طوفان الأقصى

نقاط على الحروف

ليس تقليبًا في الماضي.. ولكن
29/09/2022

ليس تقليبًا في الماضي.. ولكن

أحمد فؤاد

"في هذا الوقت، أدركت أن معركتنا الحقيقية هناك، في القاهرة، وليست هنا في فلسطين.."
جمال عبدالناصر- خلال حصار الفالوجة 1948.

في هذه الأيام تمر علينا مناسبة مرور 42 عامًا على رحيل الرمز المصري الخالد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، في أيلول/ سبتمبر من العام 1970. هي مناسبة قد تكون بالنسبة للبعض ورقة من الماضي، لكن الأحداث والتحديات الحالية تجعل من استعادة هذه الصفحة وقراءتها بشكل متأن شرطًا ضروريًا لفهم الحاضر المصري الملغز، والغارق في العجز والفشل والتراجع.

وقبل الاندفاع في حديث ضروري، حول أين كنا؟ وكيف أصبحنا؟ في مصر على الأقل، فإنه من الضروري التسليم بأن الحملة الهائلة التي قادها السادات، عقب قيامه بثورته التصحيحية الشهيرة، في 15 آيار/ مايو، نفس تاريخ النكبة في رسالة لا تخطئها العقول لحلفائه الجدد، قد نجحت في تشويه عصر عبد الناصر وسياساته، خصوصًا لدى الجيل الشاب الجديد، قليل الخبرة والتحصيل، لكنها لم تفلح أبدًا في التشويه المعنوي لرجل، كان -ولا يزال- الحلم المرتجى لبلده ومواطنيه، وفشلت في تمرير سياسات حكام الخيانة والعار ممن جاؤوا بعده، وحولوا درة التاج لحركات التحرر الوطني في الستينيات والسبعينيات إلى مزرعة صهيو - أميركية، لا يملك الحاكم فيها إلا أبهة زائفة وسلطة بوليسية محدودة، بينما تحولت كل خيوط الفعل إلى "تل أبيب" وواشنطن.

ليس تقليبًا في الماضي.. ولكن

وهي ذاتها السياسات ووسائل الإقناع التي تحاول من خلالها واشنطن استثارة عواطف الشباب أو المرأة في الجمهورية الإسلامية، الفن الأميركي الأرفع في خلق وصناعة وتصدير الأزمة، فإذا حادثة عابرة قادرة على تحريك بعض الحشود، ثم تتولى وسائل الإعلام التابعة للأميركي بث المزيد من السموم على نار الفتنة التي صنعوها على عيونهم، والدفع بموجة من التفاهة إلى تصدر جدول العمل العام، وللمفارقة المرة بين مصر وإيران، كان  الحجاب واحدًا من المآخذ على عبد الناصر، الذي لم يقم بتطبيقه، بينما خلعه هو شعار الفورة –لا الثورة- الحالية في إيران.

وكما كان العام التالي لرحيل عبد الناصر هو البداية الحقيقية لواقع مصر اليوم، حين كان لا يزال في طور النشأة والتكوين، فإن مستقبلنا/ غدًا هو حاضر اليوم الذي لا يزال يتخلق وتظهر ملامحه، وبالتالي فإن قراءة اللحظة الحالية تنتمي للمستقبل أكثر من كونها رهينة بحدث مر وانتهى، وإنه كلما نجحنا في قراءة وربط أزمة الحاضر بتحديات المستقبل، كان ذلك أدعى لوقف نزيف التكاليف الهائل، من مقدرات البلد ومواردها وثقتها.

ما أشبه الليلة بالبارحة، حين عاد جمال عبد الناصر، الضابط صغير السن، من حصار الفالوجة، حاملًا على كتفيه هزيمة مريرة، وجد المناخ العام في البلد قد تحول إلى أسوأ مما تركه، نخبة مرتبطة بقصر ملكي وضعت كل رهاناتها على الاحتلال الإنجليزي، وبلد -كلها على بعضها- ارتضت بموقع المفعول به، وفي أحيان كثيرة وحين جربت أن تتحول إلى فاعل، إذا بقادتها يحولونها إلى مفعول فيه، لأول قادم على الطريق.

هذه النخبة التي جمعتها لافتة عريضة تريد إزالة الاحتلال، كهدف وطني أول ليس هناك من يعارضه، اختلفت في كل شيء تحت هذا العنوان، فمن ثقافة مغتربة، مشبعة بالتبعية للاحتلال، إلى قادة وسياسيين لا يعرفون، ولا يعرفون إنهم لا يعرفون، ولا يتطوع أحد لتأكيد جهلهم وغبائهم الشديد، وتكفي هنا واقعة واحدة عن "زعيم الأمة"، سعد زغلول، الذي تقدم بتبرع إلى صديقه اليهودي ليون كاسترو في 19 يوليو 1927، أحد وجهاء المجتمع في ذلك الزمان، ليمنحه الأخير بدوره إلى اللجنة الصهيونية التي يرأسها، لمواجهة زلزال مدمر وقع في فلسطين، وليكتشف الكل أن المنظمة الصهيونية المخصصة لتوفير وسائل وموارد نقل أكبر عدد من يهود العالم إلى أرض فلسطين كانت تقوم على تبرعاتهم وجهودهم، بل وكانت تنشر صحفها في القاهرة، دون أن يستدعي كل ذلك إدانة أو أزمة.

وحين ذهب الجيش المصري إلى فلسطين، كان ظهره مكشوفًا عاريًا أمام الصهاينة، وأن كل ما يعد وبحق ثابتًا وطنيًا أو خطًا أحمر للعمل، جرى انتهاكه وتخطيه، وكانت الهزيمة بفعل صفقات السلاح الفاسد والقيادات الأكثر فسادًا، والوعي العام المنتهك، وسلطة خانعة، أدمنت ومارست العمالة والجهل والغباء، عند حدودها القصوى، بل ربما هي لم تعرف حدودًا بشكل أدق.

حول المناخ العام المهترئ من انقلاب عسكري إلى ثورة شعبية كاملة الأوصاف، استطاعت حشد الناس منذ لحظاتها الأولى، بعد اكتشافهم عقم النخب وخلو الفضاء السياسي من فاعل أصيل، ينتمي إليهم، ويتحدث لغتهم، ويرى واقعهم، ويحمل جدولا وطنيا للخروج من حالة التيه الممتدة.

رحل الاستعمار البريطاني، عقب 4 سنوات فقط من الثورة، وتوالت بعده الإنجازات الكبرى للثورة المصرية، من تأميم قناة السويس والانتصار على العدوان الثلاثي، إلى بناء السد العالي، وإقامة المدارس والجامعات في طول مصر وعرضها، وإنشاء بنية صناعية هائلة، كان يعز في هذا الزمان امتلاك واحدة من دول العالم الثالث لها، وقبل كل شيء، فهم القيادة المصرية لدورها في الإقليم والعالم، وهو ما عبر عنه عبد الناصر في كتابه "فلسفة الثورة" عن دائرة عربية ودائرة إسلامية ودائرة إفريقية، كانت مصر تتحرك فيها وتؤدي أدوارها، وتثبت وجودها.

لم يكن الدور المصري نزيفًا على طول الخط، بل كان نتيجة إيمان بالقدرة، دفع إلى حركة دائبة، تقدم للآخرين المثل والقدوة، وتمد يد العون، وتقود حركة التحرر الإفريقي من الاستعمار، وفي المقابل، جنت مصر تأثيرًا هائلًا خارج موقعها الجغرافي، وكانت المحطة الأولى لحركات النضال العربي والإفريقي، وحتى نهاية الستينيات كانت الكلمة مسموعة والموقف المصري يستدعي الإجماع والأصوات والدعم في العالم الثالث كله، من داكار إلى دلهي.

إن كل مراجعة أمينة لهذه الفترة التاريخية عظيمة المجد والخطوات، تثير في الروح مزيجًا متداخلًا من الحنين للماضي والأسى على الحاضر، والإيمان بالقدرة على تجاوز الوضع الحالي، والاستفزاز مما قد سقطنا فيه فعلًا، وكما خطها يومًا العبقري الراحل جمال حمدان: "إن جمال عبد الناصر هو أول -وللأسف آخر- حاكم يكتشف جوهر شخصية مصر السياسية، ويضع يده على الصيغة المثلى للسياسة الخارجية المصرية، لم يكن عبدالناصر هو مخترع تلك الصيغة المثلى لسياسة مصر الخارجية ولكنه أول من تشرب بها، وفهمها وبلورها فكريًا، وطبقها عمليًا إلى أقصى حد، فنقلها من الفكر النظري إلى التطبيق السياسي".

وتبقى الحقيقة الواضحة، في قصة مصر وعبد الناصر، وهي أن كل الحكام من بعده لم يجدوا حين وقعت الواقعة واقترب الإفلاس، بحكم تطبيقهم الحماسي لسياسات أسيادهم في صندوق النقد والبنك الدوليين، إلا أن يبيعوا تركته، من المصانع والشركات الضخمة، وطوال 42 عامًا كانت هي الحل الأخير والأوحد لإنقاذهم وتمديد فترات حكمهم، فمن مبارك في نهاية الثمانينيات، والذي طبق أضخم برامج الخصخصة على الوحدات الإنتاجية التي نفذتها ثورة يوليو كشاهد أرقى على الإنجاز والرؤية والإرادة الوطنية، للحصول على صك خفض 50% من الديون الخارجية عبر نادي باريس، إلى السيسي، والذي صرحت وزيرة تخطيطه، من نيويورك خلال الأسبوع الحالي، أنه جرى تقييم مشروعات بـ 9.1 مليار دولار، وستلحق بها شركات أخرى بقية 15 مليار دولار، بجانب قيامهم بالفعل ببيع نسب من شركات عامة بعدة مليارات من الدولارات للسعودية والإمارات مطلع العام المالي الحالي.

الحكم البات والقاطع على سياسات حكام الكامب صدر، ومن محكمة التاريخ التي لا تجامل ولا تأخذ بنصف الحقيقة وبالرقم الواحد المنتزع من سياقه، وهو كفيل بوضع كل شخص في مكانه الصحيح، فهناك صفحات سوداء لسماسرة الأوطان وبائعيها، أتباع الغرب وأولياء العدو، وهي نظم عابرة وقلقة، وهناك صفحات ستظل خاطفة ولامعة، تمثل البريق في عمر كل أمة، وهي فوق كل شيء، أمانها وأملها الباقي.

مصرجمال عبد الناصر

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة