خاص العهد
هل تشعل مشهدية الحركة الاحتجاجية في أميركا وفرنسا ثورة طالبيّة عالميّة؟
خرجت حالة التعاطف مع القضية الفلسطينية وغزة عن إطار التظاهرات العفوية والتجمعات في أكثر من مكان لتتخذ نمطًا جديدًا غير مسبوق في الولايات المتحدة الأميركية وبعض البلدان الغربية، واللافت أن هذه التحركات بدأت منذ أيام في أعرق الجامعات الأميركية ومن فئة من الناس تعتبر الأكثر تأثيرًا والتي يعوّل عليها للمستقبل.
ورغم أهميتها التاريخية والإستراتيجية، وإجماع المراقبين والباحثين على أن ما يحدث الآن لم يسبق لمثله أن حصل منذ عشرات السنين، فإنه من غير المؤمّل أن تحدث الأصوات المنددة بالجرائم الصهيونية خرقًا في آذان الحكام والإدارات التي تدعم الكيان الغاصب، لكن هذا المستوى من الاعتراض شكّل مدماكًا رئيسيًا للوقوف بوجه الاستكبار العالمي، وهو مرشّح للتوسع والانتشار إلى جامعات ومرافق أكاديمية مرموقة، ما قد يحدث انهيارًا في جدار الدعم المطلق لـ"إسرائيل"، ويعطي القضية الفلسطينية بعضًا من حقّها المهدور.
التأثير غير المتوقع على مستوى مواقف الدول رسميًّا، لا ينسحب على السياسة الداخلية، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية التي تتخبط وسط معركة رئاسيّة بين معسكري الجمهوريين والديمقراطيين، وما قد يكون لهذه التحركات من تأثير على الجو العام الانتخابي، خاصة في المعسكر الديمقراطي الذي يتزعمه الرئيس الحالي جو بايدن، وسط توقعات تشي بخسارته لجزء كبير من شعبيته، مضافًا إلى التخبط الذي يعيشه بالأصل معسكره الديمقراطي.
عتريسي: الإدارة الأميركية لا تجد سوى تهمة معاداة السامية للطلاب
"الظاهرة التي نشهدها اليوم في بعض الجامعات الأميركية مهمّة ولافتة وغير عادية"، بهذه الكلمات يصف الباحث في الشؤون الاجتماعية والسياسية الدكتور طلال عتريسي ما يحصل من مظاهرات في الجامعات الأميركية والفرنسية، مضيفًا في حديث لموقع العهد الإخباري "عندما نراجع ما حصل تاريخيًا، نعرف أن هذه التظاهرات حصل ما يشبهها أثناء حرب فيتنام، وفي ذلك الوقت دخلت قوات الجيش الأميركي أو مكافحة الشغب إلى الجامعات لأول مرة، ومنذ ذلك الوقت إلى اليوم لم يدخل الجيش الأميركي إلى جامعة في الولايات المتحدة، ما يشير إلى أن هذه المسألة كبيرة وتحوّل غير عادي وصدمة بالنسبة للجسم الجامعي والأكاديمي".
ويلفت عتريسي إلى مخاوف لدى السلطات الأميركية المختلفة من الشعارات التي يرفعها الطلاب، ويقول "هذه الشعارات تدين المجازر التي ترتكبها "إسرائيل" من بينها شعارات "فلسطين حرّة"، هذا الأمر لغاية الآن لم يتراجع على الرغم من اعتقال عشرات الطلاب ومسؤولي أقسام ومسؤولين في مؤسسات بحثية وأكاديمية داخل الجامعة، ويضيف "ليس هناك تمييز في عمليات الاعتقال".
كما يشير إلى أن المسؤولين في الولايات المتحدة يلجؤون إلى تهمة "العداء للساميّة"، يعني أن هؤلاء الطلاب الذين ينتقدون الكيان الإسرائيلي والمجازر ويرفعون شعار تحرير فلسطين هم "أعداء للساميّة"، ما يعني أن هناك من يستعيد هذا الشعار لمنع أي نقد لـ"إسرائيل"، ويبدو أن الإدارة المعنية بهذا الملف لم تجد سلاحًا سوى هذا الاتهام، لكنه لم يعد ينطلي على أحد ولم يعد مقبولًا منطقيًا، خصوصًا مع الصور التي تُنشر عن المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني.
القمع سيجعل الاحتجاجات تشتعل أكثر فأكثر
وبحسب بعض المعلومات فإن هذه الجامعات يرتادها أبناء الأثرياء والبرجوازية الأميركية، لذلك يشير الدكتور عتريسي إلى أن الإدارة الأمريكية لا تستطيع اتهامهم بأنهم يقومون بأعمال شغب أو ما شابه ذلك، وهذا أمر مقلق لإدارة بايدن على أبواب الانتخابات، ولهذا السبب هم يحاولون منع استمرار هذه الاحتجاجات.
ويضيف "كما يبدو أن هذه الاحتجاجات تسير باتجاه آخر، بمعنى أنها تنتقل من جامعة إلى أخرى، والأرجح أنها ستستمر، وربما تشكّل ما يمكن تسميته ثورة طلابية كما حصل في الستينيات والسبعينيات في أوروبا والولايات المتحدة احتجاجًا على الحروب التي كانت تُخاض، إذًا هناك أزمة يصعب التعامل معها والقمع والتدخل لن يوقفا هذه الاحتجاجات بل على العكس سيجعلانها تشتعل أكثر فأكثر"، ويتابع "على الأرجح أنها ستنتقل إلى جامعات إضافية، وسيكون لهذا الأمر تأثيرات كبيرة سياسية أميركية داخلية وتأثيرات إضافية على مستوى تغيّر الرأي العام الأميركي تجاه الكيان الإسرائيلي".
ويلفت إلى أن "هذه التأثيرات تزيد من عزلة الكيان، وهناك من يعترف في الداخل الإسرائيلي بأننا خسرنا المعركة السياسية والدبلوماسية والإعلامية، وما يحصل أحد مصاديق هذه الخسارة بأن يخرج الشباب الجامعي، الجيل الجديد، والذي من المفترض أنه متأثر بالسياسيات الرسمية أو أنه يبحث عن تطلعاته الخاصة والشخصية، لكن يبدو أن الأمر مختلف في هذه المسألة".
ويختم عتريسي بأن "هذه السياسات قد لا تغيّر السياسات الرسمية تجاه دعم الكيان، لكنها قد تغيّر في النتائج السياسية الداخلية في الانتخابات الرئاسية، وهذا ما يخشاه بايدن، الذي يجد نفسه بين فكّي كماشة، كماشة الخوف من تراجع تأييد الرأي العام له وخسارته للمعركة السياسية، وبين كماشة الالتزام بأمن "إسرائيل" ودعمها وعدم خسارتها وهزيمتها، هذه هي الاحتمالات التي يمكن أن تؤثر فيها الحركة الطلابية الجديدة في الولايات المتحدة".
التظاهرات الحالية تذكّر بمثيلاتها خلال حرب فيتنام
اللافت أن التظاهرات الجامعية اليوم في الولايات المتحدة تشكل تكرارًا لما جرى أثناء حرب فيتنام، حيث بدأت التظاهرات في الجامعات ثم توسّعت، وما يحدث اليوم من تظاهرات في الجامعات الغربية مؤيدة لفسلطين يأتي في نفس السياق، وهذا ما ينم عن مدى التعاطف مع الفلسطينيين والرفض لما تقوم به "إسرائيل"، والذي يرتقي إلى مستوى أجواء ما حدث في فيتنام، لكن المفارقة أنه في زمن فيتنام كان هناك خسائر بشرية حقيقية للأميريكيين.
هذا رأي المتخصص في الشأن الأميركي علي رزق، الذي يستدرك في حديث لموقع العهد الإخباري "لكن ما يحدث اليوم بخصوص فلسطين أنه ليس هناك خسائر مباشرة للأمريكيين، ما يدلّ على أن القضية الفلسطينية اليوم بدأت تتحوّل إلى مسألة يسارية داخل الولايات المتحدة، وهي المجموعة التي عادة ما تتحدث عن التغيّر المناخي وحقوق الإنسان وتقليص السياسات العسكرية وصناعة السلاح، وكما يبدو أن فلسطين ستنضم إلى هذه اللائحة، بينما دعم "إسرائيل" محسوب أكثر فأكثر على اليمين الأميركي، والذي يغلب عليه الطابع الجمهوري".
وينبّه رزق إلى أن "هذا ما يشكّل معضلة للرئيس الأمريكي جو بايدن، إذ إن الذين يتظاهرون اليوم يشكلون كتلة لا بأس بها من الشارع الديمقراطي اليساري، فكيف سيتصرف بايدن؟ هل يذهب نحو القمع -وهو في الأصل يعاني من مشكلة على صعيد الشارع الديمقراطي- فيفاقم المشكلة بشكل أكبر، أم أنه يذهب للتعاطي بشكل أكثر مرونة وذكاء مع هذا الموضوع؟، خاصة أن الجمهوريين سيعملون على استغلال هذا الموضوع ويوجهون اتهامًا لبايدن بأنه يتسامح مع معاداة السامية، وحسب ما ظهر من سلوك الرئيس الأميركي حتى الآن أن لديه قابلية للرضوخ أمام هذه الضغوط".
فلسطين قطب الصراع بين اليمين واليسار في الولايات المتحدة
وإذ يلفت إلى أن هذه التظاهرات بدأت تتمدد إلى الخارج في فرنسا وأستراليا وغيرها من الدول، يعرب رزق عن شكّه بأن تؤثر على سياسة الحكومات تجاه دعم "إسرائيل"، ويضيف "كما رأينا أن بايدن يقوم بمحاولة اللعب على جبهتين، فهو متعاطف مع الصهاينة ويحاول أن يوحي بأنه متعاطف أيضًا مع الفلسطينيين، باستخدام أساليب كبناء الجسر العائم لإيصال المساعدات إلى غزة، لكن الواقع لا يوحي بأنه يشعر بضغوط، وما يؤكد ذلك صفقة السلاح الأخيرة للكيان والتي تُعتبر الأكبر في تاريخه، وهذا ما يدلّ على أن لا تغيير في السياسة الأميركية وكذلك في الدول الغربية".
ويلفت إلى أن التطور الأهم في هذا الحدث أنه باتت هناك جرأة غير مسبوقة بأن يُرفع الصوت بوجه "إسرائيل"، وهذا لا يقتصر على الجامعات بل حتى في الكونغرس الأميركي، رغم الحديث عن إنفاق اللوبيات الصهيونية مثل "أيباك" لمبالغ تاريخية خلال المواسم الانتخابية الأخيرة، والسبب أن لديها خشية من فقدان نفوذها، وأن "إسرائيل" ستخسر الدعم، وبالتالي هذه اللوبيات تجد نفسها مضطرة للتدخل بهذا الحجم الكبير وتنفق الأموال الطائلة، ورغم ذلك فهناك شخصيات وصلت بالرغم من دعم "أيباك" لمنافسين لها، وكمثال على ذلك هناك شخصية اسمها "سمر لي"، فازت بانتخابات الكونغرس الأميركي رغم دعم جهات مؤيدة لـ"إسرائيل" لمنافسها الرئيسي.
إذًا، هناك تحولات ديمغرافية في الولايات المتحدة، وبحسب المتخصص رزق "ما نراه سواء في الجامعات أو في الكونغرس، مع هذه الشخصيات والأقليات من أصول أفريقية وغيرها والتي تدعم القضية الفلسطينية، يأتي ضمن التحولات الديمغرافية التي تفيد بأن تغيّر الولايات المتحدة مستقبلًا سياساتها، فهي مع تنامي الأقليات يتجه فيها المجتمع أكثر نحو اليسار، فيما يذهب المجتمع الإسرائيلي بالاتجاه المعاكس نحو اليمين، وهذا ما سيكون له تأثيراته خلال الأعوام القادمة".