طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

الخروج من خانة المفعول به
15/07/2022

الخروج من خانة المفعول به

أحمد فؤاد

سمّيتك الجنوب
يا لابسًا عباءة الحُسين وشمس كربلاء
ويا مآذن الله التي تدعُو إلى المقاومة.. | نزار قباني

 

ثمة حقيقة مرعبة فيما يجري فوق منطقة الشرق الأوسط وعليها، خلال الأيام الحالية، وهي أنه رغم اشتعال الصراع العالمي بين القوى الكبرى على امتداد الخريطة، وفي أكثر من موقع، بالنار والدم في أوكرانيا، وبالاستعدادات العسكرية بين الصين وتايوان، والقلاقل الاقتصادية التي تضرب حكومات الدول الأوروبية، والانعكاسات السلبية على اقتصاديات عدد من الدول النامية، فإن مستقبل هذا الصراع العالمي كله سيتقرر في الشرق الأوسط، ولا مكان آخر غيره.

 

التاريخ يقول إن هذه المنطقة هي العصب اللازم لأية قوة تدعي أنها عظمى، وحتى التجارب القريبة المعَيشة، تكشف بجلاء أن الطور الإمبراطوري لبريطانيا وفرنسا قد انهار في السويس 1956، كما أن الاتحاد السوفييتي - كمثال آخر - لم يتحول إلى قوة عظمى سوى بعد خروجه من مدار أوروبا الشرقية إلى فلك الشرق الأوسط الواسع والكبير، وكان الشرق الأوسط أيضًا هو عنوان الأفول السوفييتي ومؤشر التراجع، الذي بدأ من مصر في منتصف السبعينيات، استمر بعدها إلى الحدود السياسية للإمبراطورية الشيوعية المترامية، حتى وصل أخيرًا إلى قلبها ليفتتها.

والحقيقة الثابتة في التفكير الأميركي هي التمسك بالوجود المطلق في شبه الجزيرة العربية، حيث أهم الموارد - البترول، وحيث تتراكم الأرصدة المالية الهائلة من فوائض عوائده، وفوق كل شيء فإن التركيبة السكانية فيها هشة وقلقة، وقوائم العروش فيها قائمة على رمال متحركة، لا تسندها قوة مجتمعية فاعلة وحقيقية أو عسكرية قادرة ومعتبرة.

وفي زيارة بايدن المشؤومة حاليًا، مشاهد عدة، تستحق النظر والتوقف للدرس والتحليل، إذ إنها أبعد ما تكون عن علاقة مصالح مشتركة، وأقل من أن توصف بأنها ارتباط تابع بمتبوع، وفيها من الإشارات ما يتعدى علاقات الملوك والقصور والعروش، لكنها بالتأكيد صورة حقيقية ومعبرة عن علاقات القوى النافذة، وعلاقات متصلة ومتشعبة تؤثر في الحوادث الإقليمية والعالمية، وتصنعها إن لزم الأمر، عبر كل الحدود ودون أدنى درجات المساءلة أو الحساب، في إطار رغبة أميركية محمومة لقيادة قطيع العار وفق ما تحبه وترضاه.

ورغم أن أنظمة الشرق الأوسط، حتى الغارقة في التبعية والارتهان للأميركي، تملك فرصة ذهبية وحقيقية للضغط والحصول على بعض المنافع، أو حتى إيقاف سيل الإهانات والصفعات المتتالية الموجهة لقاداتها، من محمد بن سلمان إلى السيسي، بفعل حقيقة أن البترول والغاز سيظلان لحقبة أخرى المصدر الأول والأهم للطاقة، مع تدني محصلة التوجه العالمي نحو الطاقة المتجددة والنظيفة، فإنها بكل بلاهة وقصر نظر قررت تفويتها، وكأن عشق العبودية بات في الدماء.

وطبقًا لما كشفته وحدة الأبحاث بنشرة "بلومبرغ" الاقتصادية، فإن العالم يعتمد في إنتاج الطاقة على البترول بنسبة 31%، ويليه الفحم بنسبة 27%، ثم الغاز الطبيعي بنسبة 24%، بينما لا تتعدى مساهمات الإنتاج من الطاقة الكهرومائية والنووية والمتجددة (7% و7% و4%) على الترتيب.

ومن الشرق الأوسط أيضًا تظهر الفرصة الأميركية الوحيدة للرئيس الحالي جو بايدن في تحقيق اختراق شخصي وخارجي، في آن، بعد أن لسعت الحرب الروسية في أوكرانيا أقرب الحلفاء، ولم يبق ممكنًا إلا تجييش طاقات وإمكانات ونفط الشرق الأوسط في المعركة ضد روسيا، أولًا للاستغناء عن كون الاقتصاد الروسي هو اقتصاد سلعي، قائم على سلع حقيقية، وثانيًا لتوفير الوقت لأوروبا المنهكة في الوقوف شهور أخرى بوجه النجاح الروسي، مع اقتراب فصل الخريف المر على القارة الباردة.

لكن للمرة الأولى قرأ أحد المسؤولين عن القرار العربي الأزمة الأميركية والتراجع الأميركي، وصعد بلغة خطابه إلى المواجهة الشاملة، مع واشنطن وأذنابها، ووضع الجميع أمام لحظة الأزمة وإحساس الحصار، والذي يُفترض للغرابة أن إعلامنا يروج للخوف منه والهروب من مواجهته.

في حديث السيد حسن نصر الله عن أميركا، التي ليست بمستوى 2003 أو 2006، وجّه أعذب رسالة حساب وأقوى عبارات التهديد، فأميركا بكل جبروتها في 2006، حين كانت فاعلًا دوليًا أوحد، كلّي القدرة والهيمنة، المسيطر بقبضة فولاذية على رقاب الجميع، لم تتمكن من مساعدة العدو في هزيمة الحزب الرباني، وتجرعت مرارة خيبة سلاحها وحليفتها، وفقدت من هيبتها أكثر مما فقدته في أي وقت منذ نهاية الحرب الباردة.

بالفعل أسقطت الولايات المتحدة الكثير من أوراق قوتها، ونزفت الغالي من صورتها وجاذبيتها، وأضاعت قدراتها بالرهان على الصدام مع الصين زمن ترامب، ثم المواجهة المفتوحة مع روسيا خلال عهد بايدن، وقبل أي شيء آخر، لا يظهر اقتصادها بالشكل المثالي الذي يدعم الحليف ويقف في وجه العدو، الحالي أو المحتمل.

وللتذكير، لمن أراد فقط تذكر أين تقف الولايات المتحدة كرقم من معادلة الاقتصاد العالمي، فإن القوة الأميركية التي خرجت بحصّة تقارب 45-50% من الناتج المحلي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، تمثل حاليًا أقل من 19%، من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وفقًا لتعادل القوة الشرائية، بينما يمثل نظيره الصيني 23% بطريقة الحساب ذاتها، وحتى وفقًا لطريقة الناتج المحلي الأسمي - والتي لا تضع اعتبارًا لسعر السلع والخدمات بالعملة المحلية - يقترب الناتجان بشدة من بعضهما البعض (20% الأميركي مقابل 18% الصيني) ما ينهي أسطورة التفوق الأميركي تمامًا، ويلقي بها إلى صفحات التاريخ وذكريات الماضي.

والتقارير الأميركية الصادرة يوم 13 تموز/يوليو، في اليوم ذاته الذي أطل فيه سماحة السيد، تؤيد ما ذهب إليه من التراجع الأميركي الحاد، إذ بلغ التضخم في الولايات المتحدة 9.1%، وهو المستوى القياسي الأكبر منذ 42 عامًا، رغم الجهود الهائلة التي بذلها الاحتياطي الفيدرالي طوال العام الحالي في محاولة كبح جماح التضخم المنفلت.

ويبقى السؤال بعد خطاب السيد، التاريخي الملهم، هل يمكن لشخص واحد - مهما أوتي من قدرة ومهما امتلك الحكمة - تجاوز الواقع بكل بؤسه وشق طريق جديد نحو الأمل المستحيل، وتقديم القدوة والمثال الخفاق لقوة الإيمان وصدق الفعل والكلمات؟ ثم هل هو قادر على أن يروي الدرب الصعب بالدم والعرق والألم، وبذل الأعز قبل أن يطلب التضحيات؟ ربما نعايش أنبل لحظات العمر، لكن بالتأكيد لأجل ترجمة كل هذه المعاني وجدت في قواميسنا كلمات مثل "البطل" و"السيد".

أخيرًا..

تعد أحدث المفاهيم الداخلة إلى علم الإدارة ما يُطلق عليه "تأثير ميديشي"، وهو بحسب قاموس هارفارد للأعمال قيام قيادة أو إدارة بتوفير البيئة المواتية لاستخراج الطاقات الإنسانية المبدعة، وصناعة المناخ الملائم لتفاعل خلّاق بين عناصر مختلفة، وتقديم المثال الحيوي المتألق، بحيث تؤدي في النهاية لبث مناخ جديد تمامًا، وبالتالي إيجاد رابطة حل بين الأزمات وبين القدرة على تغيير الواقع بأكمله، عوضًا عن الغرق بحثًا في يوميات التعاطي معه.

والمصطلح أصلًا يعود إلى اسم أشهر عائلة أوروبية، عائلة "ميديشي"، والتي تولت حكم مدينة فلورنسا بإيطاليا من القرن الخامس عشر إلى الثامن عشر، وتمكنت بفضل قدرة أمرائها الفريدة من جمع العباقرة الأوروبيين من شتى فروع العلم والفنون والآداب والمعارف الإنسانية، ما قاد في النهاية إلى بقعة ضوء فاض ألقها على إيطاليا، ومنها إلى مدن أوروبا الكبرى، لتطوى صفحة العصور الوسطى البغيضة، وتفتح صفحة عصر النهضة.

خطاب السيد حسن نصر الله، كان ولا يزال وسيظل، هو بقعة الضوء والطريق الذي يرتضيه كل شريف على هذه الأرض، خصوصًا العالم العربي، ومع السقوط المروع -وغير المسبوق- للحكومات تزلفًا تحت القدم الأميركية الثقيلة ونحو الوهم الصهيوني الخادع، تبقى كلمات السيد هي الحلم في مواجهة دخان الوهم كله.

الأمة في رد فعلها الأولى والتلقائي على خطاب السيد، بمواجهة الحصار الأميركي والتخطيط الأميركي والمؤامرة الأميركية، رأت بطلها مجسدًا ومخلصًا، وكانت مشاعر الفرحة العارمة باليد الموجهة إلى العنق الصهيوني أجمل من أن تترجمها الكلمات أو تحيط بها الجمل مهما كانت بليغة أو رنانة.

الأمة العربية في حالة أزمة، الوجع يرهق الصدور ويجثم بثقله على القلوب، وفي كل عاصمة عربية يمكنك سماع أنّات القهر والحرمان، مع اتساع الفقر وزيادة عمق الفارق بين الطبقات الأغنى والأقل، ومع حدة الضغوط الأميركية، تحولت البلدان العربية إلى مستنقعات بؤس وعجز شديدين، وإن نجح لبنان في انتزاع حقوقه من العدو الصهيوني، فسيقدم بالضبط ما تحتاج إليه الأمة العربية، المثل القادر على التحدي والمقارعة والإنجاز، وسنكون ببساطة مقبلين على ربيع جديد، حيث الكرامة والخبز والمستقبل.

المقاومةالكيان المؤقت

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة