طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

فشل استراتيجية العقوبات على الدول.. التجربة الإيرانية
19/06/2020

فشل استراتيجية العقوبات على الدول.. التجربة الإيرانية

د. علي مطر

تحولت العقوبات الاقتصادية إلى الاستراتيجية الأكثر استخدامًا لدى القوى الكبرى المؤثرة في السياسية الدولية وخريطة توزع القوى. ومنذ الحرب العالمية الأولى، استخدمت الحكومات العقوبات الاقتصادية بشكل أكبر لتحقيق أهدافها السياسية، إلا أن هذه التدابير لا تزال بعيدةً عن الإلزام طالما أنها من خارج الشرعية الدولية. ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن ثم الحرب الباردة بين القطبين، دأبت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة على فرض عقوبات متنوعة خاصة من الناحية الاقتصادية على دول لا تتماشى مع سياساتها أو تتبنى سياسات لا تتوافق مع الرغبات والمصالح الغربية على المستوى العالمي.

وقد تحولت العقوبات الاقتصادية إلى الاستراتيجية الأكثر استخداماً في سياسة الهيمنة الأميركية. وأصبحت البديل عن الحروب العسكرية، لمحاولة تغيير القرارات الإستراتيجية للدول والجهات الفاعلة التي تهدد مصالحها، ولفرض تغيرات جيوسياسية تصب في استراتيجية الهيمنة. لكن أظهرت تجارب تاريخية عديدة أن سلاح العقوبات، الذي كثيراً ما تلجأ إليه الولايات المتحدة لإسقاط الأنظمة المعادية، غالباً ما يكون عديم الفعالية، سواء من قبلها مباشرة أو عبر مجلس الأمن الدولي.

نماذج لدول تعرضت للعقوبات

لطالما كانت الأمم المتحدة هي الوجهة المعتمدة في تطبيق العقوبات الاقتصادية بموجب المادة 41 من ميثاقها، وقد أقرت قرارات عدة على دول مختلفة اعتبرتها مخالفة للشرعية الدولية في تصرفاتها، ففي العام 1966 فرضت أولى عقوباتها على روديسيا الجنوبية، بعد أن أصدرت القرارين 216 و217 في العام 1965 والقرار 277 في العام 1970، ومن ثمّ العقوبات التي فرضتها على جنوب أفريقيا بالقرار 418 الصادر في العام 1977، وأعيد فرضه بالقرار 558 الصادر في العام 1984، لكن الأمر تطوّر بعد الحرب الباردة إلى سياسة تطبيق العقوبات الشاملة، وخصوصاً بعد احتلال الكويت من قبل العراق. وقد طبّقت العقوبات ضد العراق وهاييتي ويوغسلافيا والصومال وليبيا وليبيريا وأنغولا ورواندا والسودان والجمهورية الإسلامية الإيرانية.

أما تلك التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية، فكانت جميعها خارج إطار الشرعية الدولية بشكل يخالف القانون الدولي، ومن ذلك ما فرضته على إيران وسوريا وكوريا الشمالية وكوبا من عقوبات اقتصادية خانقة، هذا فضلاً عن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي.

وقد تعرضت دول عربية عدة للعقوبات الغربية فضلاً عن سياسات الهيمنة. فقد عانت سوريا طويلا من إجراءات أميركية وأوروبية بسبب سياساتها تجاه الكيان الصهيوني ودعمها لفصائل المقاومة. وتعرض العراق لحصار مطبق إلى درجة أن الأمم المتحدة تبنت برنامج النفط مقابل الغذاء لأنه لم يكن بمقدور العراق شراء احتياجاته الغذائية.

لماذا تفشل العقوبات في تطويع الدول؟

لقد كانت كوبا أول دولة تواجه العقوبات الأميركية التي تمثلت في الحصار الذي دام عشرات السنوات. وبالنسبة للإدارة الأميركية، تعتبر كوبا وفنزويلا وروسيا وإيران وكوريا الشمالية أهدافًا خاصة بفرض العقوبات، لكن هذه الاستراتيجية فشلت في كل حالة. فقد فشلت العقوبات في تطويع كوبا، وأدت "الضغوطات القصوى" على كل من إيران وكوريا الشمالية إلى نتائج عكسية.

ويعد تطبيق العقوبات سيفًا ذا حدين فهو إلى جانب الضرر الذي يلحق بالدولة المستهدفة، فإنه أيضاً يضر الدولة التي تفرض العقوبات، ومثال ذلك حين اضطرت الشركات الأمريكية إلى الابتعاد عن إيران، واضطر صانعو الماكينات الألمان إلى خفض صادراتهم إلى روسيا، وعانت أحواض بناء السفن الفرنسية من خلال التجميد وإلغاء البيع المحتمل لسفن ميسترال إلى روسيا، هذا فضلاً عن أن استراتيجية العقوبات يمكن أن تثير عقوبات مضادة.

ففي عام 2014، ردت روسيا على الإجراءات الغربية بحظر استيراد المواد الغذائية من الدول التي انضمت إلى العقوبات ضد موسكو، هذا فضلاً عنه أن يمكن أن يساهم في تقوية الدولة المستهدف، فالعقوبات المفروضة على روسيا في عام 2014  أثناء الأزمة على أوكرانيا لم تساهم في زيادة شعبية فلاديمير بوتين فحسب، بل والأهم من ذلك، في النمو الروسي في كافة الاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية إلى جانب تنامي الحس الوطني والكراهية لأميركا، خاصةً أن العقوبات تضر بأجزاء كبيرة من السكان المدنيين.

صحيح أن هذه العقوبات سواء حققت أهدافها أو لم تحققها، فإن لها تأثيرا اقتصاديا كبيرا على البلدان المستهدفة، مما يؤثر على تباطؤ تطورها التكنولوجي وارتفاع معدلات البطالة وازدياد عدد سكانها فقراً، لكن ذلك لا يؤدي إلى التغيير المنشود، نعم قد يولد الاستياء الشعبي على الحكومة لكنه كذلك سيولده على قوى الهيمنة، ولم يؤد عادةً إلى تغيير النظام، وهذا ما قد يدفع أيضاً إلى الأسوأ حيث عدم فاعلية العقوبات قد تؤدي إلى الحرب العسكرية كوسيلة نهائية.

ويمكن العودة إلى المسار التاريخي لهذه العقوبات حيث لم يتحدث عن دولة قد ركعت بسبب العقوبات أو أن شعبا قد ثار ضد حكومته إذعانا للعقوبات، فالعكس هو الذي حصل حيث بقيت الدول التي تعرضت للعقوبات صامدة وقادرة على الاستمرار، وأظهر عدد منها شجاعة وتحديا قويا، وقدرة على الإبداع والتعويض عما فُقد بسبب العقوبات، لذلك عادةً ما تعوض قوى الهيمنة فشلها في تحقيق أهداف سياسية بحروب شنتها على بعض الدول الخاضعة للعقوبات كالعراق.

إيران أنموذج للصمود وإفشال العقوبات

لقد جزمت الإدارة الأميركية بأن تشديد العقوبات على إيران سيؤدي إلى تآكل مواردها ومحاصرتها ودفعها الى الاستسلام، دون أن يلتفتوا إلى القدارت العظيمة التي تملكها إيران، ودون قراءة المسار التاريخي للشعب الإيراني ذي الحضارة المتضامنة والمتكافلة في مواجهة أي مخاطر تهدده، فكيف إذا كانت هذه العقوبات تعد عقاباً جماعياً حيث يؤدي إلى الضغط على الطبقات المتوسطة ويفرض عبئا غير متناسب على الفقراء.
وقد توافقت الكثير من الآراء على أن سياسة الحد الأقصى من الضغوط على إيران التي اتبعتها إدارة دونالد ترامب تحديداً قد فشلت في تحقيق هدفها وأنها أدت إلى نتائج عكسية تمثلت في توتير المنطقة، وبالتالي لم تؤد العقوبات إلى تحقيق ما تصبو إليه إدارة ترامب.

إن فشل العقوبات لم يكن إلا نتيجة للسياسة الإيرانية المتبعة في مواجهة هذه الحرب، فنجاح إيران في بناء اقتصاد تنموي زراعي وصناعي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي في شتى المجالات الغذائية وصناعة الدواء بما فيها الأدوية للأمراض المزمنة من ناحية، وبناء المشروع النووي السلمي الذي مكّنها من إنتاج الطاقة النووية وتحقيق التقدّم في المجالات العلمية  من ناحية أخرى كان له الأثر الكبير في إفشال العقوبات، فالاعتماد على النفس والتضامن بين ابناء الشعب واتخاذ قرارات صارمة من قبل القيادة الإيرانية ساهم في الحد من الأزمة إلى أن بدأت إيران تساعد دولا أخرى فرض عليها الحصار كفنزويلا وسوريا.

أضف إلى ما تقدم أن هناك عوامل اقتصادية هامة هي التوجه شرقاً، حيث كان الاتجاه الإيراني نحو تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي مع الدول الشرقية كالصين والهند وروسيا وكوريا الشمالية وحتى اليابان حليفة واشنطن. وتشكل الصين أهمّ بديل تجاري واستثماري لإيران يسدّ فراغ الاستثمارات الأوروبية.

بالإضافة إلى أن هناك عوامل سياسية أخرى ساهمت في إفشال سياسة العقوبات، حيث إن العقوبات قبل  الاتفاق النووي كانت من قبل مجلس الأمن وتقوم على الالتزام الدولي بالعقوبات، حتى أن كلاً من روسيا والصين كانتا تشتركان في دعم نظام العقوبات، أما اليوم فإنّ الواقع إنما هو على العكس تماماً، فاميركا تقف وحيدة في فرض العقوبات الجديدة من دون حتى دعم حلفائها الأوروبيين الذين تواصلوا مع إيران لايجاد آلية للتواصل.

نعم لا يمكن القول إن العقوبات لم تؤثر على الاقتصاد الإيراني بشكل خطير فلا يمكن مجافاة الحقيقة بذلك، حيث يظهر ذلك في انخفاض سعر الريال الإيراني فضلا عن ارتفاع نسبة التضخم، التي دفعت طهران للبحث عن طرق لتجاوز العقوبات، إلا أن واشنطن لم تستطع تركيع إيران، التي انتفضت من خلال الاقتصاد المقاوم وتنويع القطاعات الاقتصادية الانتاجية بتوجيهات من قيادة الإمام الخامئني، حيث شكلت العقوبات حافزا حقيقيا وقويا لإيران للاعتماد على نفسها والسير قدما في طريق الاكتشاف والابتكار، وباتت دولة قوية يهاب جانبها على المستويين الإقليمي والعالمي، لتشكل بذلك أنموذجاً حسياً لإفشال العقوبات والانتصار عليها، وعلى منوال إيران نتوقع أن تستطيع سوريا التغلب على قانون قيصر، من خلال الاعتماد على نفسها وصمود شعبها ومساعدة حلفائها.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات