نقاط على الحروف

قراءة في كتاب: "الفرعون والقسّيس"
26/04/2024

قراءة في كتاب: "الفرعون والقسّيس"

قراءة في كتاب
المؤلف: كمال ديب
العنوان: الفرعون والقسّيس
آل فرعون: استقلال لبنان ومسار المشرق (1500 - 2024)
بيروت، الطبعة الأولى، 2023، عدد الصفحات 431
الناشر: دار النهار
مراجعة: شوكت اشتي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الكتاب واضح من عنوانه، كونه يندرج في سياق الكتب التي تتناول تاريخ العائلات اللبنانية، المؤثرة في "تاريخ البلد". وبدءًا من المقدمة يُشير المؤلف إلى أسماء العديد من العائلات، وفي العديد من دول العالم الغربية، أو في المشرق العربي، ليُبيّن أن لهذه العائلات والأفراد من أبنائها "أهمية تاريخية"، في "بناء الأوطان" و"نهضة الشعوب". من هنا فإن عائلة فرعون، التي انطلقت في القرن السادس عشر، وانتشرت في العديد من الدول العربية والعالمية، كان لها، وعلى مدار ما يزيد عن خمسة قرون (1500 - 2024)، موقعها المميز والمؤثر في مسار الحياة الدينية، والسياسية، والاقتصادية.

ومن الشائع، أن الكتب التي تتناول تاريخ العائلات التقليدية السياسية، أو ما يمكن تسميته بـ "البيوتات السياسية"، في لبنان، تتضخم فيها إيجابيات العائلة، وأهمية ما قام به الأبناء والأحفاد.. وهذا غير مقتصر على العائلة موضوع الكتاب الذي نراجعه، بل إنه سمة ملازمة لغيره من الكتب التي تتابع تاريخ هذه العائلة، أو تلك.

ويبدو أن طبيعة مثل هذه الكتب، قد لا تستطيع التفلت من هذه الخصيصة، لأنها في الأساس كان غرضها، والهدف منها التركيز على كلّ ما يُمجد العائلة، ويُبيّن مآثرها، ويُعدد إنجازاتها.

ورغم هذه السمة العامة، فإن الكتاب، موضوع المراجعة، يُلقي الضوء، في سياق عرضه لتاريخ العائلة، على العديد من المحطات والمعطيات المتعلّقة بالبلد ومحيطه، وطبيعة العلاقات التي تحكم فئاته، وتُقيم سلطته، وتُحدد توجهاته السياسية، لدرجة تبدو المسائل والقضايا في لبنان، وفي العديد من مظاهرها، وتفاصيلها، كأنها لا تزال قابعة في التاريخ، ومستقرة فيه دون أي تعديل، أو تبديل.

تساؤلات أولية

وعليه، يمكن الاستنتاج أن عائلة فرعون، تبدو نموذجًا لطبيعة البنية العائلية التقليدية السياسية، في المجتمع اللبناني، التي تتصدر السلطة مرتكزة على موقع ديني، واقتصادي مهم، ممّا يُظهر أهمية تساند المال والسياسة، لترسيخ المكانة الاجتماعية للعائلة من جهة، ويُبيّن تأثير، وفاعلية العلاقات "الخارجية"، التي تنسجها العائلة لتأمين استمرارية موقعها، وديمومته من جهة أخرى.

لكن ما يمكن طرحه يتمثل، مبدئيًا، في أمرين: الأول يتعلق في مدى موضوعية الدور الذي تلعبه مثل هذه العائلات، سواء في "بناء الأوطان"، أو في "نهضة الشعوب". وليس المقصود هنا عائلة فرعون موضوع الكتاب، بل العائلات المتصدرة الحياة السياسية، في بلادنا، والمتوارثة المراكز، جيلًا بعد جيل. فإلى أي مدى ساهمت هذه العائلات في "بناء الأوطان"؟ وكيف؟ وهل أرست دعائم "النهضة"؟ وكيف؟ وهل ساهمت في "بناء الدولة"؟ وكيف؟

الأمر الثاني، يتعلق بمدى المواءمة بين أصول/جذور العائلة، والتحولات السياسية والطائفية، في المجتمع اللبناني، أو ما يمكن اعتباره موقع "هوية" العائلة، وعلاقتها بهوية البلد، ومدى التشبث بها. إذ إن المتابع، يُلاحظ، أن أغلب العائلات السياسية اللبنانية، المتشبثة، إلى حد التطرّف، "بالهوية اللبنانية"، وما تتضمنه من مقولات سياسية تتعلق بـ"السيادة"، و"مستلزماتها"، منبتها عربي في الأساس، الأمر الذي يدفع للتساؤل عن المبررات، والدوافع وراء إيجاد هذا التصادم المصطنع بين الهوية/المنبت الأصلي، والتطرّف في مجابهتها، أو إنكارها، عند البعض، في البيئة اللبنانية.

 إن متابعة الكتاب، موضوع المراجعة، تُبيّن أن عائلة آل فرعون أصولها مسيحية عربية، من حوران، لكن لماذا تخبو الهوية العربية، وتتراجع؟ وهذه الملاحظة خصيصة تُرافق بعض العائلات التقليدية السياسية، وليست موجهة لعائلة آل فرعون بالتحديد.

إن إثارة هذه المسائل، وغيرها، لا تنتقص من دور العائلة، موضوع الكتاب، أو من دور غيرها من العائلات اللبنانية، أو ما يُسمى "البيوتات السياسية" في لبنان، لأن مسار الحياة السياسية المرتبط بالعائلية، يُبيّن، من دون أي جهد يُذكر، مدى انعكاساته السلبية على "الوطن" و"الدولة" و"النهضة". بمعنى آخر، بقي الوطن حبيس عائلاته النافذة والمُتنفذة من جهة، وبقيت الدولة مرهونة وغير متجذرة، وبقيت النهضة حلمًا جميلًا، وشعارات دون تحقيق، وبقيت الهوية موضوعًا سجاليًّا، ومادة خلافية.

الجذور واللقب

إن كلمة "فرعون" مصطلح مِصريّ قديم، تعني "المَلِك العظيم". وقد ذُكر هذا المصطلح، في العهد القديم في الكتاب المقدس، ودخل، كمصطلح، اللغة العربية عبر القرآن الكريم.

أما بالنسبة للعائلة، موضوع الكتاب وعنوانه، فجذورها تعود إلى بلدة بُصرى في بلاد حوران، جنوب دمشق. وبلاد حوران شهدت على أرضها "حضارات" عديدة، منذ فجر التاريخ، وتتقاسم أراضيها اليوم سورية والأردن.

والعائلة نصرانية (أرثوذكسية قبل أن تتحول إلى الكثلكة)، من أسر الغساسنة العرب. واسمها بالأساس "آل الأحمر". انتقلت إلى دمشق، في القرن الثاني عشر الميلادي تقريبًا، ومنها إلى البقاع وجبل لبنان ومصر، في القرن الثامن عشر، مبدئيًا، ومنها انتشر أفرادها، في العديد من البلدان الأوروبية. أطلق لقب فرعون، بداية، على الكاهن ميخائيل نعمة الأحمر، في حدود القرن السادس عشر ميلادي، الذي عُرف بالتقوى والغيرة، وحسن التدبير والشجاعة، ورجحان العقل، وكان يَجلّه ويحترمه الكهنة والأكابر، ويخاف منه ويخشاه الأشقياء والشبان الجّهال، ويحتل مكانة خاصة عند البطريرك الأرثوذكسي. لدرجة أنه إذا ضاق البطريرك ذرعًا في تدبير أمر واستعصى عليه، أحاله على "أبونا مخايل"، وإذا ضاق البطريرك صبرًا بإصلاح قوم، توعدهم وتهدّدهم بأنه سيرسل إليهم الكاهن مخائيل.

من هنا غلب لقب فرعون على العائلة، ورافقها بديلًا عن "الأحمر"، بكلّ ما يحمله هذا اللقب من أبعاد ومعانٍ، ورمزية "ملوكية". ويبدو أن من بقي يحمل اسم "الأحمر"، استقر في صيدنايا، في سورية، ودير الأحمر في جوار بعلبك، ومن حمل اللقب الجديد استقر في دمشق، قبل مسار النزوح خارجها.

 وعليه يستعرض الكتاب، موضوع المراجعة، مسارات العائلة ورموزها، ومساحات انتشارها في المنطقة العربية والبلاد الأوروبية، بكثير من التفاصيل والتسلسل، مُعددًا إنجازات العديد من أبنائها، لدرجة تظهر عائلة آل فرعون، وكأنها اسم على مُسمّى، أي كأنها "الملك العظيم" الذي كان يُطلق على ملوك مصر قديمًا.
    
الدور الديني

كان للعائلة دور مهم جدًا وأساسي في ولادة كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك، وازدهارها، سواء بسبب نشاط العائلة الاجتماعي، والتجاري، وأعمالها الخيرية، أو لمساهماتها الوطنية في البلد الذي تستوطن فيه. وهذا ما يؤكده المؤلف، لجهة تلازم الدور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، مع الدور الديني، الأمر الذي يدفع للقول، أو الاستنتاج، أن تحول العائلة من الأرثوذكسية باتّجاه الكثلكة، والوحدة مع روما، لم يكن له دوافع دينية بحتة، بالضرورة، بل له أسبابه السياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضًا.

في النصف الأول من القرن الثامن عشر، انبثقت من الروم الأرثوذكس طائفة الروم الكاثوليك. وهذا الحدث كان له اتصال وثيق جدًا، بتاريخ عائلة آل فرعون، التي انحازت لهذا التوجّه، وعملت على تدعيمه بقوة. بل إن آل فرعون من أوائل الداعين للتوجه نحو الكثلكة. وهذا ما يستعرضه الكتاب، موضوع المراجعة، بدقة وتسلسل تاريخي، مع ذكر الأسماء والرواد، والأحداث.

ويبدو أن نشاط الإرساليات الغربية الكاثوليكية في الشرق، ولا سيما في مدينتي دمشق وحلب، كان له تأثير كبير ومهم على رجال الدين الأرثوذكس ورعاياهم، ممّا سهل السبيل لبزوغ جماعة كاثوليكية، في قلب الأرثوذكسية المشرقية.

ويظهر اسم الكاهن الياس فرعون، في القرن الثامن عشر، المحبّذ للعقيدة الكاثوليكية، الأمر الذي سلّط الأضواء عليه، ودفع بطاركة القسطنطينية والاسكندرية والقدس، لإرسال الأخبار الملفقة عنه، إلى الباب العالي، يتهمونه بأنه إفرنجي الهوى، يتبع البابا في روما، ويخضع له. وهذه تهمة تؤدي إلى التهلكة، لأن البابا، وأوروبا الكاثوليكية في "الشرع" الإسلامي، ديار حرب، ممّا أدى إلى إصدار فرمان بإلقاء القبض عليه، مع عدد من الملتزمين في صيدا، ودمشق، وعكا، باعتبارهم "كهنة عصاة"، فتم سجنهم في صيدا، غير أن استجوابهم، لدى قاضي شرع صيدا، أظهر أن لا صحة، ولا أساس قانوني لاتهامهم بأنهم عملاء للغرب، كتهمة سياسية.
 
المظالم والثراء

ويبين الكتاب، موضوع المراجعة، نماذج عن الصراع المؤلم و"العنيف" بين رجال الإكليروس، سواء على المواقع، أو على مسار الارتباط بروما، واتباع البابا. وقد كان مستوى الاضطهاد قاسيًّا، وباب المظالم ضدّ هذا التوجّه واسعًا (انتقام، تنكيل، سجن، نفي، قتل...). لذلك عمد الكهنة المغضوب عليهم، بسبب هذا التحول، إلى الاستنجاد بروما، عبر الرسائل. ويبدو أن أولى هذه الرسائل انطلقت من دمشق، حيث كان لآل فرعون اليد الطولى في إعدادها وتوقيعها، مثل رسالة بتاريخ 21 كانون الأول 1723، و15 أيار 1726،... ومنها مذكرة الكهنة الذين لجأوا إلى دير المخلص في جبل لبنان، في 13 حزيران 1725...، الأمر الذي دفع روما للتحرك، فتم الاعتراف بولادة كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك المستقلة عن بطريركية إنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس الشرقيين، مبدئيًا، بتاريخ 13 آب 1729، وتثبيتها بتاريخ 25 نيسان 1730.

نتيجة لهذه المظالم اضطرّ  العديد من الكهنة والعائلات إلى الهروب إلى جبل لبنان وفلسطين. وقد استقر العديد من آل فرعون في الفرزل وزحلة ومشغرة، وترشيحا في منطقة صفد، والناصرة في الخليل. ويبدو أن آل شهاب، الذي كانون الملتزمين تجاه البابا العالي، شجعوا آل فرعون، وغيرهم من العائلات الثرية والنافذة، على المجيء إلى جبل لبنان، الأمر الذي عزز الوضع الاقتصادي، ومنحوا البلدات التي سكنوا فيها، بُعدًا تجاريًا مثل دير القمر وذوق مصبح، وشمال بيروت.

وعليه يمكن الإشارة إلى مسألتين: الأولى، أن "الاضطهاد الديني" كان ضمن الطائفة الواحدة. أي لم يكن بين مسلم مسيحي. وهذا "الاضطهاد"، الذي تحمّل ويلاته المؤمنون أرسى التحول باتّجاه الكثلكة. الثانية، أن جبل لبنان، سابقًا، ولبنان حاضرًا، لا زال يلعب على استثمار طاقات المحيط العربي المادية خاصة، والبشرية عامة، ويعمل على جذبها، دون أن يقوم بدور المنتج والفاعل.. أي أن لبنان، لا زال يلعب دور الوسيط من جهة، والاستفادة من "المظالم" في البلدان المحيطة، دون أن يُقدم، بالضرورة، أي شيء من جهة أخرى.

العائلة في مصر

هجرة الوافدين من بلاد الشام إلى مصر، تعود، من حيث المبدأ، إلى منتصف القرن السادس عشر (1550)، وحتّى نهاية القرن الثامن عشر (1799). أي أنها سبقت الأحداث الطائفية في جبل لبنان ودمشق (1860)، بحوالي مئتي عام. وقد فعّل حركة الهجرة التحول إلى الكثلكة، إضافة إلى شح الموارد، والهروب من الضرائب، والأزمات الاقتصادية الخانقة...

من هنا استقطبت مدينة دمياط الوافدين من آل فرعون من بلاد الشام، وغيرهم، بسبب موقعها التجاري وسهولة العمل فيها، واتساع مرفئها، ومنها انتقلوا، تدريجيًّا، إلى مناطق أخرى من مصر. وقد لعبت الروابط التاريخية والجغرافية والدينية، وإرادة العيش المشترك دورها في مسار هذه الهجرة. وبالتالي لم يكن اختلاف الدين، عائقًا أمام التفاعل، بين الوافدين وأهل مصر. فاللغة مشتركة و"العادات" متقاطعة، مما يجعل الوافدين من بلاد الشام، وكأنهم بين قومهم، وهذه الوضعية التفاعلية، لم يعرفها الأوروبيون، من جهة، وتؤشر على مدى الترابط الموجود بين أبناء هذه المنطقة العربية وعمقها من جهة أخرى.

فقد نجح آل فرعون في أعمال التجارة في مصر، لدرجة أن ما حصلوا عليه من ثروة وجاه، فاق ما كانوا عليه في بلاد الشام. حيث برزوا في الإدارة العامة للشؤون المالية والاقتصادية في القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، وأصبح يوسف ابن إبراهيم فرعون رئيس ديوان الجمارك في دمياط، ومنحه البابا بيوس السادس لقب كونت له ولذريته، في 13 نيسان 1796 بعد أن كان اليهود قد هيمنوا على إدارة الجمارك لحوالي مئتي سنة.

إن نجاح المهاجرين الكاثوليك من بلاد الشام، وأبرزهم آل فرعون، في النشاط التجاري، ساهم في تعزيز الحضور الكاثوليكي في مصر. غير أن الفوضى التي عرفتها مصر، وعدم الاستقرار، أدى إلى التفكير الجدي في الهجرة إلى أوروبا.

التأثير الطائفي

من المسائل التي يذكرها المؤلف بشكل عابر، علاقات الوافدين من بلاد الشام إلى مصر، مع بعضهم البعض. أي أن هذه العلاقات لم تؤدِ إلى الوحدة في ما بينهم، والسبب يعود إلى الطائفية، وانقساماتها بالدرجة الأولى. لذلك بقيت الطوائف الدينية على تمايزها، كما كانت أحوالهم في لبنان وسورية. وهذا ما يدفع إلى الاستنتاج، أن المهاجرين، ينقلون "انقساماتهم" إلى حيث يرحلون. الأمر الذي يؤكد أن هذه الخصيصة الانقسامية عميقة الجذور من جهة، وتُبيّن أن "خطاب الوحدة" بينهم "شعاراتي"، وغير "عملاني" من جهة أخرى. وما يدفع إلى الاستغراب، أن تفوق أبناء الشام في مصر، وعلاقاتهم مع الأوروبيين، لم تستند إلى قاعدة طائفية، بل على قاعدة اقتصادية، وهذا ما يدفع البعض إلى الاعتقاد أن اقباط مصر "تضرروا" كثيرًا من نشاط الوافدين بالجانب الاقتصادي، لكن أبناء مصر لم يتعاملوا مع الوافدين على أساس طائفي.

خفايا التوجّه لإيطاليا

إن الاضطرابات الأمنية والسياسية في مصر، في سبعينيات القرن الثامن عشر، دفعت أبناء آل فرعون للهجرة باتّجاه أوروبا. ومن اللافت للنظر أن هذا التوجّه كان بداية باتّجاه إيطاليا، وليس فرنسا مثلًا. لأن فرنسا كانت حينها تضج بالأفكار "الثورية" - "العلمانية"، والدعوات الفلسفية المناهضة للكنيسة الكاثوليكية. بمعنى آخر، أن الكنيسة كانت تتوجس من هذه "الأفكار الهدامة". لذلك نصح مجمع الإيمان في روما الرعايا الكاثوليك، في الشرق بالابتعاد عن "أفكار التفرقة" في صفوف الرعيّة، التي تبثها "الثورة" في فرنسا.

وتؤشر هذه المواقف الكنسية، إلى طبيعة العلاقة التي حكمت الكنيسة بـ"الأفكار الثورية" من جهة، والعلاقة التي حكمت الكنيسة بالسياسة من جهة ثانية، والعلاقة التي كانت قائمة بين الكنيسة وآل فرعون من جهة ثالثة. خاصة وأن الصداقات التي أقامها بعض رجال الأعمال من آل فرعون، مع التجار الأوروبيين، أمنت لهم الحصول على الحماية الأوروبية.

وتُبيّن طريقة سفر أنطوان فرعون السرية جدًا، إلى إيطاليا، ثمّ تبعه أخيه يوسف، بعيدًا عن أعين السلطة في مصر، التي كانوا من "أركانها"، تُبيّن عمق العلاقة بين آل فرعون والقناصل الأوروبيين، ممّا وفرّ لهم معرفة الكثير من دقائق الأمور وخفاياها. وعليه فإن الهجرة كانت بداية إلى دوقية توسكانا، التي لها موقعها التجاري، والسياسي والثقافي، الخاص والمميز، ومنها كان الانطلاق لاحقًا، إلى بلدان أخرى في أوروبا.

مواقع سياسية وألقاب

من الواضح أن بعض أبناء آل فرعون، ومنهم من ولِد في مصر، احتلوا مواقع مميزة، وحصلوا على ألقاب مهمة، نتيجة لخدماتهم وتفوقهم في أعمالهم التجارية، الأمر الذي ساهم في تعزيز موقعهم، واحتلالهم العديد من المناصب، وتطور أعمالهم التجارية، ومنهم، على سبيل المثال، لا الحصر:

 - أنطوان فرعون، الذي تولى إدارة الجمارك في مصر (1766 - 1784)، حيث أنعم عليه امبراطور النمسا جوزيف الثاني، بلقبَي بارون، وكونت. إضافة إلى أن قنصل النمسا في مصر، كارو روسيتي، (صديق أنطوان)، وضع أنطوان وتجارته تحت حماية الامبراطورية النمساوية.
 - الياس فرعون، بعد احتلال نابليون بونابرت مصر العام 1798، عيّن الياس حنانيا فرعون مستشارًا وترجمانًا خاصًّا به، الأمر الذي جعله مرافقًا رسميًا له، أينما ذهب في مصر وفلسطين. كما رافق نابليون في حملته العسكرية على سورية، وأصيب جراء المعارك. وهذه الحادثة، عزّزت موقعه السياسي والاجتماعي في مصر، كما كانت مفيدة له بعد هجرته إلى باريس، حيث عيّنه نابليون، بعد مغادرة جيشه مصر، في وظيفة رفيعة في وزارة الخارجية، ثمّ عيّن في مركز قنصل فرنسا في الجزائر، ثمّ قنصلًا في شرق اليونان. وفي العام 1820، منحه الملك لويس الثامن عشر، وسام الشرف من رتبة فارس، أي ميداليّة "فرسان القبر المقدس"، مع أوراق براءتها التي تمنح حاملها رتبة عسكرية ودينية معًا. كما منحه البابا لقب كونت، مع ما يوفره هذا اللقب لحامله من فرص في امتلاك الأراضي والوصول إلى المناصب.
 - يوسف حنانيا فرعون، الذي "ارتقى في الوظيفة الرسمية" في باريس، وقد تم اختياره، لمرافقة الحملة الفرنسية لغزو الجزائر العام 1830، ومنحه البابا بيوس لقب كونت روميّ (نسبة إلى روما)، له ولذرّيته من بعده، مكافأة له على أعماله الحميدة في سبيل الديانة المسيحية، ولغيرته الدينيّة في سبيل الإيمان الكاثوليكي ودوام هذا الإيمان في بلدان المشرق.
 - ميخائيل فرعون، الذي رقاه البابا بيوس السابع إلى رتبة ماركيز، بوجب براءة فاتيكانية بتاريخ 4 أيار 1804.
 - يوحنا فرعون، ابن الياس فرعون، (الذي كان موظفًا في وزارة الخارجية الفرنسية)، درس في فرنسا، وتم تعيينه في فرقة الحرس الملكي العام 1829. وعندما بدأت فرنسا تحضيراتها لغزو شمال افريقيا، تم تعيينه ترجمانًا في الحملة الفرنسية لاحتلال الجزائر العام 1930، ونال لقب فارس من فرسان "القبر المقدس" من ملك فرنسا، ونال لقب كونت من البابا. وقد مُنح يوحنا، ووالده، لقب "فارس القبر المقدس" من فرنسا.
 - فلوريان فرعون، ابن يوحنا، رافق من موقعه الصحفي في صحيفة لوفيغارو، إمبراطورة فرنسا، الملكة أوجيني، إلى مصر لحضور حفل افتتاح قناة السويس العام 1869.
هذه المواقع والألقاب سيكون لها دور أساسي في تدعيم وضع العائلة، على الصُعد التجارية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية...

بيروت ملجأً

إن الأزمة، في مصر، ازدادت تفاقمًا، بسبب أعمال المقاومة المصرية ضدّ الاحتلال الفرنسي، ممّا جعل العديد من العائلات المسيحية أمام خطر داهم. لأنه ساد اعتقاد بأن النصارى الشوام، والجاليات الأوروبية في مصر، تتعاون مع الجيش الفرنسي المحتل. وهذا ما دفع العديد من هذه العائلات للعودة إلى بلادها في بر الشام، ومنهم فرنسيس فرعون الذي توجه وعائلته إلى بيروت.

جاء توجه فرنسيس إلى بيروت، في سياق التطور الاقتصادي والتجاري والمالي الذي بدأت بيروت تحتله على ساحل البحر المتوسط. وكان قد سبق وصولهم إلى بيروت، السمعة الحسنة، والثراء الواضح، والعلاقات المتينة مع أوساط التجار والعائلات الثرية والحاكمة، في المشرق وأوروبا. من هنا كان اندماج فرنسيس وأبنائه (ميخائيل، عبد الله ولحود)، وأحفادهم في المجتمع البيروتي المتنوع، وعائلاته الثرية، سلسًا، وسهلًا وطبيعيًا. وعليه فقد عمل الأبناء والأحفاد، في الاستيراد والتصدير، وصناعة شرانق الحرير، في لبنان وسورية.

الصيرفة والسياسة

إن تجارة الحرير كانت العامل الأساس، مبدئيًا، في ولادة "بنك فرعون وشيحا". حيت الترابط حميم بين هذه الصناعة و"النشاط المصرفي"، من هنا قد يكون آل فرعون ساهموا في إدخال أسلوب جديد في الخدمات المصرفية. بمعنى آخر، عملية إنتاج الحرير، تتطلب مواكبة مالية متواصلة لبضعة شهور من جهة، وهذه الصناعة بحاجة إلى التأمينات المالية التي تؤمنها شركات متخصصة من جهة أخرى.

من هنا استعملت العائلتان (فرعون وشيحا)، رأسمالهما في تأسيس شركة عُرفت فيما بعد باسم "بنك فرعون وشيحا" العام 1876. وقد استمر هذا البنك بنشاط وفاعلية، تجاوزت المسائل المالية، لتصل إلى المسائل السياسية المباشرة جدًا، الأمر الذي جعله يقوم بدور مهم ومؤثر في الحياة السياسية اللبنانية، إذ ساهم البنك في تمويل الحملات الانتخابية لمعسكر بشارة الخوري، لدرجة تم اتهام ميشال شيحا، باستغلال سلطة المال، ممّا سمح له بأن يختار شخصيًا، ثلاثة أرباع أعضاء البرلمان اللبناني، حيث كان أربعة وعشرون (24) نائبًا، يتقاضون مبالغ من هذا البنك.

ويبدو أن دور "بنك فرعون وشيحا" تعظم، لدرجة دفع الشيخ يوسف الخازن (من معسكر إده)، إلى اقتراح أن يبدأ افتتاح جلسات المجلس النيابي، "باسم مصرف فرعون وشيحا"، لا "باسم الشعب اللبناني"، مع كلّ ما يتضمنه هذا الموقف من دلالات وأبعاد من جهة، وما يؤشر إليه حول طبيعة الحياة السياسية في لبنان من جهة ثانية، وما يوضّحه حول طبيعة النظام السياسي في لبنان من جهة ثالثة، وما يكشفه عن ممثلي الشعب اللبناني واهتماماتهم من جهة رابعة.

السياسة والتقاطعات العائلية

تعمق مسار عائلة آل فرعون في النشاط السياسي، مستندًا إلى مجمل العوامل التي وصلت إليها العائلة عبر نشاطها الاقتصادي، ووضعها المالي، والعلاقات التي نسجتها على أكثر من صعيد، داخليًا وخارجيًا. وعمدت العائلة بداية إلى التحالف المتين مع أسرة شيحا.

من الملاحظ أن العلاقة بين عائلة فرعون وشيحا، تمتنت ماليًا، واقتصاديًا، وتجاريًا، واجتماعيًا، وتتوجت عبر المصاهرة بينهما. من هنا يشير المؤلف، إلى أن هذا العلاقة غدت تحالفًا سياسيًا، قام بدور أساسي في ولادة لبنان وتطوره، وصولًا إلى استقلاله. وتجسد هذا التحالف السياسي، بداية، من خلال العلاقة التي جمعت بشارة الخوري (زوجته لور شقيقة ميشال فرعون)، وميشال شيحا (زوجته مرغريت شقيقة هنري فرعون، والشريك في بنك فرعون شيحا)، وهنري فيليب فرعون.

أسس هؤلاء الثلاثة اتّجاهًا سياسًا، من موقعهم العائلي، والاقتصادي، والمالي، أو ما يمكن اعتباره "قوة ثالثة"، بين دعاة الوحدة (السورية، العربية، الإسلامية) من جهة، ودعاة
"لبنان الصغير" من جهة ثانية. أي أنهم حبذوا توسيع جبل لبنان، ليصبح "دولة لبنان الكبير"، المستقل عن فرنسا.
وقد تطوّرت، حسب المؤلف، أفكار ميشال شيحا، مرارًا، أثناء الانتداب، ليصبح أكثر اعتدالًا، وانفتاحًا على العرب. لذلك تعاون الثلاثة للسير باتّجاه الاستقلال. هذه العلاقة بقيت محكومة، من حيث المبدأ، بالمصالح المشتركة بين عائلتي فرعون – شيحا، والأعمال التجارية والمالية ومسارات تطوّرها.

فلسطين والعلاقة الغرامية

وسعّت عائلة فرعون أعمالها التجارية والمالية في فلسطين، من خلال إرسال الأخوين، ميشال فرعون، وألبير فرعون، إلى مدينة حيفا، التي كانت توأم بيروت، في النهضة العمرانية، والتجارية، والثقافية... وقد نجح الأخوان في أعمالهما التجارية وساهما في اقتصاد المدينة. ويبدو أن اهتمام آل فرعون في فتح فرع لشركتهما في حيفا، يعود إلى تراجع أعمالهما في بيروت، خلال الحرب العالمية الأولى من جهة، واستنادهما إلى الصداقات والعلاقات التي جمعت العائلة مع الأوساط التجارية في سوريا وفلسطين ولبنان، والغرب.
وقد برز اسم ألبير فرعون، وأخيه ميشال، في حيفا، بشكل واضح وسريع، حيث حصلا على عقود تجارية مع الإنكليز، لاستيراد البضائع والمؤن، لصالح الجيش البريطاني، والشركات البريطانية.
إن مسار النجاح الاقتصادي في فلسطين، لم يكن حائلًا أمام ممارسة الحياة العاطفية في أعقد مظاهرها. بل قد يكون النجاح التجاري، ومستوى الثراء من العوامل التي أمّنت المناخ المناسب لإقامة علاقة غرامية أثارت لغطًا. خاصة وأن الثراء ترافق مع شاب في أول طلعته وبهائه.
- طرفا العلاقة: ينقل المؤلف، عن الروائي اللبناني - العربي – اليهوديّ، سليم نصيب (مواليد بيروت العام 1946، وكان مراسل صحيفة ليبراسيون في بيروت، وهاجر إلى فرنسا العام 1969)، أنه ذكر في روايته، "العشق الفلسطيني"، التي صدرت العام 2005، باللغة الفرنسية، أن ألبير فرعون أقام علاقة غرامية مع غولدا مائير، التي أصبحت، لاحقًا، رئيسة وزراء "إسرائيل". وكان كشف هذه العلاقة مذهلًا، وأثار ضجة في الإعلام الغربي، خاصة وأن مائير كانت معروفة بأنها صهيونية متطرفة، وتاريخها حافل بالإجرام. وتشير الرواية، إلى علاقات غولدا مائير الغرامية، ونشاطاتها الجنسية، ممّا أمن لها "نفوذًا سياسيًا". بل إن الروائي سليم نصيب يُشير إلى أن غولدا مائير، "نامت ليلتين أو ثلاث ليال مع عبد الله الأول ملك شرق الأردن"، قبل الاتفاق على تقاسم أراضي الدولة الفلسطينية العتيدة.
- المعرفة بالعلاقة والتحقق منها: يؤكد الروائي سليم نصيب، من موقعه كيهودي عربي، ابن عائلة لبنانية، أن العلاقة حقيقية، وليست اتهامًا، ويوضّح كيفية معرفته بالعلاقة، ومساراتها، وكيفية التحقق منها، وطبيعة الشخصين، طرفي العلاقة، ووضعهما الحياتي والسياسي. فقد عرف الروائي بالعلاقة عن طريق فؤاد خوري (مواليد 1951)، حفيد ألبير فرعون من جهة أمه، مي فرعون، ابنة ألبير، الذي كان يعيش في بيروت. وقد استغرق التحقق من هذه الروابة أربع سنوات، كما استغرقت كتابة الرواية عامًا.
- مسار التحقق: تواصل سليم نصيب مع مريم ابنة أخت ألبير، وكانت "سيدة عجوزًا لطيفة"، تقيم في القاهرة. وكان ألبير كلما مرّ في القاهرة، يزورها، ويُخبرها عن أحوال العائلة في بيروت، ويُحدّثها عن حياته في حيفا، ومُغامراته العاطفية، خاصة مع غولدا مائير.
- بين الإنكار والتأكيد: ذهب الروائي سليم نصيب، إلى "إسرائيل"، وسأل ابنة غولدا مائير وابنها عن مدى معرفتهما بالقصة الغرامية، فأنكرا كل شيء. بالمقابل، أراد "باقي أفراد عائلة فرعون أن يظل هذا سرًا".
- اللقاء الأول:  حصل اللقاء بين الطرفين، لأول مرة في منزل المفوض السامي الربيطانيّ، في القدس العام 1923، والذي حضره قادة من التنظيمات الصهيونية، ونخبة من العرب، في وقت لم تكن قد تبلورت عوامل الانفجار في فلسطين شكل صارخ.
- أماكن اللقاءات: كانت اللقاءات بين الطرفين سرّية جدًا. أما اللقاءات العلنية فكانت تعتمد السرّية أيضًا، لكن بطريقة مختلفة، حيث يعمد كل منهما إلى السفر، كل بمفرده، إلى قبرص. وهناك يمضيان أيامًا جميلة، ويتجولان في الشوارع دون وجل. كما أنهما توافقا على أن لا يتحدثا، أو يتناقشا في السياسة!. فهل كان الهمّ بين الطرفين، محصورًا بمتطلبات العلاقة الغرامية فقط؟
- من هي غولدا مائير؟: هي أوكرانية الأصل، اسمها الأصلي غولدا مابوفتز. تزوجت في أمريكا من يهودي، وأخذت من كنيته كلمة مائير. غادرت مع زوجها العام 1923 للاستيطان في فلسطين، وأقاما في " كيبوتز ميرها"، (تعاونية زراعية صهيونية)، وتعرفت على ألبير فرعون في العام نفسه، وكان عمرها تسعة وعشرين عامًا. لكن زواجها لم يمنعها من إقامة علاقة مع ألبير العازب، الذي كان يُشبه عشيقها الأول، الشاب الوسيم نعّوم بنسكي. كما لم يمنعها زواجها، من تقديم خدمات جسدية لخدمة المشروع الصهيوني.
- من هو ألبير؟: هو من مواليد بيروت، العام 1888، والده روفائيل، وله أربعة إخوة ذكور (فيليب، يوسف، إميل، ميشال)، وشقيقتان (مريم، ومي)، وكان لهؤلاء الأبناء وأحفادهم، لاحقًا، دور في السياسية والاقتصاد في لبنان. متزوج من إيفا بسترس، وله منها ولد اسمه فريد، مواليد 1928، وابنة اسمها مي. وكان يُدير في حيفا - فلسطين، مع شقيقه ميشال أعمال العائلة التجارية والمصرفية. كما ابتنى فيلا في حي راقٍ في مدينة حيفا العام 1929. ويُشير المؤلف، إلى أن ألبير لم يكن يرغب في البقاء في فلسطين، إذا ما نجح المشروع الصهيوني. لكن المنية عاجلته في العام 1946، وله من العمر حوالي ثمانية وخمسون عامًا. ويبدو أنه كان جذابًا، إضافة لكونه أرستقراطيًا، وثريًا، ويحب ركوب الخيل، وغير متعلق بأسرته، التي تركها في بيروت، بعد زواجه العام 1926. وكان قد تعرف على غولدا مائير قبل زواجه، واستمرت العلاقة بعد هذا الزواج. وقد أصبح قنصل لبنان الفخريّ في مدينة حيفا العام 1937.
- بداية تراجع العلاقة: بدأت العلاقة الغرامية، بين الطرفين، بالتراجع مع البدايات الأولى لتوتر الوضع الأمني في فلسطين، فعلى سبيل المثال، قبل أحد اللقاءات السرية، العام 1929، بينهما في بيت ألبير، في حيفا، كانت قد حصلت مظاهرات لليهود والفلسطينيين، ووقعت اشتباكات بين الفلسطينيين، و"منظمة بيتار" الصهيونية، ذهب نتيجتها العديد من الضحايا، ممّا انعكس على علاقتهما، إذ كانت غولدا مائير متوترة ومستاءة للغاية، ولم تنفع معها تعابير الأسف التي قالها ألبير، والذي رفض اعتبار ما جرى مذبحة بحق اليهود، وحاول ألبير أن يوضّح لغولدا مائير طبيعة الشعب الفلسطيني "الفقير"، و"الأمي"، ومعاناتهم من احتلال الإنكليز، وضعف قادتهم، أو تورطهم.
غير أن ألبير لم تنقطع علاقاته الغرامية، إذ تابع، مثلًا، علاقة أخرى، كما يشير المؤلف، مع امرأة يهودية أخرى، ومتزوجة أيضًا، اسمها آرا شتاين، وأصلها إلماني، وزوجها يهودي ألماني، اسمه إميل شتاين، وقد كانت قد غادرت إلى فلسطين العام 1933، لكنها كانت سياسيًا على عكس غولدا مائير، إذ كانت تعتبر أن الحل يقوم على أساس الدولتين، ولا تعتقد بإمكانية إيجاد "حل" لليهود في فلسطين، لهذا سرعان ما عادت وزوجها، إلى أميركا.
بقيت اللقاءات بين الطرفين قائمة، وإن متقطعة، لكن من دون الرومانسيّة السابقة. وكانت مائير قد حذرت ألبير العام 1937، من خطورة الوضع. وفي أحد اللقاءات العام 1939، كانت مائير سعيدة للغاية. لكن هذه السعادة مردها إلى أن البريطانيين قد ألغوا ما عُرف بـ"الكتاب الأبيض"، الذي كان يحد من هجرة اليهود إلى فلسطين. ويبدو أن العديد من هذه التفاصيل، كان ينقلها ألبير إلى ابنة شقيقته، في القاهرة، ويشرح لها تدهور علاقته بغولدا مائير، ويتعجب من تفكير اليهود بالسعي لإقامة دولة لهم في فلسطين. لذلك لم يتوانَ، حسب المؤلف، عن مساعدة الثوار.
- العلاقة وأبعادها:
وعليه فإن النقاش حول هذه العلاقة الغرامية، قد لا يؤدي بالضروة إلى أية نتيجة. لكن من المفيد الإشارة، وبإختصار شديد، إلى بعض الملاحظات، لعل من أبرزها الآتي:
- الموضوعية، إن إدراج هذه العلاقة الغرامية في سياق الكتاب، رغم كل ما يمكن أن تُثيره من حساسية، وحرج، و"اتهامات"، تُبيّن الموضوعية والدقة التي يتمتع بها المؤلف. أي أن المؤلف كان يمكنه التغاضي عن هذه المسألة، غير أنه عرض ما توصل إليه دون أي حرج، ممّا يُعطي المؤلف الكثير من الصدقية والجرأة الأدبية والسياسية.
- طبيعة العلاقة، إن مجريات الأحداث التي حكمت هذه العلاقة الغرامية، لا تُحدّد طبيعتها بدقة، ولا تكشف عن جوهرها. فهل هي قصة حب وغرام، أم يمكن حصرها في إطار العلاقات الجسدية فقط؟ أم اختلطت فيها المعايير فجمعت الأمرين؟
- الخدمات الممكنة، إن النص أظهر أن ألبير فرعون كان مشدودًا تجاه غولدا مائير، غير أنه كان قلقًا، ومتوترًا في الوقت ذاته. وإذا استثنينا، للحظة، مقولة إن الحب لا يعرف أي نوع من الحدود (دينية، عرقية، اجتماعية....)، غير إن طبيعة غولدا مائير، والتزاماتها بالحركة الصهيونية، وما كانت تقدمه من خدمات جسدية، لخدمة ما تلتزم به، وإذا تم، للحظة، تجاوز طبيعة هذه العلاقة الغرامية، المتناقضة مع القيم المجتمعية، والدينية، والأخلاقية،... فإنه من الضروري التساؤل: هل كان لهذه العلاقة أبعاد سياسية؟ هل تم استغلال ألبير فرعون؟ وما هي طبيعة هذا الاستغلال وحدوده؟ بل السؤال الأهم والأبرز، هل توفي ألبير فرعون بشكل طبيعي؟ مبرر هذا التساؤل عائد إلى خصوصية غولدا مائير، والمهام الموكلة إليها.
من المؤكد، من حيث المبدأ، أن هذه العلاقة الغرامية، ما كان لها أن تحظى، بالضرورة، بأي اهتمام، أو إشارة، لو لم تكن مع امرأة صهيونية، لعبت دورًا خطيرًا قبل تصدرها رئاسة مجلس وزراء العدو الصهيوني، وخلاله، وبعده. لذلك قد تبقى مسألة مُثيرة للجدل.

 

العائلة سياسيًّا بيت جيلين

 

إن الانشغال في الأعمال التجارية، والصيرفة، وغيرها، لم يكن حاجزًا للنشاط السياسي. بل يبدو أن هذه المجالات من مستلزمات العمل السياسي ودعائمه، في لبنان. ومن الواضح أن نشاط العائلة السياسي كان أكثر حضورًا في لبنان، من حيث المبدأ، مقارنة بأماكن تواجد العائلة وانتشارها. وهذا يعود إلى طبيعة البنية المجتمعية في لبنان، ومحركات العمل السياسي في هذا البلد، ومستلزماته. وعليه، فقد ترافق عمل العائلة السياسي مع تشكيل دولة لبنان الكبير، حيث عرفت الحياة السياسية في لبنان العديد من الأشخاص من آل فرعون، الذين كان لهم مواقع نيابية، أو وزارية في مراحل متعاقبة من تاريخ لبنان الحديث.

وفي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، مثلًا، لعب ميشال فرعون، ثمّ هنري فرعون، أدوارًا سياسية لخدم لبنان، والسعي لتحقيق استقلاله، ويعرض المؤلف، في الفصول الثلاثة الأخيرة، بشكل خاص، وبكثير من التفاصيل، العديد من هذه الأدوار وعلى أكثر من مستوى، وصولًا لتاريخه.

ويلاحظ  أن ميشال نشط في الحركة الاستقلالية، وانتخب رئيسًا للمؤتمر الوطني اللبناني، بتاريخ 12 تشرين الثاني 1943، ومن هذا الموقع اقترح، كما يشير المؤلف، جعل يوم 22 تشرين الثاني العيد الوطني للبنان، وتحقق هذا الاقتراح في العام 1944. كما كان وزيرًا للخارجية، وساهم في الأربعينيات من القرن العشرين في اللقاءات بين الرئيس بشارة الخوري والانكليز، الذين كان لهم دور أساسي في تحقيق الاستقلال.

كما يمكن الإشارة، إلى هنري فرعون، الذي كان نائبًا، لأكثر من مرة، ووزيرًا للعدل، ثمّ للخارجية، واعتمد وجهة نظر وسطية، غير تصادمية، عُرفت بـ "القوّة الثالثة"، بكلّ ما تتضمنه من اعتماد التهدئة، وتقريب وجهات النظر. فهو عارض رئيس الجمهورية بشارة الخوري، رغم تحالفهما، وعلاقات "النسب" بينهما، بعد انتخابات 1947، لما جرى فيها من مخالفات، وتجاوزات، وأسس مع عبد الحميد كرامي "حزب الاستقلال"، وكان من ضمن فريق، من سبعة نواب، صمموا علم لبنان.

بالإضافة إلى ذلك، فإن ميشال فرعون هو اليوم، من أبرز رجالات "الجيل الجديد" في العائلة، الذين انخرطوا في العمل السياسي. فكان لأكثر من مرة نائبًا، بدءًا من العام 1996، ووزيرًا بدءًا من العام 2000، مما يُشير إلى استمرار العائلة في الحقل السياسي، رغم أن هذا الانخراط تراجع في الآونة الأخيرة.

أزمة عالقة

إن تاريخ عائلة فرعون عريق ومتشعب، وحافل بالأحداث والوقائع. غير أن وضع العائلات السياسية التقليدية، في لبنان، يواجه أزمته البنيوية، في إطار أزمة المجتمع اللبناني، الأمر الذي يجعل هذه العائلات أمام تحديات جمة. أي أن الأزمة غير محصورة في هذه العائلة أو تلك.

ويبدو، أن آل فرعون، استوعبوا طبيعة التركيبة اللبنانية، وتوازناتها الطائفية، بعيدًا عن الاستئثار والتسلط. لذلك رسم هنري فرعون، اتّجاهًا سياسيًّا، حكم، من حيث المبدأ، توجه العائلة السياسي، وعلاقاتها في البيئة اللبنانية، منطلقًا من الواقع الطائفي الذي يُهيمن على البلد وناسه. حيث أشار إلى أن " الروم الكاثوليك ليس عندهم مطامح رئاسيّة. لذا يمكنهم أن يؤدوا دورًا فاعلًا كعنصر تهدئة وتقريب وجهات النظر. وهذه مسؤولية حرصتُ دائمًا على التزامها. وهذه الطبيعة تجعل السياسيّين المنتمين إلى هذه الطائفة ديبلوماسيّين من طراز رفيع".

هذه المقولة، ومهما كان الموقف من الشخص، وسياساته، أو من طبيعة النظام السياسي في لبنان، لها أبعادها، وخفاياها، وأهميتها في إطار تركيبة المجتمع اللبناني، والسلطة الطوائفية السياسية التي تدير البلد، وتهيمن على ناسه، وتستأثر بمقدراته، وتوّلد "النزاع اللبناني اللبناني" بين فترة وأخرى.

 غير أن هذه المقولة، بالمقابل، تكاد توجه أصابع "الاتهام"، إلى البعض من المسيحيين، الذين يتسابقون للوصول إلى سدة الرئاسة، وما يولده هذا التسابق من توترات مجتمعية، وانقسامات طائفية.

لبنانثقافة

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة