معركة أولي البأس

 

خاص العهد

طائر أيلول الذي أعزّ السيّدَ
12/09/2023

طائر أيلول الذي أعزّ السيّدَ

لطيفة الحسيني

الفقد رفيع وعظيم. نجل الأمين يرتقي في مواجهات مع العدو عام 1997. أسمى التضحيات تُسطَّر وتُسجَّل وتُرسَم. بات قائد المقاومة من عوائل الشهداء. لطالما تمنّاها وها هي تتحقّق.

بحكمةٍ مُستمدّة من مدرسة الصبر و"ما رأيتُ إلّا جميلًا"، تلقّى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله نبأ استشهاد نجله الأكبر، السيد هادي. ظلّ صلبًا، جبلًا، ثابتًا، لا يستسلم للألم، ولا يغلبه الموت.

كيف استطاع السيّد تجاوز الفراق وتقبّله في آن؟ استعادةٌ للحظةٍ حانت قبل 26 عامًا. الذكرى تقود الى ما هو راسخ ومُستقرّ في هذه الشخصية: احتواءُ الوجع واستقبال هِجرة "طائر أيلول".

ظلّ دمعُه سرًّا بينه وبين "ابن عمره". لم يُظهره لغريبٍ أو قريب. بضعتُه وكلُّه وبِكرُ أحلامه يرثيه في قلبه، ويتمالك نفسه أمام العائلة الكبرى وشعب المقاومة. الفصْل بين المسؤولية والموقعية وبين مشاعره كأبٍ يودّع ولده الأوّل حَكَمَ، فبدا صاحبَ بأسٍ منقطع النظير.  

في مقابلة مع تلفزيون لبنان بُثّت عام 1997، يقول سماحته "منذ اللحظة الأولى التي تبلّغتُ فيها بفقدان الاتصال بمجموعة من المُقاومين في جبل الرفيع في إقليم التفاح حيث كانت تدور مواجهات مع الصهاينة، شعرتُ بأن هادي بينهم.. الإخوان بدوا مُهتمّين بشكل مُختلف، التبليغات تتواتر والاتصالات تتوالى لوضعي في آخر المستجدات والمعطيات حول هذه المجموعة. فضّلتُ عدم الاستفسار منهم حتى لا أُحرجَهم، تركتُهم على وضعهم الطبيعي منعًا لوقوع أيّ إرباك".

ويضيف "في منتصف الليل، ظلّت الاتصالات مستمرّة. لم يُبادر أحد لكنّني سألتُ أحدهم وأخبرتُه بأن إحساسي يقول إن هادي بين هؤلاء الأربعة المفقودين، واذا كان فعلًا كذلك فلا ترتبكوا فقط أخبروني.. لا مشكلة نهائيًا. حينئذٍ اعترف أحد المُكلّفين بمتابعة العملية بأن هادي من بين الأربعة. في النهار تواصلت المتابعة الى أن تمّ التأكد من شهادته ورؤية صور الأجساد التي عُرضت في إحدى القنوات الاسرائيلية وتأكدتُ بأنه هادي".

سماحته لم يُصدم أو يُباغت بالنبأ. يُصارِح محاورَه "كنتُ مُهيَّأً سابقًا لهكذا خبر". ويُجيب عن كيفية التعامل مع شهادة السيد: "كأيّ أبٍ فقد ابنه البِكر وهذا شي طبيعي فأنا انسان ولديّ عاطفة وأُحبّ أولادي، لكنني من موقع الانسان المسؤول والعقائدي أعتقد بأن هادي لم يمُت. لديّ فهم خاصّ للموت: شخصٌ موجود بحياة ضيّقة، فُتح له بابٌ وخرج من هذه الحياة الى الحياة الرحبة والواسعة".

هل بكى سماحته الشهيدَ هادي؟ نعم بينه وبين نفسه. يستعيد اللحظة القاسية ويقول "جلستُ وحدي جانبًا لثوانٍ.. هناك شيء بعاطفة الإنسان وتكوينه يدفعه الى البكاء".

ماذا عن أمّ الشهيد؟ يوضح أنه أبلغها قبل حسم ارتقاء السيد هادي بعدّة ساعات، بأنه مفقودٌ وفي خطر، وهي كانت مُهيّأة لاحتمال الشهادة، ويُبيّن أن الأهمّ كان بالنسبة لها ألّا يقع أسيرًا في أيدي الصهاينة، حتى لا يُستخدم كسلاحٍ ضدّ المقاومة ويحقّقوا من خلاله كسبًا معنويًا، وينقل عنها "أتمنّى أن يعود حيًا أو يرجع شهيدًا لا أسيرًا".

هل بنى سماحته توقّعه لشهادة السيد هادي على وداعٍ مُميّز سَبَقَ التحاقه بصفوف المُقاومين في جبل الرفيع؟ يجزم الأمين بأن "الوداع كان عاديًا جدًا وطبيعيًا الى أقصى الحدود ككلّ مرة يتوجّه فيها الى المحاور".

الشهادة الاستثناء في حياة الأمين العام لحزب الله أشعرَته بفائضٍ من العزّة والمجد والقوّة. هذا ما يؤكده في مقابلته "التسعينية"، وفيها أيضًا يُعبّر عن شوْقه له لأنه "كان ولدًا صالحًا ومُجاهدًا أعتزّ به، قدّم خدمة كبيرة لوطنه ومقاومته ولهذا الطريق والخطّ. له عليها فضل كبير"، ويتحدّث عن أن مكانته بعد شهادته أصبحت أكبر بكثير ممّا كان وهو حيّ.

في تلك المقابلة، يكرّر سماحته فكرة أن الشهداء هم الأحياء الحقيقيون الذين يستطيعون الحفاظ على على الوطن وبتضحياتهم وارتقائهم يحيون شعبًا".

13 أيلول 1997، بعد يوم فقط على شهادة السيد هادي، يختار قائد المقاومة أن يزفّ الخبر الى الجماهير بنفسه ومن على منبر باحة الشورى في الضاحية الجنوبية لبيروت، وفي أجواء ذكرى شهداء مجزرة 13 أيلول، ينقل الى الجماهير ارتقاء نجله في عملية بطولية في جبل الرفيع، بعد حديث مطوّل عن شهداء أيلول الذين سقطوا خلال تظاهرة الرفض لاتفاق أوسلو.

أثناء الخطاب، يحرص سماحته على توصيف المشهد بكلّ بسالةٍ وجسارةٍ، ويقول إن "هذا المجاهد وبقية إخوانه كان في خطّ المواجهة الأمامية مع العدو.. هو ذهب إليهم ولم يأتوا هم إليه.. ذهب إليهم بقدم وبندقية وإرادة وهذا هو الفارق.. هذا نصرٌ وعزٌّ لحزب الله، ونصرٌ لمنطق المقاومة في لبنان".

بعد مضيّ السنين يبقى الشهيد هادي أيقونة للفداء والعطاء، رمزًا للشباب الملتزم بالقضايا، وصورة لا تموت للزهد بالدنيا ومُغرياتها، للتنسّك والورع بعيدًا عن المواقع والمنزلات، كرمى آخرةٍ حيّة وخالدة يُرزقون بها.

 

جبل الرفيعالامين العام لحزب اللههادي نصر الله

إقرأ المزيد في: خاص العهد

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة