طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

عن 11 أيلول التشيلي.. أمريكا شريكة بينوشيه في قتل المدنيين
13/09/2023

عن 11 أيلول التشيلي.. أمريكا شريكة بينوشيه في قتل المدنيين

د. علي دربج - باحث وأستاذ جامعي

تزامنًا مع إحياء الأمريكيين لأحداث 11 أيلول، يجهل كُثر داخل الولايات المتحدة وخارجها أن هناك حدثًا إرهابيًا يفوق بفظاعته ودمويته ما شهدته مانهاتن، وقع في ذات التاريخ من العام 1973 في جمهورية تشيلي (في امريكا الجنوبية)، مع فارق أن من ارتكب هذه المجزرة الرهيبة هم عملاء واشنطن التشيليون، وبتحريض ومشاركة مباشرة من إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون، وعناصره وكالة الاستخبارات الأمريكية ـCIA.

فما هي قصة أحداث 11 أيلول التشيلية؟   

في صباح يوم 11 سبتمبر/أيلول 1973، أطاح الجنرال العسكري التشيلي أوغستو بينوشيه بتشجيع من الولايات المتحدة، بالحكومة الاشتراكية المنتخبة ديمقراطيًا للرئيس سلفادور الليندي بعدما هاجمت الدبابات وطائرات القوات الجوية القصر الرئاسي في سانتياغو.
 
مهّد الانقلاب لبدء عصر دكتاتورية بينوشيه التي استمرت 17 عامًا شهدت وفاة واختفاء ما لا يقل عن 3065 شخصًا، فضلًا عن تعذيب آلاف آخرين بطرق وحشية، وتشريع نظام الاتجار بالأطفال، وإباحة اختطافهم من أمّهاتهم الفقيرات، ثم تبنيهم لاحقًا في الولايات المتحدة ودول أخرى.

المأساة الكبرى أن الطغمات اليمينية في مختلف أنحاء الأمريكتين (المدعومة من واشنطن) استخدمت أساليبه المروعة، بما في ذلك إلقاء جثث الضحايا في البحر أو من فوق جبال الأنديز.

حكم بينوشيه الرجل القوي الاستبدادي تميز بحظر أحزاب المعارضة، والرقابة على وسائل الإعلام والقمع الوحشي للنقابات العمالية، ومجتمعات السكان الأصليين والناشطين اليساريين المشتبه بهم. وحتى يومنا هذا لا يزال مصير أكثر من 1100 شخص من المفقدوين مجهولاً.

أسوأ ما في الأمر أن بينوشيه الذي لم يكتف بعمليات الإعدام والتعذيب، لم تسلم الطفولة من أعماله القذرة التي شاركته فيها واشنطن. إذ تعتقد جماعات حقوق الإنسان أن ما يصل إلى 20 ألف طفل تم أخذهم من أمهات تشيليات من ذوات دخل منخفض في الغالب، وتم تبنيهممن آباء وعائلات في الولايات المتحدة ودول غربية أخرى كهدف رئيسي لنظام بينوشيه.

ليس هذا فحسب، فقد تم استهداف المنفيين الذين يعيشون في بلدان أخرى، بما في ذلك الدبلوماسي أورلاندو ليتيلير، الذي قُتل في تفجير سيارة مفخخة في واشنطن العاصمة في 21 سبتمبر 1976، في عملية أمر بها بينوشيه.
 
 كما اشتهر الجنرال الذي خطط للانقلاب بملاحقة تجربة السوق الحرة الدراماتيكية في أمريكا الجنوبية، حيث تبنى السياسات النيوليبرالية التي يحتفل بها المحافظون في الغرب حتى يومنا هذا، والتي كان رفضها اليسار، كونها تساهم في تأجيج التفاوتات  الاجتماعية الهائلة بين التشيليين.

وبعد سنوات من القهر والقتل وسفك الدماء، انتهى عهد بينوشيه بعدما أحبط استفتاء جرى في العام 1988 محاولته للاحتفاظ بالسلطة كرئيس مدني، ومهدت الانتخابات في عام 1989 الطريق لعودة الديمقراطية الدستورية في عام 1990.
 
ما كان دور الولايات المتحدة في انقلاب بينوشيه؟

حظي الانقلاب بدعم من الولايات المتحدة التي سعت في أوج الحرب الباردة إلى منع انتشار الحكومات اليسارية. كانت حكومة الولايات المتحدة تعمل منذ أوائل الستينيات على تشكيل السياسة التشيلية، وبلغت ذروتها بـ"جهد سري هائل لإسقاط" حكومة الليندي، على حد تعبير الرئيس ريتشارد نيكسون وحكومته، بحسب ما جاء في "ملف بينوشيه".

 يلخص الكتاب الذي نشره بيتر كورنبلوه كبير محللي أرشيف الأمن القومي في عام 2013 ثلاثين عامًا من الوثائق التي رفعت عنها السرية والتي تكشف الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في القضاء على حكم الليندي، ودعم الديكتاتور بينوشيه. وفقًا لإحدى الوثائق المذكورة في "ملف بينوشيه"، قال وزير الحرب الأمريكي خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي عام 1970: "نريد أن نفعل كل ما في وسعنا لإيذاء (الليندي) وإسقاطه".

كيف يؤثر ارث بينوشيه الإرهابي على السياسة التشيلية الداخلية في هذه المرحلة؟

عام 2006، توفي بينوشيه إثر نوبة قلبية دون أن يواجه العدالة الكاملة عن جرائمه المزعومة. ولكن الصدمات والانقسامات والجراح العميقة التي حدث في تلك الحقبة لم تندمل، وبدأت آثارها وارتداداتها بالظهور في اللحظة المحمومة التي تمر بها تشيلي.

وتبعًا لذلك، برز هذا القلق بشكل واضح في 10 ايلول الحالي عندما شارك رئيس تشيلي الشاب ذو الميول اليسارية غابرييل بوريك في مسيرة لتكريم أولئك الذين قتلوا واختفوا على يد نظام بينوشيه، حيث شابت هذه المراسم أعمال العنف، على اثر قيام بعض المتظاهرين الملثمين بتخريب الممتلكات.

ما زاد الطين بلة، ان البلاد لا تزال مستقطبة، إذ وافق ما يقرب من ثلث التشيليين في استطلاع للرأي أجري مؤخرا، على أن المؤسسة العسكرية حررت بلادهم في عام 1973 "من الماركسية".

أما الجيل الأصغر سنا في شيلي ـــ  والذي أصبحت اهتماماته المعاصرة أقل ارتباطا بثقل الماضي ــــ فلا تعنيه كثيرًا خطايا الدكتاتورية التي اختفت منذ فترة طويلة. ولذلك ربط الروائي أرييل دورفمان، المستشار الثقافي السابق لحكومة الليندي، المصالح الأوليغارشية ذات النفوذ في تشيلي، والتي رحبت بانهيار الديمقراطية في البلاد قبل نصف قرن من الزمن، بالافتقار الحالي إلى الإجماع حول ما إذا كان الانقلاب صحيحاً أم خاطئاً.

وكتب دورفمان في صحيفة نيويورك تايمز: "لم يكن هناك حداد بين الأغنياء والأقوياء في تلك الليلة من يوم 11 سبتمبر". واضاف "كانوا يحتفلون بأن تشيلي قد أنقذت مما كانوا يخشون أن يصبح كوبا أخرى، دولة شمولية من شأنها أن تمحوهم من البلد الذي زعموا أنه إقطاعيتهم. فالهوة التي انفتحت في ذلك اليوم بين الضحايا والمستفيدين من الانقلاب لا تزال قائمة، بعد سنوات عديدة من استعادة الديمقراطية في عام 1990".

وانطلاقًا من هذه النقطة، يعيش اليسار في تشيلي حالة من عدم اليقين بشأن المستقبل السياسي للرئيس الحالي المنتمي المحسوب عليه، بسبب الأصوات اليمينية المتأثرة بالترامبية مثل خوسيه أنطونيو كاست، السياسي اليميني المتطرف - يبدو انه في طريقه لتحقيق نتائج متقدمة في انتخابات عام 2025 بحسب المراقبين - الذي كان قد دافع صراحة عن إرث بينوشيه، واعترض على المطالبات بإدانة انقلاب عام 1973، وقال لصحيفة محلية قبل محاولة الانتخابات الفاشلة في عام 2017، في إشارة إلى بينوشيه: "لو كان على قيد الحياة لكان صوّت لي.. لو كنت التقيت به الآن، لكنا تناولنا كوبًا من الشاي في لا مونيدا".
 
ماذا عن تبني اليمين المتطرف في العالم لشعارات فرق الموت اليمينية في أمريكا اللاتينية؟

 في الواقع، يمكن رؤية الحماسة الرجعية التي دفعت انقلاب بينوشيه في العديد من  الانظمة "المسماة ديمقراطية" في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، يرتدي بعض أعضاء "براود بويز" ، مجموعة الكراهية المتعصبة للبيض التي شاركت في تمرد 6 يناير 2021 في مبنى الكابيتول، شارات كتب عليها "RWDS" - في إشارة إلى "فرق الموت اليمينية" في أمريكا اللاتينية المدعومة ضمنيا من واشنطن خلال الحرب الباردة.

 ومن هنا، كتب مراقب شؤون أمريكا اللاتينية تيم بادجيت: "لقد وصل إلينا بينوشيه باعتباره نقطة مرجعية كاريكاتورية بارعة لأشرار يوم القيامة في الديمقراطية، وخاصة كلاب الجحيم الذين يستغلون الخوف من الشيوعية"، مضيفًا أن "بينوشيه كان ليفخر بالأولاد الفخورين".

اللافت أنه بالنسبة لليسار الأمريكي، يعد الانقلاب تذكيرًا دائمًا بالإرث المظلم للسياسة الخارجية الأمريكية، حيث قام مؤخراً وفد من المشرعين الديمقراطيين ذوي الميول اليسارية بجولة في عدد من دول أمريكا اللاتينية، بما في ذلك تشيلي، ورددوا الدعوات التشيلية القديمة للولايات المتحدة لرفع السرية عن الوثائق السرية المتعلقة بالأنشطة الأمريكية التي ربما حرضت على انقلاب عام 1973. (رفعت وزارة الخارجية مؤخرًا السرية عن وثيقتين شديدتي السرية من إدارة نيكسون).

وتعقيبًا على ذلك أشارت النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز (ديمقراطية من نيويورك)، التي ذهبت في تلك الرحلة، وقالت لمجلة جاكوبين اليسارية: "إن الحركات اليمينية المتطرفة والفاشية في الولايات المتحدة تعمل بجد للغاية لتصدير العديد من تكتيكاتها وأهدافها إلى جميع أنحاء أمريكا اللاتينية". وأضافت لقد رأينا ذلك في البرازيل بشكل واضح مع الرئيس السابق جايير بولسونارو وهجوم 8 يناير على عاصمتهم. لكن هذا منتشر جدًا أيضًا في تشيلي. إحدى الطرق التي نرى بها ذلك هي الرغبة في محو التاريخ".
 
 ما أهمية الذكرى الخمسين لانقلاب بينوشيه؟

وعلى الرغم من وصول بينوشيه إلى السلطة قبل خمسين عاماً، إلا أن التشيليين والأميركيين من أصل تشيلي ما زالوا يعانون من تأثيرات مضاعفة.

في الولايات المتحدة، يكتشف المزيد من الأمريكيين الحقيقة حول عمليات التبني غير القانونية من تشيلي بعد ظهور هذه الممارسة لأول مرة في عام 2014.

إحدى المواطنات التشيليات تدعى راشيل سمولكا هي من بين أطفال تشيلي المختطفين. اكتشفت الفتاة البالغة من العمر 41 عامًا ـــ والتي نشأت على يد أبوين متبنيين محبين في جزيرة ستاتن بنيويورك ـــ مؤخرًا أنها اختطفت عندما كانت طفلة من والدتها التي قيل لها إنها ماتت. وفي شباط الماضي التقت سمولكا بوالدتها في تشيلي.

في المحصّلة، يعتقد التشيليون أنه في هذه اللحظة من تاريخهم المتوتر، من المستحيل أن يكون هناك بينوشيه آخر، وبالتالي انتهاك جسيم آخر لحقوق الإنسان.. لكن مع صعود اليمين المتطرف في أمريكا الجنوبية على شاكلة الترامبية، لا يوجد شيء مستبعد.

 

تشيلي

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات