طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

المجاعة تزحف عالميًا.. وأميركا تُهلك أوروبا أولًا‎‎
13/07/2022

المجاعة تزحف عالميًا.. وأميركا تُهلك أوروبا أولًا‎‎

يونس عودة

شبح المجاعة العالمية ليس كلامًا من باب الشكوى، أو شعارات نقابية هدفها لفت نظر السلطات الرسمية لتعي المخاطر المحدقة. إن ما يشهده العالم هو نتيجة أزمات متراكمة أسست لها وفاقمتها الدول المبنية على نهج نهب ثروات الشعوب واستعمارها كدول متجبرة مستكبرة حتى النخاع وتعتمد على الحروب المباشرة لفرض ارادتها، إن لم تنجح بفرضها عبر القتلة الاقتصاديين أو عبر الحرب التحتية ابتزازًا وبأشكال مختلفة.

يحاول الغرب بزعامة الولايات المتحدة أن يلقي باللائمة على روسيا في أسباب المجاعة الزاحفة على خلفية العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، عبر خطابات ومواقف زعاماته المروج لها في منظوماته الإعلامية الشرسة في نشر الأكاذيب والاضاليل، وبتجاهل شبه كامل لصرخات الشعوب المتوجسة خيفة من الجوع والبرد حتى في الدول المحكومة من أصلابه الهجينة كحروبه التي بدأت تلفظ أنفاسها أينما زرعها ورعاها باسم الديمقراطية والحرية، ولم تجلب سوى الموت والدمار بكل الأشكال.

لقد استخدم الغربيون ولا سيما الإدارة الأميركية، أقصى العقوبات على روسيا دون أن تتعظ من الدرس الإيراني والكوبي والفنزويلي والسوري وبعض اللبناني من أن العقوبات يمكن أن تتحول الى فرصة تنقلب معطيات الإرادة الصلبة التي تتلقاها الى وبال على صناعها.

لقد تحولت العقوبات الأميركية والغربية عمومًا على روسيا الى عقوبات جماعية على أنفسهم، تجلت في زيادة التضخم الى درجة غير مسبوقة وركودًا هائلًا هزت اقتصادياتها، وكشفت عورات  لا بل هشاشة منظومات اقتصادية وبالأخص المنظومات الزراعية التي لا يكفي انتاجها لاطعام شعوبها، وانما تعتمد على مواد أولية من اسمدة ومبيدات لتحسين زراعتها ، مصدرها الرئيسي الاتحاد الروسين إضافة الى القمح الروسي والاوكراني .فضلا عن الغاز والنفط الروسيين ليس فقط للتدفئة وإنتاج الكهرباء، وانما لتشغيل المصانع من الخفيفة الى الثقيلة، أي الدورة الإنتاجية الصناعية وتوابعها.

لقد كانت المانيا الاتحادية تفاخر أنها أقوى اقتصاد في الاتحاد الأوروبي، ورابع أقوى اقتصاد في العالم، وربما كانت من بين أفضل الدول حماية وتقديمات اجتماعية للبشر على أراضيها، وها هي اليوم تطلق أهم شركاتها الصرخة تلو الصرخة ولا سيما صناعة السيارات الألمانية التي وصف القيمون عليها بأنهم يتعرضون لـ"نكسة"، وقدّرت دراسة لمجموعة من معاهد الطاقة الالمانية أن توقف إمدادات الغاز والنفط الروسي فجأة قد يفقد الاقتصاد الألماني 12% من ناتجه المحلي الإجمالي.

ونظراً لارتفاع مستوى عدم اليقين بشأن إمدادات الغاز من روسيا، والتي تعتبر مهمة للاقتصاد الألماني الذي يعتمد عليها بنسبة 60% لتلبية احتياجاته، فقد وضعت المعاهد سيناريوهين للتنمية الاقتصادية في توقعاتها. يفترض أحدهما استمرار تسليم الغاز وعدم حدوث مزيد من التصعيد الاقتصادي (السيناريو الأساسي)، بينما يفترض الآخر وقفاً فورياً لتسليم الغاز الروسي (سيناريو بديل). وتكاد تكون ألمانيا الدولة الأوروبية الوحيدة التي لا يمكنها الاستغناء عن الغاز الروسي حالياً، لأنها لا تمتلك محطات للتعامل مع الغاز المسال القادم من وراء البحار، كما أنها سوق ضخم للغاية، والحصة الروسية منه كبيرة لدرجة لا تسمح باستبداله بشكل سريع بإمدادات من دول أخرى مثل قطر.

لقد أصبح الضغط واضحاً في قلب الاقتصاد الألماني، حيث يشتكي حوالي 77% من الشركات المصنعة من أن نقص المواد والمعدات يضر بالأعمال، أكثر من أي مكان آخر في أوروبا. أمّا على المستوى الشعبي فإن المخاوف كادت تصل الى حدود الهستيريا جراء ارتفاع الأسعار غير المسبوق ليس فقط لقاء المحروقات والكهرباء، وإنما الغلاء المتزايد مقابل المواد الغذائية. هذه العوامل أدت الى زيادة التضخم مع الركود وتعرض اليورو مقابل العملات الأخرى لانكسار كبير حتى مقابل الدولار الذي بات مساويًا له. علمًا أن اليورو كان يفوق الدولار بـ13 بالمئة قبيل جر المانيا الى فرض العقوبات وتحمل نتائجها، مما يهدد باضطرابات اجتماعية وفق ما أعلن العديد من المسؤولين الالمان والأوروبيين على حد سواء، وصولا الى مخاوف حقيقية من احتراب داخلي مع انتشار الكراهية بين النازيين الجدد ومكونات أخرى وبخلفيات قومية مختلفة.

النموذج الألماني يقدّم الصورة الأدق عما سيعانيه الأوروبيون الذين تجبرهم السطوة الأميركية على اللهاث خلف العقوبات بالرهان على وقت لن يحين لهزيمة روسيا والمتحالفين معها في مواجهة الحلف الأطلسين سواء في مجموعة بحر قزوين، أو بريكس، أو شنغهاي، وهذه المجموعات الدولية الثقيلة بشريًا واقتصاديًا تتوسع أكثر فأكثر وقد ظهرت مؤشرات أولية تفيد أن أكثر من 70 بنكًا أجنبيًا من 12 دولة انضم إلى النظام المالي الروسي البديل عن "سويفت".

توقع خبراء في صحيفة "التلغراف" أن تتلقى القارة الأوروبية أكبر صدمة في تاريخها. وقالت راشيل ميلارد في مقالها نقلا عن سيمون تاغليابيترا، الخبير من مركز الأبحاث البلجيكي "Brueghel" إنه إذا تعذر عودة نقل الغاز عبر السيل الشمالي، فإن ألمانيا والدول المجاورة لها ستشعر بضغط كبير على اقتصاداتها.

لقد بدأ الأوربيون وهم ضحايا العقوبات التي عطلت سلاسل التوريد في العالم، الإحساس بحلول المجاعة في ديارهم، و حذّر مقال نشرته مجلة "كومباكت" من تأثير الجوع في العالم على ما يصل إلى 100 مليون شخص، في العام 2023. ونقلت المجلة عن رئيس قسم في شركة المستحضرات الكيميائية والأدوية متعددة الجنسيات في "REG"، ماتياس بيرنينغر قوله إنّ "العام المقبل 2023، سيحمل معه واحدة من أكبر أزمات الغذاء في تاريخ البشرية".

في وقت دعت وزيرة الداخلية الألمانية المواطنين إلى تخزين المواد الغذائية والأدوية تحسبا لحالة طوارئ، في ضوء تراجع المحاصيل وقلة الأسمدة.

اذا كانت تلك حال الأوروبيين، فإن الفقر غزا فعلًا العديد من الدول، وأفادت الأمم المتحدة بأن الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية والطاقة في العالم، أدى إلى انتشار الفقر الذي طال خلال ثلاثة أشهر فقط 71 مليون شخص من سكان دول متدنية الدخل، وخصوصًا منطقة الساحل. ورأى أن "أزمة كلفة المعيشة هذه تلقي بملايين الأشخاص في الفقر ما يهدد بانتشار مجاعة بسرعة مذهلة في وقت تتزايد فيه مخاطر تفاقم الاضطرابات الاجتماعية يومًا بعد يوم".

لقد جرّت الولايات المتحدة عنوة العديد من الدول إلى العقوبات سواء بالإغراء أو بالتهديد أو بتصديق التشويهات التي دأبت عليها الولايات المتحدة وأولئك أظهروا أن القرار السيادي لا وجود له، ولا حتى الشخصية الوطنية المستقلة. ومن المفيد هنا الاستشهاد بما قاله المعلق السياسي الأمريكي تاكر كارلسون بأن ارتفاع الأسعار حصل بسبب سياسات الرئيس الأمريكي جو بايدن، وليس بسبب فلاديمير بوتين، كما يدعي البيت الأبيض. وقال "نحن أغنياء لأننا أغنياء بالموارد الطبيعية... ولكن فجأة، لسبب ما، حدث نقص في موارد الغذاء والطاقة في الولايات المتحدة، ولهذا ارتفعت أسعارها.. كيف يمكن أن يحدث هذا؟ جو بايدن قدّم تفسيره"، مشيرًا إلى أن الرئيس الأمريكي ألقى باللوم على بوتين في ارتفاع الأسعار: "هذا عار، وهو أمر مذهل، وفي هذه الحالة هو خطير أيضًا. ولا أحد يصدق كلمة واحدة، هذه حماقة! إنها كذبة سافرة لم يصدقها أحد، ولا حتى أولئك الذين أرادوا تصديقها، والذين صوتوا لبايدن، الذين أرادوا طواحين الرياح ومحطات الطاقة الشمسية، لم يصدقوا ذلك، لأنه هراء".

ويكفي أن يشهد أصحاب البيت الاميركي لتكون الولايات المتحدة أكبر الشياطين الخناسين.

أوروبا

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات