قضايا وكتب

مراجعة كتاب: من جمر إلى جمر.. صفحات من ذكريات منير شفيق (3/3)
13/12/2023

مراجعة كتاب: من جمر إلى جمر.. صفحات من ذكريات منير شفيق (3/3)

مراجعة كتاب: من جمر إلى جمر.. صفحات من ذكريات منير شفيق (2/3)

د. شوكت أشتي

تواصل إسلامي

يشير منير شفيق في مسار حياته إلى أهمية كتابه "الإسلام في معركة الحضارة" الصادر في العام 1981، حيث اكتشف من هاجمه، لكن بعد أعوام، أهمية الإسلام. كما أن الكتاب ساهم في نسج علاقات مع الأوساط الإسلامية ورموزها العربية، ومع رموز الثورة الإسلامية في إيران وقادتها. وعليه استعرض بعض لقاءاته وعلاقاته مع العديد من هذه المرجعيات، مثل راشد الغنوشي والشيخ حسن الترابي وغيرهما، موضحًا خيبة الأمل التي تعرض لها عندما تعاون مع رموز إسلامية في السودان، في مشروع المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي، كما في المؤتمر الإسلامي العالمي لحقوق الانسان. إذ سرعان ما همد نشاط هذا المؤتمر في السودان، بعدما تجاهل رئيس جمهورية السودان طلبه، باسم المؤتمر، زيارة السجون في السودان،. حيث كانت هذه المسألة بالنسبة له "أمر مهمة" قام بها.
ويذكر لقاءاته مع الشيخ محمد الغزالي ويوسف القرضاوي، الذي رشحه لعضوية أمانة الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين. لكن تعقدت الأمر لاحقًا، مع تدخل الناتو في الثورية الليبية، والصراع في سوريا، الأمر الذي أدى إلى تجميد عضويته في الأمانة العامة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

الثورات العربية
يعتبر شفيق أن الثورات العربية مسار نحو "مرحلة جديدة". فقد كانت الثورتان في كل من تونس ومصر، نتيجة لفشل مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، والتغيّر في موازين القوى في العشرية الأولى من الألفية الثالثة. موضحًا أن موقف الجيش كان حاسمًا لنجاح الثورتين، وفي الحالات كافة، فإن الثورتين كانتا "قفزة إيجابية كبيرة، بغضّ النظر عما حدث لاحقًا". فالثورة، من وجهة نظره، "تُحاسب على ما تُنجزه، ولا تُحاسب على ما يحدث بعدها مباشرة".
أما بخصوص الموضوع السوري، فالموضوع مختلف جدًا بالنسبة له. كون النظام مختلفًا بشكل جوهري في مسألتين: الأولى، لكونه جزءًا من محور المقاومة والممانعة، ومساهمته في دعم حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله. الثانية، رفضه الشروط التي عُرضت عليه، بعد احتلال العراق، الأمر الذي جعله يدفع ثمن مواقفه.
بناء عليه، فإن فكرة "نقل الديمقراطية" إلى بلادنا غير ممكنة، لعدم توفر مقوماتها. إذ من الضروري تأمين تأييد الجيش والأمن والاستخبارات لحمايتها. كما من ضمانات نجاحها أن تحظى بإجماع وطني، حول النظام الداخلي والسياسة الخارجية. لكن في بلادنا الجيش غير مقتنع بالخيار الديمقراطي. لهذا هي لن تقوم، وستتعرض باستمرار للانقلابات. لذلك فإن فهمنا لـلديمقراطية الغربية، "خاطئ عندما اعتقدنا إنها نظام ولعبة اختيارية ". وبالتالي، فإن الكيان الصهيوني من معوّقات مسار الديمقراطية في بلادنا، لما يشكله من معضلة داخلية، عربية وعالمية.. غير أن كل المعوقات، أمام الديمقراطية في بلادنا لا يفترض أن تؤدي بنا إلى اليأس.

فلسطين ولعبة الصراعات
أما بالنسبة لدور الثورة الفلسطينية (مسؤولين ومقاتلين)، في خضم الصراعات العربية العربية، فإن عليهم أن لا ينخرطوا فيها، أو يكونوا جزءًا منها، أو ينحازوا لأي طرف من أطرافها، أو العمل لخدمة أي من عناصرها، رغم كل ما يمكن أن يكون لدى هذا الطرف أو الشخص، من انحيازات خارج الساحة الفلسطينية. لأن المطلوب عدم الدخول في المعارك الجانبية، والتركيز على المقاومة، وقضية فلسطين. من هنا يقدم نموذجين متعارضين لما يُفترض اعتماده في الثورة الفلسطينية في إطار الصراعات العربية: الأول، اصطفاف ياسر عرفات إلى جانب صدام حسين في غزو الكويت، وما نتج عنه. الثاني، علاقة حماس السليمة مع الرئيس السيسي في مصر، بالرغم من صراعه مع الاخوان المسلمين.

تجربة ايران
تجسد إيران "مشروع ثورة عميقة"، معادية للكيان الصهيوني بقوة، وهذا الكيان يعتبرها العدو رقم واحد، حيث أطاحت قيادة الخميني، بالشاه الذي شكّل "اخطر قلعة داعمة للكيان الصهيوني". وبعد خروجها من الحرب مع العراق، شكلت في عهد الإمام الخامنئي تقدمًا هائلاّ على الصُعد كافة، وأسهمت في بناء  محور المقاومة، الذي يحسب له العدو ألف حساب، ممّا ولّد صراعًا مركزيًا ستكون نتائجه، سواء على  مستقبل فلسطين، أو على المنطقة برمتها. فقد تحول "ميزان القوى"، إلى ما يسمى شبه التوازن الاستراتيجي من الناحية العسكرية، بين جيش العدو من جهة، وما تمتلكه إيران وحزب الله وقطاع غزة، من قدرات صاروخية وعسكرية من جهة ثانية.
 إن دعم إيران لمحور المقاومة كان واضحًا، كما دلت عليه الحروب ضد العدو الصهيوني في لبنان، خاصة عام 2006، أو في قطاع غزة، في الأعوام: 2006، 2008، 2012، 2014. إذ تبين أن العدو لم يعد قادرًا على "خوض حرب سريعة مضمونة النتائج"، كما كانت المعادلة سابقًا. من هنا فإن التيار الإسلامي سيكون "المستقبل له في المقاومة وفلسطين"، وبالمقابل فإن العدو الصهيوني بدأ يتأزّم من الداخل، وقد "دخل في شيخوخة على مستوى قوته".

زيارة غزة
وطئت قدما منير شفيق أرض فلسطين، للمرة الأولى، بعد غياب أكثر من خمسين عامًا، من خلال زيارته لغزة عام 2013. فقد كان قد زار غزة صغيرًا، قبل العام 1948، عندما كان والده يصطحبه معه إلى المحاكم. في زيارته الأول، عندما كان طفلًا، لم يكن هناك مخيمات، بل غزة المدينة. ورغم ذلك فقد شعر بسعادة غامرة، وزاد من سعادته "الاستقبال الأخوي المحبّ الذي لاقاه من أهل القطاع وقادته وقواه". إنها لحظة لا يمكن نسيانها.
إن التطور في ميزان القوى بعد حرب لبنان 2006، وحروب غزة، أشبه بالخيال، إذا قورن بموازين القوى التي كانت سابقًا. فقد كان الجيش الصهيوني "مرعبًا لكل الجيوش العربية"، لكن اليوم اختلفت الصورة كليًا. وهذا يدعو إلى "تفاؤل كبير" فالمقاومة ليست في مأزق، وغزة ليست في مأزق. وعليه فإن غزة عصية على الكيان الصهيوني. من هنا يرى "إننا نحن اليوم في حالة الهجوم"، والعدو أصبح ضعيفًا لدرجة "لا يستقوي إلاّ على السلطة الفلسطينية". وهذا ما يدفعه للتفاؤل جدًا بالنسبة للوضع الفلسطيني المنطلق من غزة.

قضايا حميمية
يتطرق منير شفيق في هذا الجانب، وبشكل مباشر، إلى مسألتين، من حيث المبدأ، الأولى تتعلق بالشعر، والثانية، ترتبط بالحب والأسرة. في المسألة الأولى، يشير إلى أن علاقته بالشعر كانت قديمة ودائمة، غير أنه ابتعد مُبكرًا عنه بسبب انخراطه في العمل السياسي والالتزام بالحزب الشيوعي منذ الخمسينيات من القرن الماضي، وازداد هذا الابتعاد مع تقدم مسارات حياته السياسية. لكن رغم ذلك بقيت له إسهامات محددة، كان ينشرها بأسماء مستعارة، لدرجة يُشير إلى أن أنجز ديوان شعر جديد، غير أنه متردد في نشره.
في المسألة الثانية، يوضّح أن انخراطه المبكر في السياسة كان له تأثيره، أيضًا، لجهة عدم عيش فترة الحب المرتبطة بمرحلة المراهقة. ويشير إلى أنه حتى سن الثلاثين، لم يكن له علاقات بالمرأة. لكنه تزوج، لاحقًا، بتاريخ 10 تشرين الأول 1973، بعد معرفة وحب، وكان في السابعة والثلاثين من العمر. وقد اتفق وزوجته أن لا تكون لهما حفلة عرس أو أفراح من أي شيء. لذلك حضر العرس تسعة أفراد وصغيرين من الأهل. وبسبب حرب 6 تشرين، ذهب في اليوم التالي للاستنفار في مركز التخطيط.
ويؤكد أنه يُدين لزوجته بالكثير، خاصة وإنها كانت استاذة في الجامعة اللبنانية (علم النفس الاجتماعي)، وزواجها منه وحياته المضطربة، حالت دون أن تكون باحثة ذات شأن. لذلك هو يعتز بها، حيث كان لها الفضل في المستويات المختلفة، سواء الحياتية، أو الفكرية، أو السياسية. وقد ساعدته في عدم الانخراط في الصراعات الفكرية، أو الانزلاق في ممارسة التهكم والهجوم الشخصي والنقد العنيف، ضدّ الخصوم. لهذا هو يُقدم الاعتذار لها، وإن بعد فوات الأوان. كما يعتذر من الأولاد (منى وهدى وشفيق) لأنه ظلمهم لعدم التحدّث عنهم في هذه الذكريات، وعدم العناية بهم في مرحلة الطفولة والمراهقة، لأن الأولوية كانت للعمل النضالي والسياسي، حيث سبق أن تعامل مع الأهل بالطريقة ذاتها.
ويختم بالقول إنه لو سُئل إن كان سيفعل ما فعله، فالجواب: "سأفعل بلا تردد! فقضية فلسطين وقضية تحرير الأمة العربية ووحدتها ونهضتها تتطلب كل تضحية". لأن ما كان عليه، "لا يُقارن بما يسببه الشهيد من أحزان ودموع لذويه، وكذلك السجين والجريح والمنفي والمحاصر، فكيف يقارن الذي يعمل ويبقى حيًا ولو مقصرًا وبعيدًا؟".

ملاحظات أولية
 هذه الجولة في متن الكتاب الغني في المعطيات، والأحداث، والأفكار...، تجعل المتابع يحتاج إلى وقت ليس بقليل للإحاطة بها، ومناقشتها، خاصة وأن صاحب الذكريات، كما أسلفنا، من الأشخاص المشهود لهم، مهما كان الموقف السياسي من طروحاته، بالمثابرة والجدية والصدقية، على مدار السنوات كافة، وهو اليوم، أطال الله بعمره، لا يزل مرابطًا، مناضلًا مجاهدًا، قايضًا على الجمر، ومتحملًا كل الآلام والصعاب، في سبيل قضية فلسطين وتحريرها.
بل يمكن القول، وبكثير من الدقة والموضوعية، إن التفاصيل التي يقدمها، والصراحة التي يطرح من خلالها مواقفه وآرائه، تستحق كل التقدير والاحترام. وعليه فإن تعدد المواضيع وتنوعها، تفرض بالمقابل، مناقشة هادئة على المستوى ذاته من الرصانة والدقة والموضوعية، لأن مسار حياته السياسي والفكري والحياتي، الذي عرضه في هذه الذكريات، تبدو نموذجًا حيًا لمسار الكثير الكثير من المناضلين الذين عرفتهم بلادنا، ولم يزالوا مغمورين.
من هنا سنحاول، قدر الإمكان، عرض أبرز ما تطرق إليه، ومناقشته، لتسهيل المراجعة، ومحاولة الإحاطة به، مع الإشارة إلى أن القضايا المطروحة للمراجعة والمناقشة، تبدو متداخلة. من هنا لا تلتزم، بالضرورة، التسلسل الذي جاءت به في متن الكتاب، وهي، من حيث المبدأ، على النحو الآتي:

- غزة أم العزة: قد يكون منير شفيق، من أوائل الذين أكدوا دون أي مهادنة أو تردّ، أن المقاومة في غزة ستكون محطة مفصلية في تاريخ فلسطين، والمنطقة العربية، وأنها العلامة المضيئة في مسيرة التحرير، بقيادة حماس وجناحها العسكري "كتائب عز الدين القسّام"، وحركة الجهاد الإسلامي، وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية. أي أنه لم يراهن، أو يتوقع، بل أكد بحزم، وجزم وبقوة. وعليه، فإن غزة ضمن هذا التحليل هي منارة للمقاومة ونموذج للقتال والفداء باتجاه التحرير من جهة، وهي مقبرة لجيش الاحتلال الصهيوني من جهة أخرى، الأمر الذي يجعل مقولته صحيحة في الشكل والمضمون.
إن تأكيده على هذه الفكرة، وقبل سنتين من عملية طوفان الأقصى (7 تشرين الأول 2023)، تبدو اليوم وفي هذه اللحظات العصيبة التي يعيشها القطاع والضفة الغربية، دليل دامغ على صدقية ما جاء في الذكريات. فقطاع غزة، شعبًا ومقاومة، يتعرض لأطول حرب نخوضها ضد العدو الصهيوني. هي حرب يمارس فيها الجيش النازي الصهيوني، كل أنواع البطش والتدمير والحصار والقتل والإبادة...، إنها بحق قضية الإنسان ومسار تحرره وتحرير أرضه المحتلة، ممّا يُثبت مرة أخرى، أن الشعب الفلسطيني، هو شعب الجبّارين، حيث لا زال يواجه أعتي القوى العالمية، متسلحًا يعمق إيمانه، وعظمة كبريائه، وقوة صموده، وبسالة مجاهديه.
إن هذا التأكيد الذي سجله منير شفيق، قبل اندلاع حرب الإبادة الجماعية والترحيل القسري، ضدّ أهل القطاع، هو بحق مسألة تستحق التقدير والتوقف عندها، لأخذ العبر، وهي نقطة مُضيئة في مسيرته السياسية والفكرية.

تراخي الكيان الصهيوني: في السياق ذاته، تبدو مواقف منير شفيق بأنّ جيش الاحتلال الصهيوني بدأ يتراخى ويضعف أمام بطولات المقاومة كانت دقيقة وموضوعية. وهو قدم حرب 2006 في لبنان التي كانت مفصلًا أساسيًا دليلًا على تراجعه، وتراخي قياداته السياسية والعسكرية، بالرغم من كل الدعم الذي يتلقاه من الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية. كما أوضح أن تجربة غزة من خلال مسلسل المعارك التي شنها العدو على القطاع وأهله الصامدين، في الأعوام الماضية، تُثبت بالدليل القاطع تراجع العدو بالرغم من "تعاظم" عِتاده. واستطرادًا، يمكن تأكيد ما ذهب إليه صاحب الذكريات، من خلال الحرب الوحشية التي يشنها في هذه الأوقات على القطاع.

- مفاعيل أيلول الأسود: إن ما قدمه صاحب الذكريات، حول أحداث أيلول في الأردن العام 1970، فيها كثير من الدقة والموضوعية. غير أن طرحه فكرة "تعايش الثورة والدولة"، مسألة تحتاج إلى المزيد من الدراسة والبحث؛ لأن ما قدمه في متن الكتاب، سواء حول المقاومة الفلسطينية، قبل الحرب الأهلية في لبنان، أو حول تجربة حزب الله، تطرح بعض الملاحظات الأولية على النحو الآتي: أولًا، أن تجربة المقاومة الفلسطينية في لبنان، قبل الحرب الأهلية، قد لا تدخل، عمليًا، نموذجًا ضمن هذه المعادلة، وهي ما تزال موضوعًا جدليًّا بامتياز. الثانية، أن تجربة حزب الله، والتي كان الحزب ناجحًا فيها، من حيث المبدأ، في تجسيدها، لها خصوصيتها في إطار البُنية المجتمعية اللبنانية.
وعليه، فإنّ الأزمة ليست في الثورة، بل في الدولة بحد ذاتها، ومدى موضوعية القول بأنّ هذه الدولة هي دولة بالمعنى الدقيق للكلمة؛ خاصةً وأن مسار بناء الدول، سواء في الأردن أو في لبنان أو في غيرهما من دول العالم الثالث، كانت سلبية بامتياز. لذلك كيف يمكن إقامة فكرة التعايش هذه بين الثورة والدولة، في غياب الدولة فكرة وتجسدًا، أو تراخي أسسها، أو تفكك عناصرها؟
كما أن طرحه فكرة "تأجيل" الصراع أو "تأخيره"، وأحداث الأردن كانت النموذج، قد تتضمن نوعًا من "المثالية"، إلى حد كبير؛ لأن المتآمر على الثورة، ومن يمثلها، لا يمكنه قبول الـتأجيل أو التأخير، كونه ينتظر الفرصة المؤاتية للانقضاض على الثورة من جهة، كما أن اتساع مدى الثورة وتأثيرها في البلد المحدّد جعل تأجيل الصراع أو تأخيره خارج إمكانات الضبط والتحكم من جهة ثانية.
بالمقابل، صحيح القول الذي جاء به صاحب الذكريات، لجهة سحب الذرائع التي تُجيّش ضّد الثورة ورموزها. خاصة وإن التجاوزات التي يقوم بها المحسوبون على الثورة، أو من بعض عناصرها، تحتاج إلى ضبط صارم ومعالجات فورية. وهذه الوضعية "المتفلتة" والمضطربة، في البلد المحدّد، تصبح خارج الاحتمال والمعقولية، وفي الحالات كافة يغدو الانفجار، للأسف الأقرب للتنفيذ. وعندها تخرج التطورات والأحداث المتسارعة، وفي الكثير من الأوقات، عن التحكم والسيطرة.
 من هنا؛ فإنّ مقولة، أو شعار، عدم تدخل المقاومة الفلسطينية في الشؤون الداخلية، قد تبقى أقرب لكونها شعارًا تستحضره المناسبات، الأمر الذي يجعل من الصعوبة تحقيقه، فعليًّا، وتقدم كل من تجربتي المقاومة الفلسطينية، سواء في الأردن أو في لبنان، نموذجًا، لصعوبة تنفيذ هذا الشعار واقعيًا. غير أن الإفادة وأخذ العِبَر من التجارب السابقة تبقى حاجة وضرورة. خاصة وإن لكل تجربة خصائصها وأسبابها وبيئتها. وفي الأحوال كافة، فإنّ مجمل ما قدمه منير شفيق حول هذه المسائل كان نابعًا من عمق التجارب التي عايشها، خاصة في تجربة الأردن. لكن نظرة أولية وسريعة حول تواجد الثورة الفلسطينية في أقطار عربية أخرى، تُبين محدودية هذا التواجد ومحدودية تأثيره و"انصياعه" للسلطة القائمة واجهزتها. وهذا بحد ذاته له دلالاته.
ومن الجدير الانتباه، في هذا السياق، إلى ما أورده، منير شفيق حول أحداث الأردن، حيث تبين أن لا أحد من المؤيدين للثورة يريد "تغيير النظام". وهذه المقولة على قدر كبير من الأهمية، لأن فكرة التغيير مطروحة بقوة، سواء كان هناك ثورة أو بوجود أحزاب وطنية داخل هذه الدولة أو تلك، تسعى للتغيير وتُبشر به. لكن، بالمقابل، تبدو عملية التغيير في غاية الصعوبة، إذا لم نقل "الاستحالة"، كونها محكومة بعوامل مجتمعية داخلية وإقليمية ودولية، الأمر الذي يفرض المزيد من المناقشة حولها. فهل بلادنا محكومة بأنظمة "متجمدة" غير قابلة للتحول والتحلّل؟ أم أن الدعوات للتعيير محكومة بـ"سقوف" لا يمكن اختراقها؟

- الالتزام بين الحزب والتيار:  كان التزام منير شفيق وانخراطه "الكلي" في الحزب الشيوعي مُبكرًا جدًا. لكن هذا الالتزام كان "مدرسة" بحد ذاته. فبالرغم من كل الملاحظات التي ساقها في نقده لهذه التجربة، غير أن هذا الالتزام كان له الآثار الإيجابية، سواء في تنمية الشخصية أو في الانخراط في الشأن العام، أو في تطوير الإمكانات الفكرية والسياسية.
وبيّن، في سياق الكتاب، الدور المهم الذي قامت به الأحزاب في الأردن في مسار "التطوير" ومواجهة المشاريع الخارجية المعادية في الخمسينيات من القرن الماضي. غير أنه حدد، بالمقابل، العديد من السلبيات التي ارتبطت بالحزب الشيوعي، كما قد ترتبط بغيره من الأحزاب، سواء لجهة الادعاء بـ"شمولية" المعرفة السياسية والنظرية، أو لجهة النظرة المغالية، لما قد نسميه مجازًا، "للذات الحزبية"، أو لجهة الرموز الحزبية أو لجهة طبيعة الانتظام في حياة الحزب الداخلية، أو لجهة النظرة السلبية للآخر المعارض في الحزب، أو خارجه. إذ يُشير، صاحب الذكريات، إلى أن: "كلّ حزب يعتبر أن أفكاره وبرنامجه الجواب والخلاص والإنقاذ، وكلّ حزب يتصرف باعتباره يمتلك الحّل"، الأمر الذي يتطلب مراجعة نقدية وجدية لمسار التجارب الحزبية في بلادنا، لتبقى فكرة الأحزاب حيّة وفاعلة، في القيام بدورها السياسي، على الصُعد كافة. فهل يمكن للأحزاب أن تراجع تجاربها باتجاه التطوير والتطور؟ أنه سؤال مطروح وتحدٍ يمكن استخلاصه من الذكريات التي قدمها منير شفيق.
من هنا يبدو أن تجربته الحزبية كانت الدافع الرئيس بالنسبة إليه لتجاوز فكرة التنظيم الحزبي الذي كان سائدًا، بطابعه المتشدد ومركزيته الصارمة وعلاقاته الرأسية الحادة، وغياب الرأي الآخر، وهامشية الاستقلالية...، لكن هل تُبرّر هذه الانتقادات، وغيرها، تجاوز فكرة "التنظيم الحزبي"؟ وكيف؟ وهل يمكن المواءمة بين فكرة التنظيم والعلاقات التنظيمية المرنة؟ وكيف؟
قدم منير شفيق الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال تجاوز فكرة "التنظيم الحزبي"، من خلال انخراطه في حركة فتح، وهي التجربة الأعمق في مسيرته النضالية. فحركة فتح من أبرز روافد المقاومة الفلسطينية، وأطرها التنظيمية "فضفاضة" وغير "حديدية"، والعلاقات داخلها مرنة.....الخ. من هنا كان التيار السياسي – العسكري الذي أسهم في تأسيسه داخل حركة فتح، وكان هو أبرز رموزه و"الأب الروحي" له، حيث كان التيار البديل "الأصح"، والإطار "الأفضل"، بالنسبة إليه، عن فكرة التنظيم الحزبي السائدة.

وإذا كان التيار الذي أسهم في تشكيله، قد تميز بالفاعلية والجدية والصفاء والنضالية. كما كانت تجربة السرية الطلابية (كتيبة الجرمق) نموذجًا حيًا للعمل السياسي عامة، والمقاوم خاصة، ومن عايش تلك المرحلة، يشهد بكل ثقة، ليس لبطولة عناصرها وتضحياتهم فقط، بل للنموذج "الأرقى" في التعامل مع البيئة الاجتماعية التي تواجدت فيها قواعدها العسكرية، لجهة السلوك والعلاقات والتواضع والاحترام والاخلاق.... غير أن التيار، بطبيعته "التنظيمية" الخاصة جدًا، تراجع دوره، عمليا، بعد استشهاد ثلاثة من أبرز رموزه، الأمر الذي يطرح تساؤلات طبيعة "التنظيم" المطلوبة لضمان الاستمرارية وتفعيل النضال. هل فكرة "التيار" يمكن أن تكون بديلًا عن "التنظيم الحزبي"؟ أم أن التيار يبقى في حدود "تجميع" لمجموعة عناصر موثوقة ومتأخية في الزمان والمكان المحددين؟ أم أن فكرة التيار تستلزم وجود إطار تنظيمي أوسع يسمح له بالحركة والنشاط؟.

إن متابعة "الهيكلية التنظيمية" المرنة التي اتصف بها التيار تدفع لطرح بعض التساؤلات، كمقدمة لمزيد من النقاش، منها سبيل المثال، لا الحصر،: هل كان يمكن لتجربة التيار السياسية والعسكرية أن تأخذ مسارها "المثالي" لو وجدت خارج الأطر التنظيمية لحركة فتح؟ أي لو وجدت مثلا في هيكلية الفصائل الفلسطينية الأخرى (الشعبية، الديمقراطية، العربية، الصاعقة....). هل أخذ التيار امتداداته المعروفة لولا طبيعة حركة فتح وبنيتها؟ وهل يمكن تأمين الدعم اللوجستي والمادي للتيار خارج مرونة حركة فتح المالية؟ ... لماذا تراجعت تجربة العمل المستقلة التي أقامها التيار، بعيدًا عن حركة فتح؟... هذه التساؤلات لا تهدف للتقليل من موقع التيار ودوره وجديته ونضاليته، بل يطرح الآتي: إلى أي مدى يمكن تعميم فكرة التيار؟ وكيف؟ وفي أية مجالات؟ ولماذا لم تبرز نماذج مماثلة لتجربة التيار؟ وما موقع "القيادة" في إدارة التيار وتوجيهه؟......

إن مسار عمل التيار، قبل استشهاد ثلاثة من رموزه وبعده، تستحق البحث والدراسة للدور المميز الذي قام به على المستويين السياسي والعسكري. لكن من الممكن القول إن "النجاح" يرتبط بمحدودية المشاركين في إدارة "التنظيم" داخل التيار ومدى فاعليتهم من جهة، ومحكومة بطبيعة العلاقات التي تحكم المجموعة من جهة ثانية.... وما قدمه الكتاب حول التيار، بناءً، وتنظيمًا، وإدارةً.... يبدو أقرب لفكرة "الديمقراطية المباشرة" التي عرفتها "دولة المدينة" في أثينا اليونانية. وتجسيدها في التيار كانت أقرب لفكرة الـ"تكتل" في إطار تنظيمي أوسع، ومن الواضح والمؤكد أن تنظيم حركة فتح كان مجال التيار ومتنفسه للحركة والنشاط. وهذا لا يُنقص البته من صدقية التجربة وتفانيها في خدمة قضية فلسطين. كما جاء في سياق المراجعة، ومتن الكتاب.

من هنا هل يمكن التفكير الجدي في كيفية تحقيق المواءمة بين فكرة "التنظيم الحزبي" المعروفة والسائدة، وإمكان تشكيل أطر سياسية أكثر مرونة وشفافية؟ وهل يمكن للأطر الحزبية أن تكون مجالا للـ"تكتل"، في سياق الاعتراف بالمختلف داخل التنظيم الحزبي؟ هل يمكن للأنظمة الداخلية للأحزاب "شرعنة" هذه الفكرة؟

- التفاؤل المُطلق: تُبيّن الذكريات، وإلى حد كبير، الرفض المُطلق لأية تسوية في مسار الصراع لتحرير فلسطين. من جهة، والدعوة للقيام بانتفاضة شعبية شاملة، أو معركة، وصولًا إلى التحرير الكامل لكل فلسطين من جهة أخرى.
من الأكيد أن اتفاق أوسلو، كان وما يزال، موضوعًا يلقى شبه إجماع حول رفضه وحول مفاعيله السلبية والمدمرة. لكن في ظل موازين القوى القائم، والذي تأتي الذكريات على ذكرها باستمرار من جهة، وفي ظل الانحياز "العالمي" الأعمى وشبه المُطلق للعدو الصهيوني وللمجازر التي يرتكبها، وقطاع غزة اليوم نموذجًا صارخًا عنها من جهة ثانية، وفي سياق طبيعة الحروب من جهة ثالثة،.... هل يمكن متابعة مسار التحرير خارج سياق التسوية، أو مسلسل التسويات؟. هذا الطرح لا يهدف للدفاع، مُطلقًا، عن اتفاق أوسلو، وليس له أية أبعاد.
إن ما يُقدمه منير شفيق، في هذه المسألة، قد ينطبق عليه "التفاؤل الاستراتيجي"، أو "التفاؤل المطلق والمجرد"، في رؤيته المستقبلية للصراع مع العدو الصهيوني وحلفائه في المنطقة والعالم أجمع. خاصة وإنه مُدرك بدقة وعمق طبيعة هذا الصراع وتعقيداته. من هنا تفرض التجربة، كما منطق الأمور، "التحرر" من المواقف "الحادة"، لجهة الانقسام الحاد "يا أبيض يا أسود"، لأن بينهما أطياف مختلفة ومتعددة
من الألوان المشكّلة تكمن في موازين القوى عند إقرار أية "تسوية"، ومساراتها اللاحقة.

- الأسرة أساس: أن ما جرى تناوله في الذكريات حول الأسرة ودورها في التكوين والتشكيل وبلورة الشخصية، يبدو من خصائص العملية التربوية الأسرية. غير أنه من المسائل الجديرة بالملاحظة في الأسرة التي تربى ضمنها منير شفيق، هو مستوى التسامح والتفهم وقبول الآخر... الذي تتصف به هذه الأسرة من جهة، وسعيها لتوسيع مدارك الطفل من دون قيود مسبقة من جهة ثانية. فقد كان الوالد يعمد إلى أن يحفظ ابنه آيات من القرآن الكريم، إضافة إلى أبيات من الشعر.
إن طبيعة التنشئة الاجتماعية التي اعتمدتها أسرة منير شفيق، دلالة واضحة على مدى الاندماج الوطني الفلسطيني وغياب الانقسام المجتمعي، ببعده الطائفي في هذا المجتمع. وهذا ما نفتقده في لبنان ولم نرتقِ إلى مستواه. والأكثر أهمية أن هذا المنحى لمّا يزل قائما، من حيث المبدأ، في المجتمع الفلسطيني، بينما يزداد التشظي المجتمعي بأبعاده كافة في لبنان.

- مأزق التعليم: يتطرق منير شفيق، من خلال مسار دراسته في المدرسة والجامعي، وبطريقة مختصرة، إلى طبيعة التعليم في تلك المرحلة، من خلال بعض المظاهر التي تُدلّل على "انحباس" التعليم في الروتين، واعتماده التلقين و"خوفه" من فتح الآفاق وتطوير القدرات.

في المرحلة ما قبل الجامعي، في مدرسة الرشيدية، يوضّح أنه تأثر بوالده لجهة، "إن برامج المدرسة كلام فارغ، فهي لا تُشكل وعيًا، ولا ثقافة حقيقية، هي تؤهل"!. قد تكون هذه النظرة من العوامل غير المباشرة التي جعلته غير "طموح" دراسيًا، أو ساعيًّا للتفوق. غير أن الأزمة الأبرز هنا تكمن في طبيعة المناهج الدراسية وعدم مواكبتها، أو قدرتها في تلك المرحلة، على مواكبة التطور. ويُشير إلى أن أحد زملائه (قد يكون اسمه رفيق) من آل الحسيني، كان أكثر امتلاكا للغة العربية من المعلم أستاذ المادة. وهذا يعود إلى ما كان يتلقاه من والده في البيت. كما أن منير شفيق في حصّة الشعر، كان يُصحّح للأستاذ، أو "يُماحكه" في معنى هذا البيت من الشعر أو ذاك، استنادا، أيضًا، إلى ما تعلمه في البيت.

في المرحلة الجامعية، والتي عاد إليها بعد انقطاع طويل، مع ناجي علوش، بفضل شقيقته سميرة، تبدو الأزمة أكثر خطورة عن المرحلة السابقة إذا لم نقل أعمق وأخطر، سواء لجهة "جمود" التعليم الجامعي وعدم مقدرة بعض الاساتذة الجامعيين، على استيعاب ما هو خارج "الكور" الذي أعدوه، استنادا إلى مراجع، وليس بالضرورة انعكاسا لجهودهم الشخصية. ففي مادة "المجتمع العربي"، اعتمد استاذ المادة كتاب كان ناجي علوش قد أصدره، مع أنه طالب جامعي -معروف ناجي علوش بثقافته ونضاليته- عن المجتمع العربي. ووضع الاستاذ المادة كراسًا معتمدا على هذا كتاب ناجي علوش مباشرة. لكن ماذا كانت النتيجة بالنسبة إلى الطالبين منير وناجي (مؤلف الكتاب)؟ عمد منير شفيق إلى "هضم" الكراسة وتلخيصها، أما ناجي الطالب، فلم يجد ضرورة لمثل هذا الإجراء. وفي الامتحان النهائي، نال منير درجة "جيد جدًا"، بينما حصّل ناجي علوش، مؤلف الكتاب/المرجع، درجة "مقبول".

هذا النمط يبدو أنه ما يزال سائدًا، بأشكال مختلفة، الأمر الذي يفرض مواجهة هذا المأزق العميق. لما له من تداعيات سلبية على "نتائج" التعليم الجامعي ومساراته؛ أي إن هذه المسألة ليست شكلية أو ثانوية في مسار التحرير والتحرر.

- التعليم والالتزام: استكمالا لما سبق، تشير الذكريات إلى أن أسرته كانت مرنة في تعاملها مع الأبناء، ولا تعمد إلى فرض الآراء، من حيث المبدأ، وتسعى إلى تنمية ثقافتهم وعدم حصر الأبناء في الحدود الضيقة. وهذا ما يُدلّل على أن الأب كان "ديمقراطيًا"، إلى حدود بعيدة مع ابنه، مع أن الأبن تمرد على الأسرة في أمرين على الأقل: الأول، عدم متابعته الدراسة الجامعية. الثاني، انخراطه عضوًا عاملًا ومتفرغًا في الحزب الشيوعي. وفي الأمرين، تقبلت الأسرة، وعلى مضض، هذا الوضع الذي خرج عن قدراتها وتوجهاتها.

إن هذين الأمرين، يبدوان، وإلى حد كبير، مترابطين متداخلين من جهة، ويطرحان مسألة تربوية/سياسية على قدر كبير من الأهمية من جهة ثانية. من هنا تحضر التساؤلات الآتية: هل يتعارض الالتزام الحزبي مع التعليم ومتابعة الدارسة الجامعية؟ هل النضال السياسي محصور بالالتزام الحزبي دون سواه؟ هل تقبل الأحزاب، أو تتغاضى، أو تشجع على "كلية" الالتزام؟.....

يواجه العديد من الأهل هذه المسألة، حيث يصّر بعض الأبناء على ترك مقاعد الدراسة بحجة "نداء" الواجب، وأولوية التحرير، أو تغير النظام، أو الاقتناع بأنّ "التفرغ" السياسي أرقى أشكال النضال لخدمة القضية.... ومن خلال المتابعة الأولية، يمكن القول، وبكثير من الدقة، إن هذا الاتجاه كانت نتائجه، ولا تزال، سلبية وغير مثمرة، إذا لم نقل مضّرة على الصعد كافة. لذلك يتحاشى العديد تناول هذه المسألة لأسباب مختلفة ومتعددة.

وعليه، من الضروري والواجب أن تقوم الأحزاب، بالدرجة الأولى، إضافة إلى الأهل والمدرسة،  بالدور المطلوب، لتوعية المناصرين والمحازبين على أهمية التعليم وضرورته والحاجة إليه.... كما العمل لإزالة التعارض "المصطنع" بين التعليم والالتزام السياسي/الحزبي. خاصة وأن العلم، هو بحد ذاته، سلاح فعال، نفتقد، إلى حد كبير، ونحتاجه في مسار عملنا النضالي، الأمر الذي يتطلب توسيع فكرة الالتزام الحزبي، وعدم "سجنه" بالمفهوم الضيق.

من هنا يمكن التأكيد أن كل شخص يمكنه أن يكون "مناضلًا" في إطار إتقانه العمل، عامة، وفي إطار التعليم والسعي لاكتسابه. وقد تكون تجربة كتائب الشهيد عز الدين القسّام خير دليل على ما نطرحه وندعو إليه. بمعنى آخر، لم يكن من الممكن لهؤلاء المقاومين في قطاع غزة، أن يواجهوا العدو الصهيوني بهذا المستوى، دون امتلاكهم العلم ومواكبتهم التطور التقني، حيث أسهم المتعلمون والخبراء وأصحاب الاختصاص في إحداث نقلة نوعية في المواجهة والتصدي للعدو، سواء في القوى الصاروخية، على اختلاف أنواعها، أو في بناء الأنفاق، أو في التواصل، أو في الخدمات الصحية.... فهل يمكن مواجهة هذا التحدي؟ وهل يمكن كسر الصنمية في الالتزام الحزبي؟

- المرجعية الإسلامية: إن اعتماد صاحب الذكريات المرجعية الإسلامية، أساسًا ومنطلقًا فكريًا ونضاليًا، تطرح العديد من التساؤلات من جهة، وهي تحتاج إلى المزيد من نقاش أعمق وأوسع من جهة ثانية. لذلك؛ فإنّ مناقشة هذه المسألة لا تتعلق، مطلقًا، بالحرية الشخصية أو بالخيارات التي يمكن أن يعتمدها هذا الشخص أو ذاك. لأنّ لكل شخص الحق وكامل الحرية في اختيار المرجعية الدينية التي يريد.

غير أن الفكرة التي قدمها منير شفيق في ذكرياته، وهنا نتكلم عن الجانب السياسي لا غير، تتضمن نوعًا من المبالغة في طرحه المرجعية الإسلامية، لدرجة بدت وكأنها فكرة "إلغائية" لغيرها من الاتجاهات الفكرية، الأمر الذي يُعيدنا، بشكل أو بآخر، إلى ما كان هو قد تجاوزه ونقده، بعد تجربته في الحزب الشيوعي.

وقد بينت تجربته، في العديد من التجمعات ذات الطابع الإسلامي، بعض "الإحباطات". كما أن تجربته، مثلًا، في المؤتمر القومي – الإسلامي، مع أهمية الفكرة -لكن من دون الولوج في مناقشة هذه الفكرة ونتائجها- بينت "عمق" التباعد بين التيارين. فقد وضّح بأنّ "نقطة الضعف" كانت في التعاون بين التيارين على المستوى القطري. بينما في القضايا الكبرى التي تتعلّق بالأمة ومصالحها، فكان التفاهم بينهما كبيرًا. وهذا التوصيف يدفع للاستنتاج، من دون عناء كبير، أن عدم التفاهم على المستوى القطري يعود إلى وجود "المنافع" و"المصالح" والمواقع..... بينما على مستوى الأمة توجد "الشعارات"، و"الخطابات الشفوية" و"المقولات اللفظية" و"الحماسة الصوتية"، والسعي لتسجيل المواقف "التاريخية".... وكلها غير مُتجسدة أو لا يمكن تجسيدها وتثميرها، كما على المستوى القطري.
 

من هنا كان صريحًا في تحديد المأزق، على أكثر من مستوى. وعليه، فإنّ المرجعية الإسلامية سياسيًا، كما المرجعية القومية أو المرجعية الماركسية، بقيت للأسف الشديد أسيرة "المنطق الذاتوي" والمصالح الفئوية. لذلك كانت دعوته مهمة وضرورية إلى المزيد من الحوار بين التيارين؛ بل يمكن القول: إن الدعوة للحوار حاجة ماسة، ليس بين التيارين فقط، وإنما داخل كل تيار، لأن غياب الحوار، على المستويات كافة، قد يكون من أبرز الأسباب لتبعثر قوى الثورة.
ختامًا يمكن القول: إن المسائل المطروحة في ذكريات منير شفيق، تطرح قضايا "حاضرة" في العديد من المجالات. لذلك لاحظنا أن الكتاب صدرت له طبعتان في السنة ذاتها (2021)، وهذا مؤشر على أنه من المراجع الجديرة بالقراءة والمتابعة، سواء لطبيعة صاحب الذكريات ونضاليته وصدقية التزاماته، أو لمضمون الكتاب بحد ذاته، أو لطبيعة التجربة التي كان العديد من الأشخاص مشاركًين فيها، أو منخرطًين بتفاصيلها، بأشكال مختلفة.

غير أنه من الضروري الإشارة، في الختام، إلى مسألتين ذكرهما صاحب الذكريات: الأولى، أهمية تجربة غزة، والتي وردت في الكتاب قبل اللحظات المصيرية التي نعيشها مع غزة في هذه المرحلة، إذ قال: "تجربة قطاع غزة التي لم أتصور أن اعيش لأرى مثلها على أرض فلسطين". هذه النظرة الثاقبة تستحق كل تقدير. الثانية، رفضه التحليل المتشائم للأوضاع. إذ قال: " يجب أن يُقدّر الموقف ويُفتّش بين الشقوق عن كل ما من شأنه أن يبعث الأمل في النضال". لأن هناك دائمًا "نقاط ضعف في جبهة العدو والقوى الغاشمة المسيطرة، وهناك دائمًا بصيص من أمل، لو بحثت عنه". وهذه فكرة علينا أن تكون حاضرة في أحلك الأوقات.

 

ثقافة

إقرأ المزيد في: قضايا وكتب