نقاط على الحروف
أيها العربي أخبرني.. متى تغضبْ؟
كانت ولا تزال الشعوب هي أكبر رقم وازن في المعادلات السياسية، ولولا هذا الوزن لما أسست أكاديميات كبرى ومنابر ضخمة ووسائل إعلام ينفق عليها مليارات الدولارات لمخاطبة الرأي العام وبلورته وتوجيه بوصلته الرئيسية.
وتتضاءل قوة السلاح مهما بلغت درجة فتكه وتطور تكنولوجيته أمام حركة الشعوب وصمودها، كما تتضاءل قوة الأنظمة مهما بلغت من القمع والاستبداد أمام إرادة الشعوب في التحرر، وهو ما خلق وسائل وخطط بديلة لتحييد الشعوب واحتواء طوفانها الهادر.
ولا شك أن من أسوأ المفاجآت وأكثرها خذلاناً، كان الظهور الباهت لدور الشعوب العربية والإسلامية – إلا فيما ندر - في هذه المعركة الوجودية، والذي لا يتسق مع خطورة هذه المعركة ونتائجها المصيرية للمنطقة من جهة، ومن جهة أخرى لا يتسق مع حقيقة وجوهر مشاعر الجماهير وانحيازها للقضية الفلسطينية وعدائها الصادق للكيان الصهيوني.
وهو ما يقود إلى أن هذه الأزمة تتطلب جهداً لمعالجتها، وهذا الجهد ينبغي أن ينطلق من توصيف دقيق.
وهنا ينبغي التفريق بين توصيف ينطلق من أن هذا الصمت ينتج عن حياد وفقدان للهوية وخيانة للقضية، وهو ما يقود لذم الشعوب وجلدها. وبين توصيف ينطلق من أن الصمت ينبع من سلبية طرأت على الشعوب وعجز عن ترجمة حقيقة وجوهر مشاعرها وانحيازاتها، وهو ما يقود إلى جهد لتحريك الشعوب وإفاقتها وإحياء دورها المفقود.
وهنا نحاول القراءة في تفسير هذه السلبية وتأثيرها وما المقترحات لتفعيل الدور الشعبي وإحيائه:
قراءة في أسباب الصمت:
مبدئياً ينبغي مراعاة أن الشعب ليس كتلة صماء، فهو مكون من شرائح وقطاعات متباينة، تجمعها روابط عامة تتعلق بالقضايا الكبرى والثوابت، وروابط خاصة تتمثل في روابط رأسية كالاشتراك في الدين أو المذهب أو العرق أو اللغة، وروابط أفقية كالاشتراك في الفكر والتوجه السياسي.
وبطبيعة الأشياء فإن الروابط تحمل في طياتها الانقسام، وبالتالي يلعب الفكر الاستعماري على تحطيم الروابط وتحويلها لانقسامات، وبالتالي تحويل القوة الصلبة للشعوب إلى هشاشة وجسم رخو لايقوى على مواجهة الهيمنة.
ومن هنا كان استهداف الشعوب عبر مستويات الروابط كافة، بداية من الروابط العامة المتعلقة بالثوابت ومحاولة تمييعها وتحويلها من ثوابت إلى قضايا نسبية تحتمل الخلاف ووجهات النظر.
ووصولاً للانقسامات الرأسية عبر الفتن العرقية والمذهبية، والانقسامات الأفقية عبر تحويل الخلافات والتنوعات الفكرية إلى عداءات وصدامات .
ولا شك أن مرحلة "الربيع العربي" شهدت ذروة الفتن وقمة الاستهداف لهذه الروابط وكان أبرز منتوجها العملي والاجتماعي بعد انجلاء غبار معاركها، هو الحالة السلبية التي سيطرت على الجماهير، وهي حالة عدم اليقين بجدوى تحركاتها بعد عودة الأنظمة التي ظنت أنها أطاحت بها في بعض البلدان، ومن جهة أخرى فقدان الثقة بنفسها وصحة توجهاتها بعد انكشاف الخديعة والتضليل في ثورات ملونة خططها الاستعمار وورط بها الشعوب في بلدان أخرى.
وهو ما قاد إلى حالة من حالات اليأس من جدوى التحرك والاستسلام للصمت، ويضاف إلى ذلك محتوى الثقافة الاستهلاكية التي تم إغراق الشعوب بها، ومنصات الدعايات وتفريغ العقول الموجه إلى الأجيال الجديدة وخاصة الجيل "زد" وهو مواليد منتصف التسعينيات، والجيل "ألفا" وهو مواليد أواخر العقد الأول من القرن الجديد، وهما شريحتان تمثلان الشباب القادر على الحركة والفعل والتأثير.
ويضاف لذلك الأزمات الاقتصادية الكبرى التي جعلت معظم الطبقات الاقتصادية في حالة عوز اقتصادي يجعل من همها وفكرها وجهدها الذهني والعضلي منصباً في تأمين الكفاف.
تأثير الصمت في القضية:
لا شك أن الأنظمة المقاومة وحركات المقاومة تؤمن وتقدر الدور الشعبي وهو ما يتجلى في احترام المقاومة للشعوب وتوعيتها وتثويرها، بداية من أنظمة التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات، وصولاً لجبهات المقاومة دولاً وحركات في وقتنا الراهن، ولا يخلو بيان للمقاومة من حث للجماهير على ممارسة دورها والمشاركة ولو عبر مسيرات تضامن مع القضية والمقاومة.
وهذا الدور الشعبي الذي مارسته شعوب الغرب هو ما أربك أميركا وخلق خطاباً للتهدئة فضح تناقض أقوالها مع دعمها وتسليحها العملي للعدوان، وخلق أزمة حقيقية داخل المجتمع الأمريكي، بل وفي داخل الكيان الصهيوني نفسه، فقد عمقت التحركات الشعبية المطالبة بالصفقة ووقف إطلاق النار من أزمة الكيان وإظهار هشاشته.
وممّا لا شك فيه أن المقاومة متأصلة أيضًا في وجدان الشعوب العربية؛ وهذا ما برز بأبهى صوره، يوم أمس، حينما خرج ألاف الأردنيين في مسيرة، من المسجد الحسيني وسط عمان القديمة، لإقامة زفة شهيد بعد عملية معبر الكرامة التي نفذها الشهيد الأردني ماهر الجازي. فما بالنا لو خرجت الجماهير العربية العريضة لتعلن انتفاضتها وتفصح عن مكنوناتها الغاضبة ودعمها للمقاومة، وهو ما سيجبر أي نظام على احترام هذه الإرادة الشعبية وأن يختار للحفاظ على عرشه بين مواجهة الهيمنة ومواجهة الطوفان الشعبي الهادر، وهنا ستختلف حسابات الأنظمة كثيراً، والتي تتماهى مع العدو في كسب الوقت، بسبب فقدان الوزن الشعبي في معادلة التوازنات.
مقترحات لتفعيل التحرك الجماهيري:
وهنا ينبع الحل من عدة مستويات تتسق مع مستويات الاستهداف الذي خلق حالة السلبية والعجز الشعبي. والمستويان الأهم هما الثقافي والتعبوي:
على المستوى الثقافي:
1- إعادة الاعتبار للثوابت وفصلها عن القضايا الخلافية وبيان أن قضية التحرر من الاستعمار هي قضية تتعلق بالأمن القومي الجماعي وأن كل معاناة الشعوب الاقتصادية والاجتماعية منبعها الاستعمار والهيمنة في المنطقة وأن احتلال فلسطين لا يؤثر في الشعب الفلسطيني وحده وإنما وجود الكيان وبقاؤه يشترطان التوسع والنمو على حساب إضعاف باقي الشعوب ونهب مقدراتها.
2- إعادة الثقة بالنفس للشعوب وجدوى تحركاتها وأن الأنظمة مهما بلغت من قمع وطغيان لا تقوى على مواجهة الشعوب وإرادتها حتى على مستوى الممارسات السلمية دون اللجوء للعنف، بل يكفي إعلان جماعي لإرادة الشعوب واتفاقها على خيار موحد.
3- إحياء الخطاب الديني المقاوم الذي يعبر عن جوهر الدين الحقيقي القائم على العدل ونصرة الضعفاء ورفض المذلة والعبودية وهو خطاب توحيدي بين جميع المذاهب والأديان، وتم تطبيقه في جميع البلاد المسلمة في أثناء مرحلة التحرر الوطني وفي لاهوت التحرير المسيحي في بلاد أمريكا اللاتينية.
على المستوى التعبوي:
وهناك إجراءات حركية يمكن الشروع بها دون عنف أو إخلال باستقرار الدول ولا المساس بها:
1- تحتاج الجماهير دوماً لنواة صلبة للحركة تلتف وتدور حولها وهي بمنزلة ضربة البداية لأي تحرك وهنا لا بد أن تشكل كوادر الحركة من المهمومين بالقضية تنظيمات ترفع راية القضية دون صدام مع أجهزة الدول وأن تسعى لجذب الجماهير للتعبير عن انتماءاتها وتوجيه أسهم غضبها للاحتلال وترجمة تعاطفها لدعم للمقاومة.
2- عدم الاستهانة بأي خيار مقاوم، مثل المقاطعة الاقتصادية، والتي أثبتت جدواها وجعلت العديد من الشركات الكبرى تدخل في أزمات اقتصادية وتتوارى خلف أسماء بديلة لمنتجاتها، وهو نوع من الفرز للجماهير ومصداقية مشاعرها، باعتباره خياراً آمناً لا يصطدم بقمع السلطات.
3- عودة الجامعات والنقابات لدورها الوطني والذي أثبت تاريخياً جدواه في التأثير في قرارات الأنظمة وتوجهاتها.
يظل الباب مفتوحًا أمام المفكرين والباحثين لتفعيل الدور الجماهيري وإعادته، على المستويات البعيدة والمتوسطة والعاجلة، وتبقى الأولوية للمقترحات العاجلة في هذه المرحلة الحساسة والفاصلة.. وحتى ذلك الحين؛ لسان حال أهل فلسطين يقاومون بأيديهم، وينادون الشعوب العربية بأبيات قصيدة عبد الغني التميمي المشهورة:
أخي في الله
أخبرني متى تغضبْ؟؟
إذا انتُهكت محارمُنا
إذا نُسفت معالمُنا ولم تغضبْ
إذا قُتلت شهامتُنا .. إذا ديست كرامتُنا
إذا قامت قيامتنا ولم تغضبْ
فأخبرني متى تغضبْ؟؟...
فلسطين المحتلةغزةالقدس المحتلةالضفة الغربيةالعالم العربي
إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف
01/11/2024
مبارك لـ"النهار" جائزة استحسان "هآرتس"
28/10/2024
المراسل الحربي لا ينقل "مجرد وجهة نظر"..!
26/10/2024