يوميات عدوان نيسان 1996

نقاط على الحروف

معالجة المشاكل الاجتماعية وسياسات العفو والعقاب
14/08/2019

معالجة المشاكل الاجتماعية وسياسات العفو والعقاب

* علي حكمت شعيب

غالباً ما يواجه المصلحون الاجتماعيون مواقف تتطلب اتخاذ قرار عبر المفاضلة والاختيار بين سياسة العفو عن الباغي والظالم أو سياسة إنزال العقاب عليه.

فهل هناك أسس لتلك المفاضلة يُستضاء بها.

لقد ورد في عهد الإمام علي(ع) إلى واليه على مصر والمعروف بعهد الأشتر (رض): "ولْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ".

ومن هذا الحديث الشريف يُستفاد ثلاثة معايير للمفاضلة أثناء عملية اتخاذ القرار وهي:

١ـ الوسطيّة في الحق
٢ـ العموميّة في العدل
٣ـ الجامعيّة لرضى الناس

وإذا أمعنّا النظر وجدنا أن سياسة العفو تفوق في وسطيتها سياسة إنزال العقاب، باعتبار أنها لا تترك مساءلة المجرم وإدانته بالجرم الذي اقترفه لكنها ترفق به، فهي إذن حدّ الوسط بين عدم مساءلة المجرم وبين إنزال العقاب عليه، لكن يبقى السؤال عن مدى تحقيقها لهدف نشر العدالة المجتمعية بمنع وردع من تسوّل له نفسه أن يعتدي على الناس بغير حق في ظل ظروف بيئية محدّدة، وإلى أي مدى يُجمِعُ رضى الناس حولها في تلك الظروف إن لم تحقق ذلك.

وهنا لا بدّ من قراءة دقيقة وتَتَبُّع للحالات التي كان فيها العفو سياسة معتمدة عبر السنوات الماضية في هذه البيئة الاجتماعية، مع دراسة أثر ذلك في عملية الردع وتحقيق الهدف بسيادة العدل.

إن ما ينشده كل عاقل هو أن تسود العدالة ويعمّ الإنصاف

فإن وُجد أن: سياسة العفو لم تحقق النسبة المطلوبة من سيادة العدل لا بل ساهمت مع عوامل أخرى بتشكيل إتجاه عند الجناة والمجرمين والبغاة يسهُل عليهم معه إعادة الكرة في إقتراف الجريمة، بما أمّنه العفو عنهم من حماية لهم من العقاب مشفوعة ومعززة بقوة عائلية وحزبية ضيّقت مساحة الخيارات أمام المظلوم وقيّدته بخيار وحيد وهو اعتماد سياسة العفو والتنازل عن حقه في عقاب المجرم، خيفةً من تداعيات لاحقة عليه لا تقتصر على نفسه وماله وعرضه بل تتعداها إلى نفوس وأموال وأعراض عائلته، ولا تدفعها السلطات الأمنية والقضائية المستنكفة عن القيام بأدوارها في مواطن كثيرة، والمتذرعة بحجج واهية من قبيل عدم وجود الموارد المادية والبشرية الكافية تارة، وبالنفوذ الحزبي المسيطر المتهم بشكل دائم من قبلها بإعاقة عملها، أو بالنفوذ الطبقي والعائلي المهيمن المرتبط بعلاقات وثيقة مع السياسيين الشعبويين والمفسدين من أصحاب القرار في الدولة تارة أخرى. حينها تكون سياسة العفو فاقدةً لقدرتها على علاج المشكلة لا بل مساهمةً في تفاقمها وفي بناء إتجاه لدى عامة الناس مفاده أن الحكم في المجتمع للقوي وأن ليس للمسالم مقام آمن فيه.

الأمر الذي ينعكس لديهم عدم رضى تُرى مصاديقه في قلة التجاوب وكثرة الإنتقاد عند البعض منهم للفعاليات الرسمية والحزبية والنيابية التي منحوها ثقتهم وتأييدهم ودعمهم ومحبتهم.

لن تُقدَّس أمةٌ لا يؤخذ فيها للضعيف حقُّه من القوي غير مُتتعتع كما ورد عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام

وينبغي مع هذه الحالة وفي ظل هذه الظروف الاجتماعية تفضيل سياسة إنزال العقاب لقدرتها الرادعة التي تؤدي إلى تعميم العدل، والتي تحظى بالتالي بنسبة عالية من رضى الناس، وإن كانت في وسطيتها أقلّ من سياسة العفو، وذلك كمقدمة لاستقرار النظام وتثبيت دعائم العدالة وتنزيه الأمة والمجتمع من رذيلة الجريمة  

فلن تُقدَّس أمةٌ لا يؤخذ فيها للضعيف حقُّه من القوي غير مُتتعتع. كما ورد عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

أي لا تتنزه أمة فتخلو ساحتها المجتمعية من الرذائل إلا في حال تمّ الإنتصاف فيها للمظلوم من الظالم بشكل لا يخاف فيه من أي تبعة جرّاء أخذِه لحقّه من الظالم القوي.

فالعفو وما يشتمل عليه من لين ومداراة ورفق ليس مطلوباً إعماله في كل المواقف لا سيما إذا أضرّ بالهدف المتمثل بردع المجرم وإحياء المجتمع بتخليصه من البغي والظلم والعدوان.

بل يكون العقاب وما يشتمل عليه من خُرق أي استعمال العنف هو عين الرفق بالناس.
 
وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام: "إن كان الرِّفقُ خُرْقاً كان الخُرْق رفقاً"

فالرفق بالطفل المريض يتطلب من وجهة نظر أهله أن يُداروا جسمه ويلطفوا به فلا يعرّضوه لمبضع الجرّاح فيكون ذلك سبباً لانتشار المرض، فحينها يكون الخُرق أو استعمال العنف بالجسد وجرحه بالمبضع لاستئصال المرض هو عين الرفق بالطفل.

وما ضرُب من مثل عن جسم الطفل ينطبق على جسم المجتمع.

وقد فسّر ذلك الشاعر المتنبي بقوله:

ووضع النّدى في موضع السيف في العلى                مضرٌّ كوضع السيف في موضع النّدى

والنّدى لغوياً هو الكرم والجود والسخاء ومنه العفو لأنه لا يكون إلا عن كرم وجود وسخاء النفس.

إن القرآن الكريم شجع على اعتماد سياسة العفو كطريق لهدف هو حياة المجتمع من خلال نزع الجريمة منه

 "وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ" ـ (سورة الشورى 40)

لكن عندما تطبّق تلك السياسة دونما مراعاة لهذا الهدف وعلى أفراد يتخذون منها سبيلاً للتفلت من العقاب مع بقاء روح الجريمة فيهم في ظل ظروف بيئية تُغري المجرم والباغي بالاستمرار فيما يرتكبه.

ساعتئذ يكون إنزال العقاب هو الحياة.

"وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" ـ  (سورة البقرة 179)
   
إن ما ينشده كل عاقل هو أن تسود العدالة ويعمّ الإنصاف عبر معاقبة الأفراد الذين يبغون على الناس بغير حق ممن لا ينفع معهم العفو لاستئصال روحية الجريمة منهم وذلك بغية تأديبهم لردعهم عن البغي والظلم والعدوان وفي ذلك رفق بهم وبمجتمعهم.
* أستاذ جامعي

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف