يوميات عدوان نيسان 1996

خاص العهد

17/07/2019

"هندسات" سلامة النقدية والصلاحيات المفترضة

فاطمة سلامة
يروي لنا من هم أكبر منا سناً أنّ "إدارة" حاكم مصرف لبنان رياض سلامة للمصرف المركزي لا تزال على حالها منذ اليوم الأول لتسلمه سدّة "الحاكمية" عام 1993. ترك الرجل كل شيء وراءه وجعل شغله الشاغل العمل على تثبيت سعر صرف الليرة. هذا الهدف يبدو واضحاً في الإطلالات الاعلامية "القليلة" لسلامة والتصريحات والبيانات التي يُصدرها بين الحين والآخر، والتي يبث فيها "التطمينات" بأن لا خوف على الليرة. نحن لا نُنكر طبعاً أهمية هذا التدبير، فالمحافظة على العملة الوطنية تُشكّل ضرورة الضرورات. لكن أن يُصار تحت هذه الشماعة الى إجراء هندسات مالية واتخاذ قرارات غير مفيدة للاقتصاد الوطني، ففي ذلك "مغامرة" بمالية البلد.   

غالباً ما يؤخذ على مصرف لبنان بشخص الحاكم بأمره ـ الذي يُحكم قبضته على السياسة النقدية ـ "إدارته" الخاطئة، وهندسة السياسة النقدية وفق رؤية ضيّقة. يُشار في هذا الصدد الى "المجد" الذي يمنحه سلامة للمصارف لتحقيق أرباح خيالية، والعطاءات التي منحها اياها على شكل "هندسات". يحضر في هذا الصدد أيضاً سياسة رفع الفوائد لاستقطاب الايداعات والذي انعكس سلباً على الاستثمار والنمو وغيره من المؤشرات، ليدفع لبنان على مدى ربع قرن ثمن السياسة النقدية التي يُديرها سلامة، يُضاف اليها ثمن سياسة "الأذن الطرشاء" التي أدارت بها الحكومات المتعاقبة الاقتصاد اللبناني. حين نُركّز على هاتين النقطتين بالذات نفهم تماماً ما نحن فيه الآن من "بلاءات" ومؤشرات اقتصادية سلبية. 

قبل الحديث عن السياسة التي يُدير بها سلامة المصرف المركزي، لا بد من الإشارة الى الصلاحيات التي يتمتّع بها حاكم المصرف المركزي. الكاتب والباحث الاقتصادي زياد ناصر الدين يُشير الى أنّ قانون "النقد والتسليف" يطلب من مصرف لبنان العمل لزيادة النمو الاقتصادي من خلال سياساته في الأسواق اللبنانية. النمو يتطلّب ـ وفق ناصر الدين ـ اتخاذ قرارات "مفيدة" على المستوى النقدي والقيام بهندسات نقدية تُحدث نمواً اقتصادياً لا انكماشاً. يؤكّد المتحدّث أنّ الحاكم لا يضع الخطة الاقتصادية للبلاد، هذا الأمر من مسؤولية الحكومة، لكن باستطاعته اتخاذ بعض القرارات التي تؤثّر ايجاباً أو سلباً على الاقتصاد ككل. 

ويلفت ناصر الدين الى أن مشكلة المشكلات تتجسّد اليوم بعدم وجود التكامل بين السياسة النقدية والمالية والاقتصادية. منذ التسعينيات حتى اليوم يتحكّم مصرف لبنان بهذه السياسات الثلاث يُضاف اليها السياستان الضريبية والاسكانية. لماذا؟ لأنّ الحكومة وبكل بساطة غائبة عن السمع في هذا الملف وتقاعست عن القيام بدورها، ما سمح للحاكم سلامة بتكبير صلاحياته عرفاً، بعيداً عما ذُكر في القانون. وهنا يوضح الكاتب والباحث الاقتصادي أنّ قانون المصرف المركزي الجديد يُعطي الحاكم سلطة منفصلة عن الحكومة، وهذا ما لا يمكن إسقاطه على لبنان، يقول ناصر الدين الذي يسأل: هل واقع لبنان يسمح بأن يكون للمصرف المركزي سلطة منفصلة، أم يستدعي تكاملاً بين الحكومة والمصرف المركزي؟.

يستعرض ناصر الدين بعض القرارات التي اخذها المصرف المركزي والتي بدا فيها سلامة كمن يعيش في جزيرة معزولة، ومنها سياسة رفع الفوائد لاستقطاب الايداعات الأمر الذي أدى الى تراجع الاستثمار. الأخيرة أدت بطبيعة الحال الى خفض الانتاج وضعف الادخار والنمو وزيادة البطالة. ويوضح ناصر الدين أنّ رفع الفائدة على الدولار والتي تخطّت 11 و12 بالمئة ستسبب بأضرار مستقبلية ترخي بظلالها على الاقتصاد نتيجة توقف الاستثمارات عن العمل داخل الأسواق المالية. وفي هذا الإطار، يوضح المتحدّث أن السياسات المتبعة من قبل المصرف المركزي أمّنت للمصارف الحصول على أرباح خيالية وصلت من عام 1993 حتى 2017 الى 22 مليار دولار. فهل يعمل مصرف لبنان بأمر لبنان وحكومته أم بأمر المصارف لتحقيق أرباح خيالية على حساب الدولة والمالية العامة؟.

ويشدّد المتحدّث على أنّ لبنان يكاد يكون البلد الوحيد في العالم الذي تُحقّق فيه المصارف أرباحاً بنسبة 4 بالمئة من الناتج المحلي في وقت لا تتخطى فيه الأرباح 1 بالمئة في دول أخرى. وكل ذلك بفعل العطاءات التي منحها اياهم سلامة والتي جعلتهم يُحققون الأرباح الخيالية على حساب خزينة الدولة. ويلفت ناصر الدين الى أنّ غياب الدولة عبّد الطريق أمام الحاكم لاتخاذ قرارات "فردانية" بينما المطلوب التكامل مع الحكومة اللبنانية مجتمعةً. ويُشدّد المتحدّث في سياق آخر على ضرورة نشر ميزانيات مصرف لبنان بشفافية مُطلقة حرصاً على المال العام. 

 

"هندسات" سلامة النقدية والصلاحيات المفترضة

 

وفي معرض حديثه، يؤكّد ناصر الدين أنّ المنطق يفرض على مصرف لبنان التعامل كمؤسسة "شفافة" وواضحة، لأنّ عمل الأفراد ليس عمل استمرارية، وربط المؤسسة بشخص واحد فيه الكثير من "المغالطات". يعود ليؤكّد على ضرورة أن تتكامل السياسة النقدية التي يضعها مصرف لبنان مع رؤية مالية واقتصادية متكاملة للدولة. يستغل ناصرالدين المناسبة لدعوة المصرف المركزي الى إعادة النظر بخياراته النقدية فوراً، فكل استدانة اليوم هي ضرائب في الغد، ما يُحتّم على سلامة اتخاذ قرارات متكاملة مع الحكومة، تصب أولاً وأخيراً في مصلحة البلد، لا في مصلحة الطبقة السياسية التي تحالفت معه على مدى عقود. برأيه، فإنّ سلامة يشبه كثيراً الطبقة السياسية التي بنت اقتصادات وهمية لا حقيقية. 

ويتطرق الكاتب والباحث الاقتصادي الى الكثير من التدابير. وفق حساباته، فإنّ تدبير تثبيت سعر صرف الليرة مثلاً ـ الذي جعله سلامة شغله الشاغل ـ يُفيد المغتربين، لكن ماذا عن الداخل؟ إيقاف العمل بالقروض السكنية مثلاً أدى الى تجميد 56 قطاعاً في البلد ما ترك تداعيات سلبية على الدورة الاقتصادية بشكل عام. 

يأخذ ناصر الدين على المصرف المركزي قيامه بالكثير من القرارات الخاطئة، لكنّه في المقابل يُشير الى السياسات الاقتصادية التي انتهجتها الحكومات القائمة على الريع. فلبنان يستورد ما بين 85 الى 90 بالمئة من احتياجاته من الخارج، ما يجعلنا بأمس الحاجة الى العملة الصعبة، وهو ما يُفسّر العجز بميزان المدفوعات نتيجة العجز بالميزان التجاري والذي بلغ 18 مليار دولار. 

بعد كل هذا العرض، يُلخّص ناصرالدين نتائج السياسة النقدية التي انتهجها المصرف المركزي على الشكل التالي:
ـ صفر نمو
ـ انكماش اقتصادي 
ـ ضعف في التقديمات
ـ  إيقاف العمل بالقروض السكنية مع ما يحمله من تداعيات على عشرات القطاعات
ـ هندسات مالية خاطئة وأرباح خيالية بفوائد مرتفعة سترتد سلباً على الأسواق في السنوات القادمة

 

إقرأ المزيد في: خاص العهد