ابناؤك الاشداء

قضايا وكتب

قراءة في كتاب : بيادر التعب (2/1)
07/08/2024

قراءة في كتاب : بيادر التعب (2/1)

قراءة في كتاب - المؤلف، كامل عبد الحسن خليل
العنوان، بيادر التعب
الطبعة الأولى 2023، دار المجد للنشر والتوزيع، عدد الصفحات 398
قراءة: شوكت أشتي

----------------

الكتاب، واضح من الأسطر الأولى في المقدمة، فهو ليس "سيرة حياة شخصية" بالكامل، بل يمكن اعتباره "خُلاصة" وقائع وشخصيات وصور وأحداث، وعادات، وتقاليد... عاشها المؤلف، وعرف حيثياتها بالتفاصيل الدقيقة، أو سمع عنها من الأهل، أو قرأ عنها من مصادر مختلفة، ممّا يجعل النص، أقرب لأن يكون عاكسًا لواقع عاشه أهل الجنوب في لبنان على امتداد ما يُقارب القرن، مبدئيًا.


الهدف من الكتاب، ليس نقل "التجربة الشخصية" بالضرورة والتحديد، وإن غلب على النص مسار تجربة المؤلف بكثير من التفصيل، بل الهدف الأساس والرئيس، يتمثل في أن يعرف "الجيل الصّاعد" المعاناة التي عاشها الأهل، والأجداد في الماضي، وصولاً إلى ما هم عليه في" زماننا هذا". حيث فرضت المقاومة الإسلامية "قوّة الحق"، و"حق امتلاك القُوّة العسكرية الرّاشدة"، فحرّرت الأرض، وحمت الوطن، وأعلت من شأن لبنان، "في عالم  لا يعرف سوى لغة القوة"، وليدرك هذا الجيل "قيمة المعاناة" التي عاشها الأجداد والآباء، من أجل الحفاظ على هذا الإرث المُكِلف".


خصيصة النص


إذاً إن الكتاب، موضوع المراجعة، محاولة للربط بين "الماضي" ومعاناته، وعاداته وتقاليده وأخباره...إلخ. و"الحاضر" بعزته وعنفوانه وانتصاراته وآفاقه المُشرقة. فيعرف الشباب الصاعد مسار هذا التاريخ، وتحولاته، لئلَّا يضيع الجوهر، ولا تموت البذور الخيّرة في خضم التطورات التي يشهدها عصرنا في المجالات المختلفة.


من هنا، فإن الكتاب أقرب لأن يكون "حكاية" سردية، أو قصة "شفوية"، مكتوبة بتعابير أدبية معبرة، وصياغة سلسة متمكنة من اللغة وأصولها، تجمع بين الذاكرة والتاريخ، متطلعة إلى المستقبل وأمانيه. وبالتالي لا يمكن اعتباره "نصًا روائيًا"، كما يرد في المقدمة. لأن متطلبات العمل الروائي لا تنطبق، بالضرورة على متن الكتاب وأحداثه. إلا إذا كان المقصود بالعمل الروائي، السرد كرواية لأحداث وتجارب مختلفة ومتعددة. لذلك اختار المؤلف، الخيال ودمجه بالواقع، فجاءت تعابيره غنية، محّملًة بالمشاعر الطيبة، والألفاظ الشاعرية، الأمر الذي يُعطي النص بُعدًا أدبيًا، وسلاسة لغوية، فتتدرج تعابيره مشحونة بالعاطفة الجياشة، والمشاعر الصادقة.


وعليه فإن الكتاب الذي نراجعه، يوّثق، أحداثًا، وشخصيات، ووقائع، ومواقع....إلخ. في مسار العمل النضالي، والمقاوم في لبنان، الأمر الذي يجعل "الذات"، جزءًا من "العام"، ويجعل "العام" وأحداثه، مُحركًا لـ "الذات" تذكيرًا، وتوثيقًا، وتحديدًا. لذلك يسعى النص، جاهدًا، إلى أن لا "يظلم" أحدًا، في خضم هذه المسيرة النضالية، أو "ينسى" أحدًا. لأن الانتصار هو نتيجة لتراكمات يزرعها جيل بعد جيل، وبناء نُشيّده بالتعب والمعاناة، ليبقى "المتراص"، متينًا، وثابت الأسس، وقوي الدعائم لمواجهة الأعاصير وتقلبات الزمان.


أساس الفكرة


نبعت الفكرة من وهج الحياة ومعاناتها، ومن شدة القسوة وعمق التجربة، ومن وهج الأحداث، ومن وهج النضال وأحلامه، ومن تضحيات الأهل وهمومهم، ومن اندفاعات الشباب وآفاقهم الرحبة، ومن الحنين إلى عادات وتقاليد بدأت تذبل وتغيب وتتراجع شيئًا فشيئًا مع الأيام وتطوراتها.


من هنا، تجمعت معطيات هذه الفكرة وعناصرها، فتبلورت في شكل حوار بين الأب والابن الوحيد الذي تخطى مرحلة الطفولة "وصار في سن السؤال والتدبير".


نحن أمام جيلين، جيل الأب الكادح الذي "حرم نفسه من الكثير الكثير"، وجيل الأبناء، جيل التطور والمعرفة، في "هذه القرية الكونيّة الكبرى". هذا الجيل الذي انفتحت أمامه الآفاق التي لا حدود لها، في العلم والسياسة، وجوانب الحياة المختلفة. بين الجيل المحروم من أبسط الحقوق المدنيّة والوطنيّة، وجيل المفاهيم الحداثوية المشبعة بـ الحرية، والديمقراطية، والعدالة، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، ومفاهيم الدولة، والنظام العام و"القوانين". من هذا المنظار يمكن تحديد فكرة الانطلاق.


بداية الانطلاق 


في مواجهة الجيل الطالع، المفعم بالحيوية والطامح لمستقبل يخطه بيده، والرغبة الجامحة بالسفر إلى "الحياة الجديدة في البلاد الرّاقية"، غير الموجودة في بلادنا، ممّا يوفر الحياة الكريمة، والمستقبل الأكثر إشراقًا. كان الأب أمام هذه المعطيات مُرشدًا، وموجهًا، وليس رافضًا، أو مُعاندًا.


عمد الأب إلى المقارنة بين معيشة الآباء والأجداد في بيوت الطين، والليل الحالك، ومنازل المساكين، وحقول القمح، ومشاتل التبغ، والزاد المتواضع، والخواطر المكسورة، والخبز اليابس....، وحياة الأبناء اليوم، الأكثر رفاهية وراحة وسلاسة وهدوءًا...إلخ. فكانت المقارنة "الصفحة البيضاء" الوحيدة في هذا الوطن المغلوب على أمره.


استنادًا إلى هذه الوضعية قرر الأب، أن يروي لوحيده، بعضًا من "التاريخ القريب والبعيد". لذلك قررا أن ينطلقا معًا وسوية، من الضاحية إلى "الجنوب العزيز"، و"القرية الحبيبة". وهذه الفكرة كانت الانطلاقة، أو المدخل لرواية مسارات الحياة ونضالاتها، ورموزها، وأبطالها المقاومين، وفي كل محطة على الطريق من الضاحية إلى الجنوب هناك حكاية، وحكاية، تروي نبض الحياة وتنفتح على الآمال الواعدة.


الجسور بين جيلين


استنادً إلى هذه الفكرة، كيف يمكن لهذين الجيلين، في خضم هذا العالم المضطرب أن يتفاهما؟ وكيف يمكنهما أن يتواصلا؟ ما الطريقة للتفاهم بينهما؟ ما جسور التواصل بينهما؟ هل يمكن بناء جسور التلاقي" بينهما؟ وكيف؟ من هنا يُقدم الكتاب، موضوع المراجعة، مدخلاً، وإن كان محدودًا جدًا، يمكن من خلاله فتح الطرقات بين الجيلين، وبناء الجسور، وتدعيم أسس التلاقي، ممّا يحفظ المخزون الغني، ويدعم آفاق الانفتاح والتواصل. 


وعليه، ما يمكن استنتاجه، بعيدًا عن الشحنة "الإيديوليوجية التي يتضمنها الكتاب، لأن المدخل للتفاهم، والتلاقي، والتواصل بين الجيلين، هو وبكل بساطة، السماح للأبناء بالتعبير عن آرائهم، دون قمع، وفتح المجالات أمامهم للتعبير عن أنفسهم دون وصاية، وتشجيعهم على الحوار دون خوف..... ويبدو أن المؤلف اعتمد مع وحيده أسلوب الحوار، وحاول من خلاله أن يوصل للابن ما يريد دون توتر، أو إشكالات.


وقد جسد الأب هذا المنحى في أكثر من مناسبة، ولعل من أبرزها كانت عند اتخاذ القرار بالتوجه إلى "الجنوب العزيز". فبعد صلاة الفجر، وفي أثناء شرب قهوة الصباح، وتبادل الأحاديث، قدم الوالد لابنه "سيغارة الصباح"، مُقلدًا في هذه المبادرة ما كان والد الأب قد فعله بعد أن عرف أنه يُدخن. لأن من العادات المعتمدة، في الماضي، أن يخجل الابن من التدخين بحضور الوالد. أي يمتنع الابن عن  التدخين بحضور الأب، أو الكبار، احترامًا لموقعهم من جهة، ولأن عادة التدخين غير مناسبة للشباب، وغير مقبولة، في البيئة المجتمعية من جهة ثانية. 


ما يمكن الإشارة إليه، أن مبادرة الأب كانت خطوة غير معهودة، من حيث المبدأ، وتحمل تعابيرها "الإيجابية"، سواء لجهة الاعتراف بأن الابن أصبح "رجلاً"، وقد خلع "لباس الطفولة"، وثبّت قدميه في الأرض كـ"رجل يدخل ميدان الحياة"، أو لجهة التأكيد على "صداقة" الأب مع الابن. وهذه تبدو تجسيدًا للمثل العامي الشهير "إذا كبر ابنك خاويه"، وفي الحالات كافة، فإن الانفتاح، وتفهم الأبناء، وحوارهم، ومواكبتهم في الحياة ومشاركتهم الهموم والمشاعر... ضرورة تربوية تؤسس لمستقبل أكثر انفتاحًا.


الخطوة الأولى


إن رواية الأحداث التي يتضمنها الكتاب، موضوع المراجعة، لا تخضع إلى تسلسل زمني، بل تفرضها اللحظة، وطبيعة الموقع/المكان الذي وصلا إليه في الطريق إلى الجنوب، الأمر الذي يجعل المواقع تروي أحداثها، وقصصها، وأسماء أبطالها، وشهدائها... من هنا يستحضر الموقع/المكان الحدث، و"يستفز" الذاكرة، فتنساق الروايات والقصص والحكايات، بكل الأبعاد والمعاني والدلالات، لتوضيح مسار الماضي وما كان عليه، وأحداث الحاضر وما تطمح إليه. فكيف بدأت الرحلة؟ وما أبرز محطاتها؟


الخطوة الأولى، بعد صلاة الفجر، كانت الانطلاقة "بسيارة متواضعة الطراز جيّدة الحال"، من أحياء الضاحية التي كانت في سابق الأيام "حزام بؤس لساكنيها"، فغدت اليوم "بوعد صادق، لسيد الوعد أجمل مما كانت عليه، بعد تعرضها لعدوان 2006، و"أعمال التكفيريّين".


مروا على "حارة حريك"، حيث مربع "الشّورى"، وحيث أقام قياديو "حزب الله" عام 1985، عندما نزلوا من البقاع، ثم توسّع المربع لاحقًا. شارحًا لابنه الأحداث التي واكبت هذا المربع، ومنها في 13 أيلول 1997، وفي إطار احتفالي خاص بتأبين الشهداء، وقف سيد المقاومة قائلاً: "أشكر الله سبحانه وتعالى على عظيم نعَمِه، أن تَطلّع ونظر نظرة كريمة إلى عائلتي، فاختار منها شهيدًا، وقَبِلَني وعائلتي أعضاء في الجمع المبارك المقدّس لعوائل الشهداء".


مسلسل الاجتياحات


روى الوالد لابنه، أحداث اجتياح 1978، وبدايات عمل المقاومة، وهو الاجتياح الذي سبق اجتياح 1982، وكان يهدف إلى "كف يد الفدائييّن عن إطلاق الصواريخ على المستعمرات الصهيونية". غير أن بعض عملاء الداخل حاول أن يروج للفكرة التي تقولةإن اجتياح 1978 كان لتخليص أهل الجنوب من "معاناتهم مع الفلسطينيين". وسرعان ما سقطت هذه المزاعم وفشلت، مع الطلقة الأولى التي تصدت للاحتلال.


مُعرجّا على الصعوبات التي واجهت انطلاقة المقاومة في بداياتها الأولى. حيث كان العمل سّريًا، لكنه كان دؤوبًا وحثيثًا. بل كان العمل المقاوم "تهمة تُعاقب عليها الدولة اللبنانية"، ويتم اعتقال المقاومين، ومنعهم من الدخول إلى منطقة الحدود مع فلسطين.


إن العدو الصهيوني، لم يتوقف عن الاعتداء على لبنان، بأشكال مختلفة. لهذا كان اجتياح 1993، الذي سماه العدو باسم "تصفية الحساب"، وكان أولى الحروب الكبيرة بعد اجتياح 1982، حيث استمر سبعة أيام متتالية، وشمل الجنوب والبقاع الغربي، وطاول بيروت بعدد من الغارات.


وعند الوصول إلى "الأوزاعي"، استعاد الأب الإنزال الأميركي على شاطىء "الأوزاعي – خلدة"، مؤكدًا لابنه أن المقاومة اليوم لن تسمح بأن يكون شاطىء البحر، ورماله الذهبية موطئًا لأقدام الغزاة. مُذكرًا بعملية "صور"، وتدمير مقّر الحاكم العسكري التي نفذها "أحمد قصير"، ابن بلدة "دير قانون النهر"، "فاتحًا عهد الاستشهادّيين"، ومُعلنًا مسار انبلاج الفجر، وبدء معركة تحرير لبنان من الاحتلالين الصهيوني والأميركي. إذ ظهرت الطلائع الأولى لقوات "حزب الله" العسكرية، إلى جانب القوى الوطنية، والإسلامية الأخرى في ميادين المواجهة المباشرة مع العدو، وكانت عملية ضد "المارينز الأميركي" على طريق المطار، وتدمير مقر "المظلييّن الفرنسيين" في "الرملة البيضاء"، نفذها اثنان من "الشُجعان المقاومين"، ما زالا مجهولَي الاسم والهويّة.


اجتياح حزيران
ويعود الوالد لاجتياح 1982، ومجرياته المرة وقساوته، حيث طرقت قوات العدو بعنفها الدموي، ومجازرها المُتنقلة، أبواب العاصمة العربية الثانية بعد "القدس" السليبة. فكانت المواجهات البطولية ضد جيش العدو في العديد من المواقع. ومعركة قلعة "الشقيف" نموذجًا أسطوريًا، حيث استعصت على العدو، وكشفت عمق المواجهة التي خاضها الفدائيون، وكبدوا العدو خسائر كبيرة، إلى جانب بطولات أشبال مخيم "عين الحلوة" البطولية  في التصدي والصمود.


ووضّح الوالد لابنه أن "بعض الأغبياء" قاموا بنشر الأرُزّ والزهور على جنود العدو، خلال الاجتياح، ظنًا منهم أنه جاء لتخليصهم من "الممارسات الفلسطينية"، ولإيجاد الشرخ بين الفدائيين وأبناء الجنوب. لكن سرعان ما أدرك هؤلاء فداحة خطئهم، وشاهدوا أعداد الشباب التي تتعرض للاعتداء، والإذلال، وسوق المئات منهم إلى معتقل أنصار، وفي مقدمتهم المنتمين إلى الأحزاب الوطنية والقوى الفلسطينية.


لكن قلة قليلة، أخذت منحىً آخر في التفكير، مُهتدية بالإمام الخميني، فبدأ التدريب والدورات العسكرية، حيث تخرج من الدورة الأولى العلامة السيد "عبّاس الموسوي"، والثانية "حسن نصر الله".


وشرح الوالد، لمِا تعرضت له بيروت منذ 13 حزيران 1982، من حصار محكم وجائر من قبل العدو، ومُنع عنها الماء والكهرباء والخبز، فكان الحصار عسكريًا وسياسيًا وغذائيًا، فمن الشرق كان خط التماس بين الشرقيّة والغربيّة، ومن الغرب البوارج الحربية المعادية، وقوات العدو من الجنوب. وزاد الحصار تأثيرًا، كونه ترافق مع شهر رمضان المبارك.


صمود بيروت


غير أن بيروت، ورغم كل المعاناة لم ترفع "الأعلام البيضاء"، وبقيت إذاعة "صوت لبنان العربي"، تبث الصمود من "مسجد جمال عبد الناصر"، ولم تفلح محاولات العدو دخول بيروت، وكانت مواجهة محور المتحف نموذجًا في التصدي والمواجهة، حيث شارك فيها مقاتلو "المرابطون"، و"حركة فتح"، و"الحزب الشيوعي". غير أن من عايش تلك اللحظة، يدرك أن المواجهة لم تقتصر على هذه القوى فقط، رغم دورها المميز والجدير بالتقدير والاحترام.


توج العدو احتلاله، ومحاصرته بيروت، بانتخاب "بشير الجميل" رئيسًا للبنان. أي أن رئيس لبنان وصل إلى سدة الرئاسة على "دبابة إسرائيلية"، بعد أن وعد الصهاينة بإبرام الصلح معهم، غير أن الرئيس المُنتخب حاول بعد انتخابه التمييع من جهة، وخداع السوريين، من خلال طلب زيارتهم دون جدوى من جهة ثانية.


كان خروج الفلسطينيين من بيروت في 13 آب 1982، وكأنه "رحلة" إلى المجهول. فخرجت بيروت عن بكرة أبيها، نساءً، ورجالاً، وشبابًا، وصغارًا، وكهولاً لتوديعهم. لقد تعرض الفلسطينيون لضغوطات لا تُحتمل. لدرجة لم يجد قادتهم مأوى يلجؤون إليه. لأن طائرات العدو كانت تُلاحقهم، والخوف من استقبالهم كان كبيرًا ومرعبًا.


تساؤل مشروع


تساءل الابن مُستغربًا: كيف تنهار "ثورة ومقاومة" في أشهر قليلة؟ فأوضح الأب، أن الأزمة تكمن في أنهم "لم ينجحوا في بناء مقاومة قوية قادرة"، رغم كل الإمكانات التي توفرت حينها. فقد بقيت وحدتهم غير متماسكة، ودخلوا أطرافًا في محاور، وخاضوا معارك جانبية كثيرة، وتم استغلالهم في الحرب اللبنانية. وبالتالي لم يُخططوا للمواجهة على مستوى إستراتيجي.


إن هذا الجواب فيه شيء من "الحقيقة"، غير أنه غير كاف، وحمّال أوجه. لذلك قد يحمل في بعض جوانبه نوعاً من التجني على المقاومة الفلسطينية في لبنان. وبالتالي فإن النقاش في هذه المسألة متشعب وطويل. لكن يمكن الإشارة باختصار شديد إلى ثلاثة أمور، متداخلة، على الأقل:


الأول، إن الثورة الفلسطينية لم يكن لها أرض تقف عليها، الأمر الذي جعل حضورها "مُتصادمًا"، دومًا وباستمرار مع سلطة الدولة التي توجد فوق أراضيها.
الثاني، إن القوى الوطنية اللبنانية، بمجمل تكويناتها وخلفياتها، وفصائلها، لم تستغل الثورة الفلسطينية في الحرب اللبنانية. 
الثالث، إن الثورة الفلسطينية، بعد مجازر أيلول في الأردن العام 1970، وقبلها هزيمة الخامس من حزيران 1967، والتوجه الرسمي العربي نحو "الصلح" مع العدو الصهيوني... عزز فكرة تصفية المقاومة، بحجة تحقيق "السلم في المنطقة"، والمحافظة على "النظام العربي" القائم.


طبيعة العدو


لم يستطع بشير الجميل الحكم، لأن "حبيب الشرتوني" قام بتصفيته من خلال تفجير مقر "حزب الكتائب" في الأشرفية، ممّا أفقد المشروع الصهيوني أبرز ركائزه. وقد عمد "آرييل شارون"، إلى تحريض الطرف المحسوب على بشير الجميل للانتقام، وفتح له الطريق، وأمّن له كل المستلزمات للقيام بمجزرة صبرا وشاتيلا، في 26 أيلول 1982، وأمام أنظار العالم كله. 
ووضّح الوالد أن الجيش اللبناني، والقوى العسكرية والأمنية اللبنانية كافة، كانت تكتفي بمراقبة الأحداث فقط. واكتفت لاحقًا، بجمع السلاح من القوى المقاومة لإسرائيل في مناطق بيروت الغربية، والضاحية. لقد تم إهمال الجيش اللبناني، ومُنع عنه السلاح، رغم كفاءة ضبّاطه، وعناصره، وبطولاتهم.


الاتفاق والإنتفاضة


في الطريق بإتجاه الجنوب، توقفوا أمام فندق "ليبانون بيتش" في خلدة، حيث عُقدت فيه المفاوضات اللبنانية مع العدو الصهيوني، بدءًا من 28 كانون أول 1982، وصولاً إلى ما عُرف باتفاق 17 أيار عام 1983، بين "خلدة" و"كريات شمونة"، في "ظلّ خنوع وضعف شديدين". وقد تم اختراق الاتفاق المشؤوم، برصاصات المقاومة، وموجات الاعتراض، ممّا اضطر رئيس الجمهورية، أمين الجميل، في حينها، إلى إلغائه في جلسة مجلس الوزراء في 5 آذار 1984، بضغط الشارع، وانتفاضة 6 شباط 1984.


ومع تصاعد حركة المعارضة لحكم الرئيس أمين الجميل، تم "التوافق" على عقد جلسات الحوار بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، برعاية الرئيس الجميل، خارج الأراضي اللبنانية، فكان مؤتمر جنيف، (21 تشرين الأول ولغاية 24 تشرين الثاني 1983)، ومؤتمر لوزان،  (من 12 إلى 20 آذار 1984)، دون أن يُخففا، عمليًا، من حدة الصراع، وقسوته، إلا بعد توقيع اتفاق "الطائف" 1989، حيث تم انتخاب رئيس للجمهورية، والقضاء على "حالة التمرد" التي قادها الجنرال ميشال عون، وإخراجه من قصر بعبدا، بعملية عسكرية واسعة في 13 تشرين الأول 1989، وبمساعدة الجيش السوري، الأمر الذي يدفع للقول: إن تلك اللحظة، كانت الإعلان عن توقف المظاهر العسكرية للحرب الأهلية في لبنان، والتي جرى خلالها أبشع الجرائم والمآسي، والويلات، وعمليات التهجير، وتمزيق الوطن.

 

يتبع جزء ثاني..

المقاومة الإسلاميةالضاحية الجنوبيةالجنوب

إقرأ المزيد في: قضايا وكتب

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة