طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

فوضى ما بعد الانسحاب الأميركي من سوريا
11/10/2019

فوضى ما بعد الانسحاب الأميركي من سوريا

سركيس أبوزيد

 

رغم أن الأزمة السورية دخلت عامھا التاسع، فإنھا لم تبلغ بعد حد التسوية أو الحل السياسي. من جهة أعاد الإعلان عن تشكيل اللجنة الدستورية الحرارة إلى العملية السياسية والمتابعة الدولية لھا، ومن جهة أخرى كشف بيان الخارجية الأميركية المرحّب بتشكيل "الدستورية"، من دون المطالبة بتمثيل القوى الكردية الحليفة لھا، عن غياب الرعاية السياسية الفعلية للأكراد ضمن ما يُطرح من حلول سياسية لإنھاء الحرب. ويرى البعض أن من لم يدافع عن تمثيلھم في "الدستورية" سيسمح لتركيا باستباحة مناطقھم حينما تنتھي مصالح واشنطن معھم.

   مؤخرًا برزت اختلافات في أوساط الإدارة الأميركية، تجاه الموقف من أكراد شمال سوريا ومستقبل العلاقة معھم. فهذه المرة قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب القوات الأميركية من سوريا سواء كان جزئيًا يقتصر على القوات المنتشرة في منطقة الحدود المحاذية لتركيا، أو قرارا يشمل كل المناطق الكردية في سوريا، ھو قرار للتنفيذ ولا رجوع عنه، ويعني أن ترامب قرر الانسحاب السياسي من الأزمة السورية، وأن سوريا لا تمثل لبلاده مصلحة استراتيجية، ولا يعنيه ولا يھمه أن يكون شريكا في رسم مستقبلھا السياسي، فمنذ لحظة وصوله الى البيت الأبيض لم يكن ترامب مقتنعًا بالبقاء في سوريا وأراد سحب القوات الأميركية في إطار "استراتيجية انسحاب" من كل الحروب التي يسمّيھا "سخيفة" في الشرق الأوسط.  

الأكراد بعد قرار ترامب واقعون تحت الصدمة والخيبة. يشعرون أن رھانھم على الولايات المتحدة قد خاب، وأن الأميركيين طعنوھم في ظھرھم وتركوھم لمصيرھم يتدبرون أمورھم. يكتشف الأكراد مرة جديدة أن تحالفھم مع الأميركيين والقتال الى جانبھم لا يشفع لھم عندما يحين أوان الاستحقاقات والصفقات الكبرى بين الدول التي لا تتصرف إلا وفق مصالحھا. ومصلحة واشنطن الآن ھي تقديم تحالفھا مع تركيا على تحالفھا مع الأكراد، وبالتالي ھذا يعني أن العد العكسي لسقوط مشروع الفدرالية أو الإدارة الذاتية الكردية في سوريا قد بدأ، وخيبة أكراد سوريا كانت سبقتھا العام الماضي خيبة أكراد العراق بعدما أخفق مشروع الاستفتاء على استقلال كردستان، وبدا أن مراعاة الشراكة مع إيران في العراق وموجبات التحالف مع تركيا ھي الأھم، فكان الضوء الأخضر لإسقاط كركوك وسحبھا من السيطرة الكردية. فقرار الانسحاب الأميركي ھو إشارة لفتح الطريق أمام تركيا للدخول عسكريا الى الأراضي السورية بعمق يتراوح بين 15 كيلومتر كحد أدنى و 35 كيلومتر كحد أقصى لفرض المنطقة الآمنة والعازلة. وهذا يعني أيضاً سقوط المشروع الكردي في سوريا، الذي ثبت أنه غير قابل للتحقيق على أرض الواقع نتيجة تشابك المصالح الدولية والإقليمية.

  مؤخرًا برزت اختلافات في أوساط الإدارة الأميركية تجاه الموقف من أكراد شمال سوريا ومستقبل العلاقة معھم

 واردوغان عاد بالفعل مجددا للتلويح بورقة العملية العسكرية لفرض المنطقة الآمنة، ويقول إن بلاده لم يعد بمقدورھا الانتظار ولو ليوم واحد فيما يتعلق بإقامة "المنطقة الآمنة" في شمال سوريا.  لذا عمل الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على مفاجأة زعماء العالم بخريطة رفعھا خلال كلمته في الأمم المتحدة مؤخراً، وقال إنھا حدود "المنطقة الآمنة" على طول 480 كلم وعمق 30 كلم، وإنه يخطط لإسكان مليوني سوري فيھا.
الجيش التركي بدأ عملية عسكرية واسعة في شمال سوريا أسماها "عملية نبع السلام"، تتقدمه فصائل سورية معارضة وموالية لتركيا، ھذه العملية ھي "أكثر من توغل وأقل من اجتياح"، وتحظى بضوء أخضر أميركي وروسي. وقد سارع إردوغان الى اقتناص ھذه الفرصة السانحة واندفع في اتجاه الأراضي السورية غير آبه بمخاطر ونتائج ھذه المغامرة. فالخطة التركية ھذه المرة ترمي الى ما ھو أبعد من توجيه ضربة لأكراد سوريا وإبعادھم عن الحدود وقطع تواصلھم الاستراتيجي مع أكراد تركيا. فأنقرة تفكر في تغيير التركيبة الديموغرافية لشمال شرقي سوريا وإضعاف المكوّن الكردي لمصلحة المكوّنين العربي والتركماني، ما قد يفتح الباب أمام مواجھات واضطرابات عرقية لا تنتهي.

توغلت تركيا في شمال سوريا تحت غطاء الانكفاء الأميركي والتواطؤ الروسي. وفي ھذه الحالة لم تعد تنفع كل حركة الاستنفار على مستوى أوروبا التي تشعر بالقلق من أن تؤدي العملية التركية الى مواجھات واسعة مع الأكراد والى زعزعة الأوضاع في الشمال السوري، بما يؤدي الى اندلاع أزمة لاجئين جديدة. والأخطر من كل ذلك، أن يؤدي القتال والفوضى الى ھروب مقاتلي "داعش" المعتقلين لدى الأكراد وعددھم يقدر بنحو عشرة آلاف بينھم ألفا أجنبي. ولذلك دعت الدول الأوروبية، التي انكشف دورھا المتراجع وتأثيرھا الضعيف، الرئيس ترامب الى إعادة النظر في موقفه. أما الاستنفار العربي، فليس أفضل حالا ولن يكون ذا جدوى، وأقصى ما يمكن أن يتمخض عنه الاجتماع الطارئ للجامعة العربية ھو فتح ملف عودة سوريا الى الجامعة العربية، بعدما خاب أمل العرب بترامب.

الأنظار تتجه الى واشنطن لتحديد طبيعة الانسحاب أو الانكفاء الأميركي ومداه، وما سترسو عليه سياسة ترامب المحاصر بضغوط قوية من الداخل والخارج. ففي الولايات المتحدة جدل حاد بشأن قرار ترامب الذي ستكون له مضاعفات بعيدة المدى على مكانة الولايات المتحدة وسمعتھا في العالم، والذي يعني تسليم مستقبل سوريا الى ثلاث دول ليست أميركا إحداھا وھي روسيا وإيران وتركيا.

في واشنطن صدمة إزاء الطريقة الاعتباطية والخطيرة التي اتخذ فيھا ترامب قراره وأعلنه، في شمال سوريا خيبة عميقة عند الأكراد من تخلي ترامب عنھم، وفي الخليج شكوك وتزعزع الثقة أكثر بترامب بعد تخليه عن حلفاء أميركا في سوريا. وفي أوروبا قلق من سياسة أميركية تركت الباب مواربا أمام تركيا كي تتوغل في الشمال السوري وزادت في تعقيد الأزمة السورية، ووضعت المنطقة أمام سيناريوھات مقلقة، بدءا من عودة "داعش" مرورا بأزمة لاجئين دولية جديدة، وصولا الى تغييرات في التركيبة والتوازنات الديموغرافية تكون عنوانا لاضطرابات ومواجھات طويلة الأمد.. وخاصة فوضى جديدة بين حلفائها.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل