طوفان الأقصى

نقاط على الحروف

التاريخ لا يكذب.. من القاهرة هنا فلسطين
20/05/2019

التاريخ لا يكذب.. من القاهرة هنا فلسطين

أحمد فؤاد

تبقى أقل التصرفات اليومية الاعتيادية، التي تمارسها الجماهير العربية، معبرة عن توحد فطري وتلقائي، تخاصم محاولات الأنظمة التابعة بإخضاع شعوبها قسريًا لأوامر واشنطن وتل أبيب، وتكتب كل صباح أمل يتجدد مع الشمس، أن أرضنا العربية، فلسطين الكاملة من النهر إلى البحر، عائدة حتمًا، بسواعد من كُتب لهم دخولها، ومدد المؤمنين بالقضية على امتداد الوطن الكبير.

مصر اليوم في حالة تثبيت قهري، الدولة القائمة، والمنتمية لكامب دايفيد، سائرة في ركاب خدمة الأميركي والصهيوني، وخلفها مؤسسات سقطت بالمؤامرات حينًا، وبأموال المعونة الأميركية المباشرة حينًا آخر، وصار الرهان عليها كمن يحرث في بحر، متوهمًا بنهاية سعيدة، بينما الشارع لا يتسامح ولا يغفر للعدو، ويجدد العهد والولاء للراية العربية، ويلقي بظلال كثيفة من الشك على مستقبل تعاون النظام مع الكيان، مهما بدا أن القصة قد ختمت فصولها.

في أحد أحياء القاهرة، الأكثر شعبية وحركة، حي العتبة الشهير، يعقد كل سبت سوق أسبوعي لتجار وهواة العملات القديمة، وكتجارة غير معنية بسلعة أساسية، فأنها تتراجع بحكم المناخ الاقتصادي الخانق، وتراجع الدخول الحقيقية للأغلبية الساحقة من المصريين، لكنها دومًا تكتسب أضعاف ما تفقده من محبين، بفعل جيل جديد، يريد أن يقرأ التاريخ بطريقته، ويمسك بمفاتحه، عن طريق تلك المسكوكات العتيقة.

كان مفهومًا أن العملات المصرية في الفترة الملكية تأتي على رأس الأولويات، من بوابة إنها هواية واستثمار، بحيث لا يخسر الهاوي إن تعرض لضائقة الشيء الكثير من قيمتها، كنتيجة منطقية للسك من معادن ثمينة، كالذهب والفضة، والأخيرة كانت تغلب على القطع الملكية والسلطانية، والسر كما يشرح المترددون على السوق، أن قيمتها ستظل محفوظة، بفعل المعدن القيم، خلافًا للوزن التاريخي بالطبع.

الحنين للماضي يلعب دوره الرئيس في زيادة حماس الشباب وصغار السن للهواية، إذ يضغط الإعلام، الممول من قبل رجال الأعمال والخليج والنظام، على النيل والحط من الفترة الناصرية البهية، مقابل تجميل قبح حكم أسرة محمد علي، وبالذات فاروق، وتنتشر صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي تقدم تلك الفترة التاريخية على أنها أزهى عصور مصر، رغم الفقر والاحتلال، ولم يكن غريبًا أن تكون أهم الشخصيات الداعية لتمجيد "فاروق"، ماجد فرج، يطلق على نفسه لقب "مؤرخ الفترة الملكية"، والمتحدث السابق باسم أحمد فؤاد الثاني نجل فاروق، ساقطًا في حبائل التطبيع العلني، وداعيًا لإغلاق الأزهر، والاحتفال رسميًا بمولد "أبو حصيرة" اليهودي.

لكن ما يسترعي الاهتمام في السوق المصرية غير التقليدية، والمجهولة للأغلبية ممن يهتمون بتوفير حاجاتهم الأساسية فقط  ـ هذا إن توفرت بالأساس ـ كان رحلة البحث عن إحدى العملات، التي يعتبرها الهواة "الجائزة الكبرى"، وهي "مل" إصدار فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، وتحمل كما غيرها من العملات، اسم فلسطين، دولة الإصدار، باللغات العربية والإنجليزية والعبرية، وكان آخر تاريخ سك لها، والأكثر ندرة وثمنًا، في العام 1946، أي قبل النكبة بعامين فقط.

العملة وثيقة تاريخية، لا تقبل الدحض أو التأويل، حتى العام 1946 كانت تصدر في فلسطين العربية عملة باسمها، ولم يكن هناك كيان سرطاني يدعي أنه دولة قائمة.

ويبدع الهواة في وسائل الحفظ للعملات الفلسطينية، داخل كبسولات خاصة، تتيح الإبقاء عليها بحالتها الطبيعية لأطول فترة ممكنة، ولا يذهب صاحبها للتفريط فيها، باعتبارها شاهدًا مملوكًا له، عن عدالة القضية العربية، تقص سيرة دماء ألوف من الأجداد، ذهبت تروي الأرض، أو أطفال قررت القنابل الصهيونية أن تغتال براءتهم، كما فعلت في بحر البقر وقانا، وغيرهما الكثير.

أسعار العملات الفلسطينية، من فئة ا مل، المصنوعة من البرونز في 1927، وهي الأرخص على الإطلاق، والتي أمكن الحصول عليها بعد "توصية" من هاو قديم، يبلغ سعرها نحو 10-15 دولارًا، ويمكن أن ترتفع طبقًا لحالتها، ورغم رخص معدنها، مقارنة بالعملات الملكية المصرية، تتفوق عليها سعريًا، وغير متاحة للبيع في الأغلب إلا لشخص معروف للتاجر شخصيًا، بعكس مثيلتها المصرية المتوفرة والمتاحة، حتى بدون حجز مسبق، ويبلغ سعر عملة فضية فئة 10 قروش إصدار 1917، بوزن 14 جرامًا، أقل من 6 دولارات بحالة ممتازة، والتي -بالإضافة لقيمة معدنها- يعتبرها القانون المصري آثارًا بحكم مرور 100 عام على سكها.

المصري العادي، غير المسيس، البعيد عن متابعة الأخبار والتحليلات، بحكم الاضطرار لتمضية أطول وقت ممكن إنسانيًا وجسديًا في عمله، لمحاولة سد القليل من الاحتياج، يكتب من جديد، بمداد الوعي والمقاومة، أن الوجود الصهيوني طارئ، مؤقت، مشروع خاسر بلا أي مستقبل، نهايته حتمية، مهما طال المدى، ومهما تعثرت الخطوات على الطريق.

التقارير الصهيونية العديدة، والقريبة، تذهب إلى الرأي السابق ذاته، هم يعلمون حقيقة أن الشعب المصري يمقت كل من يقترب منهم، ويعتبرهم كمرضى الجذام، ويفرون منهم كفرارهم من الموت، ناهيك عن التعامل المباشر مع الصهاينة، كل سنوات الاستسلام والضياع لم تصنع علاقات أسفل الطبقة الحاكمة، المكونة من مسؤولين ورجال أعمال ـ حرام ـ ربطتهم المصالح الدولارية مع العدو، وباتوا على استعداد كامل ونهائي لبيع أي شيء، مقابل صك الرضا الصهيوني، الممهور بالتوقيع الأميركي.

المؤكد في نهاية جولة مثمرة، أن الرهان على الشعب المصري، وعلى فطرته السليمة، هو ذاته الرهان على الانتصار، الجماهير قادرة على نبذ أي سياسة حكومية يرفضونها، مهما بذل من جهد، ووقع من اتفاقات، الغضب الشعبي يستطيع كنس كل قمامة الماضي والحاضر في لحظة، متى تهيأ للحركة، ولا عاصم يومها من أمر الشعب إلا من رحم، وقتها فقط، تبلع الأرض أوراق المعاهدات، وتقلع سماء الذل عن الأرض، وتستوي على الجودي سفينة الوطن، ويقال بعدًا للقوم الظالمين.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

خبر عاجل