف حطيط الذي يشدّد على أننا لسنا مكتوفي الأيدي بل لا زلنا نعمل ونسعى سعينا، وقد عقدنا العام الماضي مؤتمرًا قدّمنا فيه وثائق وحقائق ومستندات ومراسلات كان من المفترض بموجبها أن يتم استدعاؤنا من قبل القضاء لمساءلتنا لكن لم يهتم أحد بها، وقد ناشدتُ القضاء أكثر من مرة "اذا كنتُ كاذبًا احبسوني". كل ما سبق يؤكّد أنّ ثمّة جهة ما لا تريد الحقيقية.
لماذا لا يريدون سماع الحقيقة؟ قبل أن يجيب حطيط عن هذا السؤال يقول صراحة: " لو أنّ الجهة التي يستهدفونها بشكل مباشر ويتهمونها منذ أول ربع ساعة للانفجار هي المسؤولة عن جريمة المرفأ لوقفت في وجهها حتى ولو كانت من طائفتي. في البداية لا أخفي أنني اتهمت الجميع فما يهمني هو أن لا يذهب دم أخي والشهداء هدرًا، لكن مع الوقت تبيّن أن هناك استهدافًا سياسيًّا لفئة معينة بدأ منذ اللحظات الأولى للانفجار، وهذا الاستهداف لا يوصل لمكان، وفي الوقت الذي تتحمّل فيه مجموعة من الناس مسؤوليات كبرى لم يستدعهم القاضي للتحقيق".
أكثر من ذلك، يُشير حطيط الى أنّ وزير الدفاع الأسبق يعقوب الصراف يُدلي اليوم الخميس (3 آب 2023) بشهادته حول انفجار المرفأ في فرنسا، لكنّ الأخذ بهذه الشهادة تأخر كثيرًا رغم أن الصراف ومنذ فترة طويلة يُعلن عن امتلاكه مستندات ووثائق تفيد التحقيق، وقال للقاضي فادي صوان عندما كان محققًا عدليًا في قضية المرفأ "لديّ مستندات" لكنّه لم يقبل أن يستمع اليه، وعاد الصراف وبعث برسالة الى وزيرة العدل آنذاك ماري كلود نجم، كما طالب البيطار عبر الأطر الرسمية باستدعائه ولم يستدعِه. وفق حطيط، كل هذه المواقف مستغربة، حتى وصل الصراف الى المحاكم الفرنسية والقضاة الفرنسيين.
شحن طائفي
يتحدّث حطيط عن حجم الشحن الطائفي واللعب على الوتر المذهبي الذي أراد البعض استغلاله في قضية المرفأ. يستشهد بحادثة جرت عندما خُدع في البداية وصدّق بعض الجهات السياسية والحزبية والدينية التي كانت تجلس مع أهالي الشهداء وتعرب عن دعمها المعنوي واللوجستي لهم ليتبيّن لاحقًا أن هذه الجهات تعمل على توجيه الأهالي في اتجاه معيّن لإيهامهم وخداعهم. ففي إحدى الجلسات مثلًا، عرّف أحد رجال الدين عن حاله بطريقة تعصبية ناعتًا المناطق التي تحيط بالمرفأ بـ"مناطقنا" وبأنها كانت "قوات" وستبقى "قوات" بعيدًا عن أي نهج وحدوي.
يُذكّر حطيط بأعداد الضحايا فيلفت الى أنّ الأرقام الرسمية غير دقيقة. حُكي عن أكثر من 7 آلاف جريح، وأكثر من 30 ألف عائلة مشردة. أما بالنسبة للشهداء فمن المستغرب أنّ الدولة لا تملك إحصاءات دقيقة وتتحدث عن 218 و220 لكننا توصلنا الى 235 شهيدًا، وزوّدنا الدولة بهذا الرقم رغم أنّ لدينا يقينًا بأنّ الرقم أكبر من ذلك بكثير ولم يعلن عن البعض لأسباب معينة.
ولدى سؤاله: ماذا حقّقتم كأهالٍ عشيّة الذكرى الثالثة؟ يوضح حطيط: "على مستوى التحقيق لم نحقّق شيئًا". لكنّه في المقابل، يلفت الى "أننا عملنا الى حانب أهلنا وانتزعنا من الدولة مساواة الشهداء بشهداء الجيش، وهذا الأمر يخفّف قليلًا عن الأهالي لجهة الطبابة، ونسعى جهدنا لمساواة الجرحى بجرحى الجيش اللبناني للتخفيف عنهم أيضًا".
البيطار ينفّذ تعليمات مشغليه
ولدى حديثه عن عمل البيطار، يستغرب حطيط اجتهاده المسمّى بـ"اجتهاد الضرورة" الذي خرج به بعد ملازمته المنزل لعام ونصف. يتوجّه إليه بالسؤال: "لماذا جلست عامًا ونصف عام في منزلك اذا كان بإمكانك العمل؟". ويلفت حطيط الى أن البيطار دخل من خلال هذا الاجتهاد على الملف محدثًا انشقاق القضاء نفسه ليتعطّل كل شيء قضائيًا حتى اللحظة. كما يُشير حطيط الى الزيارات التي أجراها بعض القضاة الفرنسيين لمنزل البيطار الذي أطلعهم على ملف التحقيقات الموجود في حوزته، وهذا أمر ممنوع في القانون. وفي هذا الإطار، يتوجّه حطيط للبيطار بالقول: "يا حضرة القاضي، اذا كان لا يوجد في قلبك إنسانسة ولا تخاف الله، نناشدك بأن ترحم دموع الأمهات والثكالى والأيتام. معك لا نصل الى نتيجة".
يشدّد حطيط على أنّ البيطار عبارة عن قاضٍ ينفّذ تعليمات مشغليه، وهو اليوم موقف عن العمل بحكم القانون، "ولو أنه يعمل لكنّا ندور في الدائرة نفسها بلا عدالة ولا حقيقة". وفق قناعات حطيط، ثمّة الكثير من الأمور الخطأ في عمل البيطار. على سبيل المثال، لم يتحدّث عن مسؤولية "اليونيفيل" وهذا الأمر "فاقع" جدًا لأنّ قوات "اليونيفيل" موجودة وتدفع لها الدولة اللبنانية ملايين الدولارات سنويًا لتطبيق القرار 1701 القاضي بمنع دخول الأسلحة والذخائر الى لبنان. ومن ضمن المحظورات "نترات الأمونيوم" والباخرة كانت تحمل 2750 طنًا من المتفجرات سمحوا لها بالدخول ولم ينفّذوا الإجراء المناسب لمنعها من دخول الميناء اللبناني. كما يُحمّل حطيط المسؤولية لقضاء العجلة وعلى رأسه القاضي جاد معلوف الذي وصلت إليه 40 مراسلة حول المواد وقيل له إنها خطرة على المكان والعاملين فيه لكنه ردّ المراسلات بالشكل وطلب مراسلة هيئة قضايا الأمور المستعجلة بوزارة العدل التي بدورها تراسله.
يُشدّد حطيط على أنّ مخالفات البيطار لا تُعد ولا تُحصى. يؤكّد أنّ ثمة منظمًا ومسيّرًا للتحقيقات لتأتي بنتيجة واحدة ولا خلاف على أنّ هناك مخطّطًا واضحًا لمسار التحقيقات منذ البداية. وهنا، يؤكّد حطيط أنّ هدفنا واحد لكن جرى وضعنا كأهالي شهداء بمكان ليس لنا. جرّونا الى الصراعات ودفعونا الى دراسة المواد القانونية حتى بتنا أشبه بمحامين، لكن لا زلنا اليوم بعيدين عن مطالبنا التي لم تتحقّق رغم كل ما لدينا من وثائق، تلك المطالب التي تُختصر بثلاث كلمات: "حقيقة، عدالة، ومحاسبة".
إقرأ المزيد في: خاص العهد
05/12/2024
الحياة تعود إلى النبطية من تحت ركام العدوان
02/12/2024