يوميات عدوان نيسان 1996

آراء وتحليلات

أسرار التشبث بتسويق وهم
21/08/2019

أسرار التشبث بتسويق وهم "صفقة القرن"

إيهاب شوقي

تعكس التصريحات الأخيرة للرئيس الأميركي دونالد ترامب بخصوص الإعلان عن الشق السياسي للصفقة المسماة بـ"صفقة القرن" عقب الانتخابات الإسرائيلية، ثلاثة أمور لافتة، وجديرة بالتوقف والتأمل عندها:

أولًا: أن الصفقة تتميز بالطابع الشخصي، حتى لو كان هذا الطابع متعلقًا بشخصية اعتبارية سواء حزب أو ائتلاف صهيوني حاكم، ناهيك عن شواهد تعلقها بشخص بنيامين نتنياهو بعد استخدام اعلاناتها المتكررة لدواع انتخابية.

ثانيًا: أن الصفقة لا تتعلق بظروف عربية ولا اعتبارات داخلية أو خارجية تتعلق بالطرف الفلسطيني والعربي، وأن ارجاء الاعلان يتعلق بالاعتبار الاسرائيلي فقط!

ثالثًا: اعلان الشق السياسي وفقًا لتصريحات ترامب، يعني أنه تم الانتهاء من الشق الاقتصادي ويوحي بأن الأمر قد تم حسمه والاتفاق عليه ولم يبق الا الشق السياسي لاتمام الاتفاق على الصفقة.

وبتأمل الشق الاقتصادي الذي توحي أميركا بإقراره، فإن هذا الشق من منظور كوشنير يتلخص على لسانه في أن واشنطن تقدم "فرصة للفلسطينيين والإسرائيليين لإنهاء النزاع الذي استمر سنوات طويلة".

وذكر كوشنر أنه قدم في ما يسمى ورشة عمل البحرين  لـ"السلام" "الخطوط العريضة للمستقبل الاقتصادي في المنطقة"، وتقترح الخطة الاقتصادية جذب استثمارات من الدول العربية تتجاوز قيمتها 50 مليار دولار لصالح الفلسطينيين، وإيجاد مليون فرصة عمل لهم، ومضاعفة إجمالي ناتجهم المحلي، على أن يمتد تنفيذها على عشرة أعوام.

هي إذًا مليارات عربية خليجية لن تتكفل لا أمريكا ولا العدو الإسرائيلي بدفع سنت واحد منها، والمطلوب أن تدفع كرشوة للشعب الفلسطيني لتقديم تنازلات نهائية عن حقوقه، في مقابل تعطّف أميركي صهيوني بترك الشعب على قيد الحياة ويستطيع العيش برفاه دون حصار أو عقوبات ما دام مستوفيًا للشروط الصهيو - أميركية المتعلقة بعدم المساس بأمن "اسرائيل" وعدم تنغيص حياة الصهاينة ولو حتى بتذكيرهم بأنهم مجموعة من اللصوص والمغتصبين.

والسؤال هنا، هل تتميز هكذا صفقة بالواقعية وبإمكانية التطبيق أم أن هناك أهدافًا خفية وراء الإصرار على تكرار التذكير بها وسط شواهد الفشل الذريع والذي أبسطه مقاطعة الفلسطينيين بجميع أطيافهم لها؟

الواقع العملي يقول أنها خيالية، ولكن تبدو في الخلفيات أسباب لهذه الاعلانات والدعايات، وقبل محاولة تحري الأسباب، لعله من الجيد إدراج بعض الأسباب التي تجعل من هذه الصفقة دربًا من دروب الخيال:

1/ تتطلب الصفقة اجماعًا فلسطينيًا يصل للحدود القصوى للإجماع، وليس مجرد اتفاق لفصائل رئيسية، بل إن وجود فصيل واحد ولو صغير ووراءه ظهير شعبي ولو قليل، هو بمثابة افساد للصفقة، لأن أي بؤرة مقاومة حتى لو خالفت قانون الاتساع مع الوقت، فهي كفيلة بعدم وجود صفقة مفادها تصفية القضية، فما بالنا والاجماع الفلسطيني هو على الرفض، بل وحتى الأطراف التي خالفت الثوابت واعتمدت تسويات مرفوضة، هي الأخرى رافضة ومقاطعة!

2/ رغم الأزمات التي مرت بها الشعوب العربية والاسلامية، والخصم الحادث في قوة الرأي العام وتجرؤ الأنظمة على الشعوب وتجاوزها لخطوط حمر عديدة، الا أن هناك خطوطًا لم تستطع الأنظمة تجاوزها بعد، ولم تمضي كثير من الأنظمة التي يراهن عليها ترامب في شوط الصفقة لنهايته وتبدي تملصات في اللحظات الأخيرة، ربما بدافع الخوف من استفزاز الشعوب والوصول لنقطة حرجة تكسر الصمت، وربما بدافع الوعي بأن تصفية القضية واطلاق العنان للعدو الصهيوني ليمرح في الاقليم دون قيود او فزاعات هو بمثابة انتحار، وهو خطر حقيقي على هذه الانظمة.

3/ مثلما هو الحال في الجانب الفلسطيني، حيث تتطلب الصفقة اجماعا، فهو الحال على الجانب العربي، فإن الصفقة تتطلب اجماعا رسميا وشعبيا، وهو ما يصل لدرجة الاستحالة في ظل وجود انظمة ممانعة ومحور مقاوم وجماهير للمقاومة.

4/ معظم التحليلات الغربية ترى فشلا في الصفقة ومنطقها، ولعل من ابرز هذه التحليلات والتي تتميز بالأهمية الاستراتيجية والثقل، تقارير مجموعة الأزمات الدولية، والتي تقول إنه على الرغم من التحولات الدولية والإقليمية الكبرى، فإن "التطبيع العربي - الإسرائيلي" ما زال يعتمد على حل النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني.

ما هو اذًا سر الإصرار الأمريكي - الصهيوني على تكرار الإعلان عن هكذا صفقة؟

يبدو الأمر هنا يتعلق بأمرين:

الأول: ما جاء في بداية هذا المقال من إشارة إلى الطابع الشخصي ومصلحة ترامب ونتنياهو الشخصية، فالصفقة تستخدم لخدمات انتخابية لكلا الرجلين، أحدهما بعد عام والآخر بعد شهر، وهذا الطابع الشخصي ليس غريبا على سياسات الرجلين، حيث اعلنت مؤخرا عدة اعلانات خيالية مثل الاعتراف بابتلاع الصهاينة للقدس والجولان والتلويح بضم الضفة وغيرها من القنابل الصوتية الغير قابلة للتطبيق العملي.

ولعل هذا الجانب الشخصي وتفاقمه سيحمل الضرر لكلا النظامين، ومن المفيد الاطلاع على افتتاحية "الغارديان" المتعلقة برضوخ نتنياهو لرغبات ترامب وتأثير ذلك الضار على الصورة الديمقراطية التي يحاول الصهاينة تجميل انفسهم بها، وذلك فيما يتعلق بمنع نتنياهو زيارة نائبتي الكونغرس لفلسطين المحتلة بناء على تغريدة ترامب!

فقد جاءت افتتاحية صحيفة الغارديان بعنوان "نتنياهو منع دخول سياسيتين مسلمتين من أجل ترامب وليس لمصلحة (إسرائيل)"، وتقول الصحيفة أن رفض نتنياهو السماح بزيارة عضوة الكونغرس إلهان عمر لبلاده، والسماح لعضوة الكونغرس رشيدة طليب، التي تنحدر من أصول فلسطينية، بالدخول فقط لأسباب "إنسانية" وبشروط، أدى إلى قلق كبير في كل من "إسرائيل" والولايات المتحدة، وتضيف الصحيفة أنه حتى لجنة الشؤون العامة الأمريكية - الاسرائيلية (أيباك)، التي كانت دائما من المدافعين المخلصين عن نتنياهو، انتقدت القرار.

الثاني: هو تكريس مفاهيم التطبيع وامكانية التفريط وحرف مسار الصراع باستبدال أطراف العداء وجعل ايران والمقاومة هي العدو بدلا من الصهاينة، وايضا ابقاء موطئ قدم امريكي في الاقليم عبر الايحاء بأن امريكا لا تزال تمتلك اوراق اللعبة، وهنا يمكن ان نقول ان (اسرائيل) هي من تخدم ترامب بجعل التفاوض والتسويات حصرا بيد الأمريكي لتعويض هيبته المفقودة في الاقليم.

كما أن التوصيات الاستراتيجية الرصينة تستدعي الحكومة الامريكية للتشبث بشرق المتوسط، وفي دراسة نشرت في The National Interest في 3 أغسطس 2019، أعدها كل من السفير "إريك إيدلمان" سفير الولايات المتحدة السابق في تركيا ووكيل وزارة الدفاع السابق للسياسة، والجنرال متقاعد "تشارلز والد" نائب قائد القيادة الأمريكية الأوروبية سابقًا، والباحث في مركز جيموندز للدفاع والاستراتيجية، خرجت الدراسة بتوصية تقول نصا: "يجب على واضعي السياسات الأميركيين أن يوضحوا بشكل واضح للحلفاء والخصوم على حد سواء: لقد عاد شرق البحر الأبيض المتوسط كمجال ذي أهمية حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة، وستظل الولايات المتحدة منخرطة في توفير القيادة والأطر الدبلوماسية للتعاون الأمني من أجل تحقيق الاستقرار في طريق دولي حيوي".

هنا يمكن ان نستنتج ان الصفقة المزعومة هي للمناورة الانتخابية وتعويض الهيبة المفقودة ومحاولة ترسيخ مفاهيم جديدة تشتت الجماهير وتحدث فجوة بينها وبين المقاومة حيث تقرن المقاومة بالمعاناة الاقتصادية والشقاء، وتقرن التفريط بالانتعاش الاقتصادي، ناهيك عن فتح الباب لاقامة تحالفات تريدها أميركا في اطار تشبثها بشرق المتوسط وفقًا للنصائح الاستراتيجية الثمينة.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات