نقاط على الحروف

أن تكون في غزّة هذا الصباح..
24/11/2023

أن تكون في غزّة هذا الصباح..

ليلى عماشا

مرّ دهرٌ تواصلت فيه الغارات والقصف الهمجيّ و "زنّ" المسيّرات المؤرق، وصمتها في هذا الصبح، صبح الهدنة، يخبر عن حكايات لا تُعدّ، وتفاصيل لا تختصرها أيّ اللغات بالكلمات.. صمت يكتسي بأصوات الغزّيين وهم يعيشون يومهم الأوّل على عتبة الخمسين يومًا من المعركة. ماذا يعني أن يكون المرء في غزّة هذا الصباح؟

مرّ الليل بطيئًا، على وقع صوت الغارات القاتلة والتي تستعجل اتمام أكبر قدر من العدوانية والتوحّش قبل دخول هدنة الأيام الأربعة حيّز التنفيذ. قبل دقائق حلول ساعة الهدنة، كان الطيران يشنّ غارات عنيفة في سائر مناطق القطاع المقاتل، واستهدف القصف المدفعي جباليا والصفطاوي وشارع النصر والشيخ رضوان.. 

إنّها الهدنة إذًا، وقد يقطعها الغادر في أي لحظة.

الركام في كلّ مكان. يبدو وكأن الأرض تختنق تحت أكوام من ردم المباني، والتي لم تزل تحتضن عددًا غير معروف بعد من الشهداء والمفقودين. تداخلت معالم البيوت والأحياء والمحال. والجميع يحدّق في المشهد الذي وإن ليس جديدًا ولا مفاجئًا، بذهول. يلتقي جاران يتجهان إلى حيث كان بيتاهما. يتبادلان سلامًا عاطفيًّا جدًا. يربّتان على كتف بعضيهما دونما كلام. لا يسأل أحدهما الأخر عمّن فقد، ففي غزّة، الكلّ فاقد.

ستبدأ قوافل المساعدات بالدخول اليوم. "هل سيحضرون البنج؟"، فجراح الأطفال التي خيطت بعد العمليات الجراحية "بدون بنج" تركت في قلوب الأباء والأمهات ما ليس يلتئم من الألم. "وأدوية السرطان؟" ربّما. لا أحد يعلم ولكنّها أمنية. فمرضى السرطان تأخروا كثيرًا على جرعات الكيماوي، وقد يكون الخبيث عاود الإستقواء على أعضائهم، منذ بدأ الأخبث منه باستهداف كلّ احتمالات الحياة في غزّة بالغارات وبالقصف. لا، بل قبل ذلك بكثير، منذ أن حاصر العدو والعالم القطاع بشكل حوّله إلى سجن كبير، كلّ سكّانه معتقلون. يكفّ العقل عن التساؤل عن المواد التي ستدخلها المساعدات. أيًّا تكن. ثمّة حاجة لكلّ شيء، حرفيًّا لكلّ شيء.

المدافن الجماعية، وأسماء من فيها ستستقبل في هذا الصباح زيارات الأحبّة والأهل. هنا الأطفال، وهناك النساء ومن ثمّ الرجال. لا شواهد فوق الأضرحة طبعًا، ولا إشارات تحدّد مكان كلّ اسم تحت التراب. سيترك الزوار لقلوبهم أن تدلّهم على حبات التراب الأقرب إلى موضع أجساد الأحبة الذين استراحوا تحت التراب.

أما من فُقدوا، فالأمل كبير بأن يُتعرّف إليهم وهم ينتشلون من تحت الركام.

هل ستتسّع الأيام الأربعة لكلّ هذه المهام.. لا بأس، سنبدأ وبعدها نرى.

أن تكون في غزّة هذا الصباح، يعني أن تكون على استعداد للقيام بمهام كثيرة، متلاحقة.. وصوت القصف المتبقي في أذنيك قد يكون صدى الأيام الثمانية والأربعين التي مضت. ستمرّ حتمًا حيث التحم المقاومون بالعدوّ، وبلحظتها سيغيب من قلبك أثر الأسى. فيض من العزّة سيغلبك. أنت الذي لم تنتزع المجازر من صدرك آهًا مشهودة واحدة، ستترك للدمع أن يُخبر التراب عن اعتزازك بما جرى في المعارك البريّة. وستشعر برصاصات مقاومتك وقد خترقت صدر الجبروت الجبان كب تثأر لطفلك المقتول في البيت وفي الشارع وفي مدرسة تحوّلت إلى مركز إيواء وفي المشفى.. سيصلك صوت جارة مسنّة تسألك عن أهلك وعيالك وستبتسم لها دونما جواب سوى "الحمد لله". قد تلتقي بوالد ينادي على كلّ أولاده الشهداء بعدما وصل ركام البيت، يودّ لو يعدهم أنّه سيبني له غيره ثم يعود ويدرك أنّ أجسادهم في بيت التراب الآن وأن أرواحهم حلّقت إلى السما. يتمتم بالحمد، ويعتذر.. فالشوق غلاب ولا شوق كالذي إلى الضّنا.

ستلتقي بكلّ من بقي من وجوه عرفتها، وتدرك أنّ تلك التي لم تلتقِ بها ما عادت هنا، ففي غزّة هذا الصباح، الكلّ هنا يتفقّد الكلّ، إلّا الذين ارتقوا شهداء.. يتفقدون من عليائهم سرًّا عيون الناس، ويدعون لهم بالصبر وبالسلوان.

أن تكون في غزّة هذا الصباح، يعني أن تدرك انتصارك وجهًا لوجه، وتدرك أنّ ثمنه كان عزيزًا جدًا، قطع من قلبك ترصف الدرب إلى المعركة الأخيرة والحرية.. ستقول بكلّك أن تلك القطع التي انتزعت من صدرك وصارت حجارة الدرب كانت فداء لحرية الأرض وإنسانية الإنسان، فتنسكب العزّة بلسمًا فوق جرحك الكبير.. ستنظر ناحية كاميرا الصحافة، وتبتسم.. تهمس لحامل الميكروفون، نحن بخير.. نحن بعزّة.. طمّنونا عنكم!

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف