طوفان الأقصى

نقاط على الحروف

شهادة العدو!
29/06/2023

شهادة العدو!

احمد فؤاد

تظل مشكلة المشاكل وقلب أزمة العالم العربي الحقيقية، اليوم، هي البحث عن هوية في أتون الأحداث المشتعلة في المنطقة والعالم، والبعض منا لا يزال يظن ــ واهمًا ــ أن التحليق بعيدًا عن السرب أو الانكفاء في زاوية بعيدة يكفل له الآمان، ويبتعد به عن النيران المباشرة أو الشظايا المتناثرة، إلا أن الثابت الوحيد القائم هو أن الجميع مهما حاول إتباع سياسة النأي بالنفس ولجأ إلى محاولات الهروب سيظل جامدًا في عين العاصفة، وسواء بالانسياق مع الأحداث أو الانزلاق مع المفاجآت، سيسقط حتمًا أمام الحريق الأميركي المخيف.

سيبقى الهدف الأميركي الثابت والمخطط هو إعادة تشكيل المنطقة كلها، وتحت القيادة الصهيونية، وهو في سبيل هذا العنوان لا يحتاج لدول عربية، إنما إلى بقايا دول وأشباه مجتمعات، تمزقها الأزمات ويصعقها العجز والفقر، ويصادر كل إمكانيات حياتها الخونة والعملاء، ويقودها في هذا كله أنظمة غبية عمياء، لا ترى ولا تسمع إلا ما يريده الأميركي، ولا تتكلم إن تكلمت سوى باللهجة التي يحبها ويفضلها.

الحل الوحيد والخندق الباقي، بعد أن سرع الصراع الروسي مع الأميركي في أوكرانيا من تحديد المواقف وكشف أطراف كل جبهة، في المقاومة، وحدها تثبت كل يوم إنها الرهان الواقعي والرهان الناجح والرهان الوحيد، وحدها تضمن للعالم العربي، وللمواطن العربي أيضًا، شروط عملية إعادة الحياة إلى محركات الأمة والأوطان، ووحدها تملك ضخ البخار والطاقة إلى مفاصل قاطرة الحركة والفعل والأيام.

راهنية مشروع المقاومة لن تكون في يوم مكسبًا ماديًا ملموسًا، وفقط، لكن قلب مشروعها هو أنها الهوية الجامعة التي تحمل إجابة الأمة على تحدياتها الجسام، مشروع المقاومة على المستوى القومي هو أنه مسار طبيعي وليس حملًا اصطناعيًا في بيئة معمل تجارب، إن المشروع كله متسق مع ثقافة الأمة وهويتها وعقلها وتراثها الإنساني، متسق مع النفس ومع العالم، يؤكد الشخصية الحضارية للإنسان، ويعبر في الوقت ذاته عن رؤية ومصالح، ويهون في سبيله الإلتزام والتضحية، وبينما هو مشروع يخضع الظروف الموضوعية وبالتالي يلهم، فإن غيره لا يحمل سوى معاني التجريف ولا يصل بنا سوى إلى الهلاك المحتم.

إن كان الإنسان يحتاج إلى شاهد على دقة وصوابية خيار المقاومة، وآثاره الهائلة ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، فإن شهادة العدو هنا توفي المطلوب، بعد أن حملت التقارير الإعلامية الصهيونية خبرًا مفاده تشكيل لجنة تحقيق عليا جديدة في عملية أمير الاستشهاديين، البطل أحمد قصير، في الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1982، بتدمير وأزالة مقر الحاكم العسكري في صور من الوجود، وإرسال 100 من قادة العدو وضباطه إلى الجحيم.

شهادة العدو!

التقارير الجديدة حملت تكذيبًا قاطعًا للرواية الصهيونية الرسمية التي ظلت متمسكة بأن ما جرى في صور كان "انفجارًا ناتجًا عن تسرب غاز" طوال ما يزيد عن 4 عقود، وأثبتت مرة أخرى، وجديدة، الحس السليم والصادق لسماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله، في خطابه عن البطل الشهيد قبل 7 شهور، لمناسبة مرور 40 عام على العملية، والتي قال فيها نصًا: إن "هذه العملية هزت كيان العدو، وفتحت عصر هذا النوع من العمليات الاستشهادية لمواجهة الاحتلال في لبنان، وهذه العملية كانت مفاجئة عظيمة للعدو".

اللجنة الجديدة، طبقًا للصحافة الصهيونية، تم تشكيلها من الجيش والشاباك والشرطة، بعد أن قدمت لجنة سابقة تقريرها في نهاية العام الماضي خلص إلى نتائج جديدة بشأن العملية الكبرى، وسيكون لها أن ترسم تداعيات جديدة للموقف الرسمي الصهيوني من الواقعة الضخمة، في ظل ما أعلنوه من تحقيقات ومواد وأسباب للكارثة، في جهد بحثي سخرت له الاستخبارات والأجهزة الأمنية وخبراء في التكنولوجيا والهندسة والتراث، لمحاولة وضع تصور أقرب لواقع ما جرى فعلًا.
لا يعنينا في الحقيقة أن يضع الصهاينة تصور جديد أو يتمسكوا بروايتهم الكاذبة الأولى، لا يهم هل سيخرجون بنتائج صحيحة أم لا، وكيف سينشرون ما حدث، بكثير من توابل الإخفاء أم مغلف بضباب التضليل، ما يهم هنا هو أن العملية التي جرت قبل 4 عقود لا تزال تؤلمهم وتجرح ثقتهم وتحطم غطرستهم، ما يهم هو أن الإعلان عن اسم البطل ــ الذي ظل مخفيًا 3 سنوات بعد العملية ــ وعن نتائج عمليته البطولية الأكبر والأكثر حصدًا للأرواح في صفوف العدو، جاء من قيادة حزب الله، لا من غيرها، ما يمثل موقفنا هو أن الصدق كان معيار المقاومة الأول ووسيلتها، بكل ما يرتبه هذا المعنى من ثقة تتجدد وعلاقة عضوية تكبر وتنمو، بالأيام والمواقف.

في يوم الحادي عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1982، اقتحم الأمير المتوج ملاك المقاومة أحمد قصير، 18 عامًا فقط، ما كان قلعة للعدو، أراد منها أن تكون عنوانًا لوجوده الاحتلالي في لبنان، عقب انسحابه من بيروت وأغلب المناطق عدا الجنوب، وكما أراد العدو من اختيار بناية "عزمي" الضخمة كمقر لقيادته وأجهزة مخابراته، عالية تتمايز عما حولها، وتسمع في آفاقها صرخات المعتقلين وأنينهم تحت التعذيب، فإن المقاومة اختارت بعبقرية المكان ذاته الذي عنونه العدو، لرسالتها الجبارة.

عقب دخول البطل إلى مقر الحاكم العسكري الصهيوني، في جل البحر على مدخل صور الشمالي، وفي تمام الساعة السابعة صباح يوم الخميس، وبينما يظن العدو أنه في جبل يعصمه من المقاومة، إلا وكان البناء المؤلف من ثماني طبقات ينهار ويمحى من الوجود وكأنه بنية من كرتون أو ورق مقوى أمام بحر هادر من الإيمان والإرادة والغضب، وضاعت في دقيقة واحدة آماله ومخططاته للبنان، تحت شلال الدماء الهادر.

إذا كان الإعلام الصهيوني قد نشر هذا التقارير، في هذا الوقت بالذات، لمحاولة التعلم من إخفاقاته وخسائره حين راهن على جبروت السلاح، فإننا أحوج ما نكون إلى استلهام المعنى، إن الشروط الأساسية لعملية تغيير جذري وشامل في واقعنا لا تبتعد كثيرًا عن مقومات نجاح وروعة عملية البطل "أحمد قصير"، الإيمان بالله أولًا، ثم الثقة بالنفس والقدرة، والتمسك بخيار المقاومة، كانت سبل الوصول إلى أكبر عملية استشهادية وأنجحها ضد العدو، وفي عز الضعف والخذلان وبعد القريب والصديق، إنها ستبقى دومًا العملية الأولى والبكر والأهم في تاريخ لبنان والمنطقة، اللحظة الفارقة التي تغير مجريات الأحداث ولا يعود الزمن بعدها لما كان من أمره قبلها، على الإطلاق.

صوراحمد قصيرأرييل شارونالكيان المؤقت

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة