ترامب يلعب عن حُمق بدماء الأميركيين

د. حسام مطر

كان الشهيد قاسم سليماني رمزًا لمحور. الحصانة التي كان يتمتع بها لم ترتبط بالاجراءات الأمنية، بل هي حصانة سياسية، بمعنى آخر، لم يكن اللواء سليماني محصنا بالأمن، بل كان محصنا بقواعد الردع. وهنا قرر الأميركيون اختراق قاعدة من قواعد الردع. وهو كان يتحرك بين الجبهات بشكل مكثف في الخطوط الأمامية، ولديه أدوار سياسية وعسكرية وأحيانًا أدوار اجتماعية، وبالتالي فإن السؤال هو لماذا قرر الأميركيون في هذه اللحظة تجاوز قواعد الردع؟

قرار العملية يعني أن تحولًا حصل في المقاربة الأمريكية. الأميركيون يدركون قطعا أن هناك ثمنًا سيتم دفعه، فلماذا تجرأوا على القبول الآن بالمخاطرة بالثمن الذي سيدفعونه جراء عملية اغتيال الحاج قاسم سليماني؟ هناك سببان عقلانيان، وسبب آخر غير عقلاني.

- السبب أو المتغير الأول مرتبط بما حصل في هجوم "آرامكو". الأميركيون والاسرائيليون اعتبروا أن هجوم "أرامكو" هو تحول كبير في موازين القوى الاقليمية وهذا أمر دقيق جدا. نوعية الهجوم واسلوب الهجوم، والهدف الذي تمت مهاجمته، كل هذه العناصر أدت الى تحول رئيسي في قواعد الاشتباك بل بموازين القوى في المنطقة. هذه العملية أسست لمرحلة بدأت تنكشف اليوم. بعد هجوم "أرامكو" اكتشف الأميركيون والاسرائيليون أن القوة والارادة والجرأة الايرانية هي أكثر من تلك التي يتوقعها العقل الأميركي والاسرائيلي، وهذا كان مرعبا بالنسبة اليهم.

ويمكن في هذا الاطار العودة الى ما يكتبه الاسرائيليون حتى اليوم ويعبرون فيه عن حالة رعب اسرائيلية شاملة من القدرات الصاروخية الايرانية، فيقول رئيس أركان العدو أفيف كوخافي منذ أيام إن الصناعة الصاروخية الايرانية تتجاوز كل الصناعات الأمنية في "اسرائيل". بالتالي، كان التقييم الاسرائيلي يرى أنه بما أن الايرانيين امتلكوا هذه القدرة الصاروخية، فهذا يعني أن لايران القدرة على قصف "اسرائيل" من أي منطقة في الشرق الأوسط. وحينها تكثف الحديث عن العراق، واعتبروا أن الساحة الأخطر هي العراق، حيث يمكن للايرانيين انطلاقا من العراق قصف "اسرائيل" بشكل فعال بكمية كبيرة ودقيقة من الصواريخ.

بدأ يظهر متغير كبير. قرأ الأميركيون أن حملة الضغوط القصوى لا تنجح، وأن الايرانيين يراكمون أسباب القوة، وبالتالي يحصل انزياح في موازين القوى الاقليمية، وان هناك جرأة متصاعدة من الايرانيين وهي نتيجة عكسية لما كان يرغبه ترامب. كان ترامب يعتقد بأن هذه الضغوط على ايران ستدفع الايرانيين الى الجلوس على طاولة التفاوض وتقديم التنازلات. هذا التحول بنظر الأميركيين بدأ ينعكس على العراق نفسه وهو الساحة الأهم للأميركيين.

- المتغير الثاني هو الاسرائيلي. الاسرائيليون أيضا بدأوا يتحدثون عن تشابك الساحات. ورغم أن العراق ليس من دول الطوق لكن بفعل هذه القدرات الصاروخية أصبح يمكن أن يكون العراق منصة لانطلاق هجمات صاروخية باتجاه "اسرائيل" بفعل وجود الحشد الشعبي والتقنية الايرانية معًا. هنا بدأ ينتج التفاهم الاسرائيلي - الأميركي على تقاسم الأدوار والساحات وبدأ يتنامى، بمعنى أنه قد تكون الهجمات الاسرائيلية في العراق في مرحلة ما حصلت بدون رضى أميركي، بل كانت جزءا من الضغط الاسرائيلي الذي يقول للأميركي: إما أنتم تضبطون الأيرانيين في العراق واما نحن الاسرائيليين نذهب لضبط الايرانيين هناك.

في الشهر الماضي كانت هناك زيارة لرئيس الأركان الأميركي الى كيان العدو الاسرائيلي. ويقول أدرعي إن هذه الزيارة كرست موجة من الزيارات الأميركية لكافة أذرع الجيش الأميركي الى "اسرائيل". أي أنه في الشهرين الماضيين كان هناك كثافة في التنسيق العسكري - الأميركي - الاسرائيلي والذي كان محوره ايران. ويبدو أن هناك تقسيمًا يقول بأن تتولى "اسرائيل" ايران في الساحة السورية بينما تتولاها أميركا في الساحة الايرانية.

اذًا، جزء من اغتيال الحاج قاسم سليماني يعكس بدرجة كبيرة المصالح الاسرائيلية. هي مغامرة أميركية جديدة ولعب بدماء الأميركيين لصالح "اسرائيل"، وهذا نجاح للاسرائيليين، حتى الرئيسان باراك أوباما وجورج بوش لم يندفعا هذه الاندفاعة باتجاه المصالح الاسرائيلية، وفي لحظة ما تمكن الاسرائيليون من جرّ ترامب بفعل نفوذهم العميق داخل الادارة الأميركية الى ما يريدون.

- المتغير الثالث غير العقلاني هو شخصية دونالد ترامب. لو كانت المؤسسة الأميركية والبنتاغون بالتحديد لا يريد الضربة، لكان يمكن له أن يتلاعب بترامب ويتجاوزها. لكن، من الواضح أنه كان هناك زخم من المؤسسة يقول لترامب بأن يذهب بهذا الاتجاه، وترامب جاهز نتيجة لا عقلانيته، وتهوره وعنجهيته، والضغوط التي يتعرض اليها داخل أميركا، ونتيجة ما يطمح اليه في الانتخابات من مساعدة من اللوبي الاسرائيلية وربما بعض الدول الخليجية. كل هذه اللاعقلانية لدى ترامب المهووس بفكرة القوة، من ثم الحدث العراقي باستهداف القاعدة الأميركية ومقتل مقاول أميركي ثم هجوم السفارة، لم يستطع تحملها، فذهب باتجاه هذه الضربة.

لكن لدى ترامب من الحماقة الى درجة أنه لا يعرف الايرانيين ولا يعرف قاسم سليماني. هو بعد ساعات على الاغتيال كتب في تغريدة أن ايران لم تربح حربا سابقا لكنها ربحت مفاوضات. كان ترامب يظن أنه بعد هكذا ضربة يمكن أن يجلس للتفاوض مع ايران. وهذا يشير الى أنه رجل غير مدرك لما ارتكبه من حماقة. وهذا الارباك الآن يترجم من خلال الرسائل السويسرية الى الايرانيين.

اتخذ الأميركي قراره بالتصعيد في الساحة العراقية، وكان ينتظر فرصة مناسبة لابراز هذا المسار، لكنه كان ينتظر حصول حدث يمس الأميركيين مباشرة للتبرير لنفسه الذهاب في هذا الاتجاه، ويهدف بذلك، الى أنه في حال سقوط خسائر للأميركيين، سيبرر للجمهور الأميركي أننا تحركنا للدفاع عن المصالح الأميركية وليس لأجل أرامكو أو غيرها. بالتالي، ما حصل في العراق، في السفارة ومقتل أميركي في كركوك استخدمه الأميركي كذريعة لاعادة تحريك التوازن في العراق. في هذا السياق، عرض على ترامب مجموعة خيارات احدها خيار اللواء قاسم سليماني. في مجلس الأمن القومي والاستخبارات الأميركية، كان استغراب لتحديد ترامب هذا الخيار، وبناء عليه، اهتم ترامب بالصورة التي تنتج عن العملية، ولم يهتم بالتداعيات التي تنتج عنها، وهو هنا لم يكن مدركًا على أي أرض تدوس خطواته.

https://www.alahednews.com.lb/article.php?id=14819&cid=153