يوميات عدوان نيسان 1996

آراء وتحليلات

حزب الله في أربعين عاماً: الحضور، الفرادة، والنموذج (1/2)
24/06/2022

حزب الله في أربعين عاماً: الحضور، الفرادة، والنموذج (1/2)

علي عبادي

 

قد لا يكون من المبالغة في شيء القول إنه خلال قرن مضى ندر الى حد كبير وجودُ منظمة في هذه المنطقة كان لها هذا الحضور والصدى والتأثير، على قدر ما كان لحزب الله. صحيح أن هناك منظمات مرت في هذه المنطقة وكان لها حضور وتأثير عابر للحدود الوطنية، لكنها لم تعمّر طويلاً بهذا الدور بفعل افتقارها الى القدرة على التوفيق بين المبدئية والمرونة، أو لم يُكتب لها أن تسهم في تغيير معادلات كبرى بسبب استعجالها وعدم فهم الواقع أو لخطأ في تشخيص الأولويات أو لمشاكل داخلية، أو لم تتمكن من التجرد عن أنانية تنظيمية لتنقل تجربتها النموذجية إلى منظمات أخرى وتشكّل معاً حلفاً يقود المنطقة نحو أفق جديد.

 

أيضاً، ربما لم يُكتب ويُنشر ويُبث إعلامياً عن منظمة، كما شهدنا في خصوص حزب الله. ذلك أن العدو الصهيوني ودوائر المخابرات الأميركية وما يلحقها من دوائر عربية وأجنبية ومحلية جعلت حزب الله شغلها الشاغل بهدف التعمق في صيرورته وارتباطاته وفعاليته و"تفكيك شيفرته"، أو للنيل منه وشيطنته.

تمكّن حزب الله من تطوير نموذج خاص اعتماداً على بنيته العقائدية وتجربته الجهادية الغنية وخصوصية الواقع اللبناني، فجمع بين هويته الأولى كمقاومة ضد الاحتلال الصهيوني والهيمنة الأميركية وضرورات الانخراط في الواقع السياسي اللبناني. لم تتحقق أُمنية الذين تمنوا أن يبقى مقاومة بعيدة عن ملاقاة الواقع المعقّد في الداخل كي يخلو الجوّ لهم، وخاب فأل الذين راهنوا على أن يترك المقاومة ويستغرق في العمل السياسي كي يفقد منبع قوته وينجرف مع التيار السائد.   

يحلو لبعضهم أن يعزو نقطة قوة حزب الله الأولى والأساسية الى الدعم المادي الذي يلقاه من الجمهورية الإسلامية في إيران، وهذا عامل لا يمكن إنكار أهميته، لكن هناك عناصر أساسية وحاسمة جعلت لحزب الله هذا الحضور القوي، ومن بينها: البعد الإيماني الذي يحثّ أفراده على التحمّل والتضحية (ثلاثية الإيمان والجهاد والشهادة) في مواقع جغرافية قريبة وبعيدة، الارتباط المعنوي بولاية الفقيه الذي شكّل عامل تماسك واستلهام، التحلي بالقدرة على تفعيل عناصر القوة التنظيمية، الثقة الواسعة بكفاءة القيادة في التعامل مع الواقع الى حد يجعلها مرجعية سياسية لا غنى عنها محلياً وإقليمياً، التشخيص الدقيق للمصالح والعزوف عن المكاسب العاجلة والتركيز على الأهداف الكبرى، عدم التهيُّب من خوض التحديات الصعبة في ميزان يتطلب تقدير متى تُقْدم ومتى تصبر.
 
مراحل النمو والنضوج:

مرّ حزب الله خلال أربعة عقود بمراحل أساسية يمكن إجمالها بالآتي:

- مرحلة المواجهة مع الاحتلال والقوات الأطلسية التي دخلت الى بيروت دعماً له ابتداءً من العام 1982 وصولاً الى تحرير معظم المناطق المحتلة. مرحلة اتسمت بتواضع العمل الإعلامي والمجهولية أحياناً، حيث كان الكثيرون لا يعرفون عن الحزب إلا ما تتداوله وسائل الإعلام الغربية.
مع ذلك، أنتج حزب الله خلال هذه المرحلة، تحديداً في شباط 1985، خطابه الأول (الرسالة المفتوحة) إلى الرأي العام المحلي والعالمي وحدَّد فيه هويته وثوابته وأهدافه.

- مرحلة الانخراط في المعترك الداخلي، التي بدأت بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990 وعودة الانتظام الى مؤسسات الدولة اللبنانية، وأبرز معالمها الدخول الى مجلس النواب عام 1992 وإقامة علاقات مع القوى السياسية.

ترافق ذلك مع تطوير للمؤسسات التنظيمية: إعلامية، تربوية، ثقافية، اجتماعية، زراعية، عمرانية، طبية، تمويلية، رياضية، كشفية. وفي الوقت نفسه، استفادت المقاومة من استقرار الوضع الداخلي لتكثيف عملياتها في ما كان يُعرف بـ"الشريط الحدودي المحتل" وصولاً الى إنجاز التحرير في أيار عام 2000. واستمر حزب الله بالأداء نفسه إلى العام 2005، مع إعادة تحديد لوظيفة المقاومة وهي تحرير ما تبقى من الأراضي اللبنانية المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والدفاع عن لبنان في مواجهة أي عدوان صهيوني محتمل. كان ذلك في قبالة من كانوا ينادون بوضع سلاح المقاومة جانباً بعد التحرير الكبير عام 2000.

- مرحلة العمل الحكومي: وهي أكثر عمقاً وشمولاً من المرحلة السابقة، وبدأت بعد الزلزال الذي أحدثه اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان عام 2005، وما تلاه من ازدياد التدخل الأميركي في الشأن اللبناني. واتسمت هذه المرحلة بتصدّر حزب الله للأحداث بدءاً من خطاب الأمين العام في مسيرة بيروت الحاشدة في 8 آذار 2005. وقد لجأ الحزب إلى بناء شبكة علاقات وتحالفات واسعة مع القوى الفاعلة بهدف مواكبة الاستحقاقات الداهمة وإدارة المواجهة السياسية. واللافت في هذه العلاقات حرص الحزب على احترام الخصوصيات التنظيمية والسياسية لحلفائه، وإن شابتها تباينات في بعض الموضوعات. وبذلك، لم يسجَّل للحزب أنه سعى الى إلغاء هذه الخصوصيات أو إلحاق الحلفاء به.  

- مرحلة التفاعل مع التطورات في المنطقة. وهي مرحلة لا تنفصل عما سبقها في الترتيب الزمني، لأن حزب الله لم يكن متخلفاً في السابق عن الحضور في الساحات التي تتطلب نصرة قضايا الأمة.
تمثلَ ذلك مبكراً بمساندة نضال شعب البوسنة والهرسك الذي كان يواجه حملات الإبادة في العام 1992، ومساندة نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال عبر الدعم التدريبي واللوجستي قبل وبعد انتفاضة الأقصى في أيلول/ سبتمبر 2000، وتقديم الدعم للشعب العراقي ضد الاحتلال الاميركي عام 2003 ثم ضد تمدد عصابات داعش عام 2014، ومساندة سوريا في مواجهة الحرب التي شُنت عليها عام 2011 لتغيير الخارطة الجيوسياسية للمنطقة من البوابة السورية، ثم مساندة شعب اليمن ضد العدوان السعودي- الأميركي عليه عام 2015. ولعل هذا الدور الذي لعبه حزب الله قد ساهم مع بقية الحلفاء في تحويل مسار الأحداث في اتجاه لا يسرّ خاطر الإدارة الأميركية وجعل الحزب محط تركيز لاحق من جانب أميركا وحلفائها.    

في عين العاصفة:

بين العام 1982 تاريخ النشأة و2022 بلوغ أربعينية النضج، مفصل زمني حافل بألوان التحديات العواصف التي أطبقت فيها الدنيا على حزب الله في محطات عدة وجعل الله له منها مَخْرجاً. وفي بعضها ارتجفت قلوب المحبين وقال المتربصون إن الحزب وقع ويوشك على ملاقاة مصيره.

وهناك محطات رافقت مسيرة حزب الله منذ البداية أو شكّلت تحدياً لوجوده في ما بعد:

 - محاولة إدخال لبنان في الفلك الأميركي- الاسرائيلي في أعقاب الاجتياح الصهيوني عام 1982. كانت تلك الفترة حالكة وشديدة السواد، وضع فيها الأميركيون والصهاينة ثقلهم العسكري لتكوين لبنان على الصورة التي يريدونها، وأبرز معالم تلك الفترة اتفاق 17 أيار 1983.

- أحداث الفتنة الداخلية في أواخر ثمانينيات القرن الماضي والتي وضعت الجميع أمام اختبار صعب، قبل أن تتهيأ الظروف لمعالجتها سياسياً وميدانياً.

- العدوان الصهيوني التدميري الواسع على لبنان في تموز 1993 ونيسان 1996 بهدف إنهاء المقاومة عبر رفع تكلفتها على الشعب الذي يساندها.  

- اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وما تلاه من إنشاء المحكمة الدولية. وعلى رغم ان الهدف الأول منها كان إخراج الجيش السوري من لبنان وتغيير تركيبة السلطة السياسية في شكل يوافق المصالح الاميركية، لكن الأبعاد الكاملة لجريمة الاغتيال اتضحت مع توجيه الاتهام لاحقاً الى حزب الله. وكان من المخاطر المقدَّرة لذلك تفجير العلاقة بين حزب الله وما يمثله وتيار المستقبل وما يمثله وإحداث شرخ سياسي ومذهبي، وصولاً إلى عزل حزب الله عن العمل الحكومي من خلال تجريم حزب الله معنوياً.   

- محاولة إدخال لبنان في المنظومة الشرق أوسطية عام 2006 عبر الحرب التي شنها العدو الصهيوني بتغطية أميركية مباشرة.

- محاولة عزل المقاومة سياسياً وحكومياً ابتداءً من نهاية 2006 عبر جهد داخلي قاده فريق فؤاد السنيورة، وتُوج بقرارات حكومته فجر يوم 5 ايار 2008 بخصوص تجريم شبكة الاتصالات السلكية للمقاومة وكل من يقف وراءها.  
 
- انتشار المد التكفيري ومحاولة وضع اليد على المنطقة من خلال "الربيع العربي" 2011. وكان من أصعب تحدياته على حزب الله الحرب في سوريا التي قال كثيرون إن الحزب سيغرق فيها وستقصم ظهره. ثم وجود التنظيمات التكفيرية في جرود شرق لبنان والذي شكّل تحدياً أمنياً وعسكرياً واسعاً.

- حرب الحصار الاقتصادي والعقوبات الأميركية التي مهدت السبيل للزلزال الاقتصادي الذي فجّر الاحتجاجات في تشرين الأول 2019، وكادت هذه أن تتحول الى فوضى متنقلة، وتم تحويل هدفها لاحقاً نحو وضع الناس في مواجهة حزب الله وهزّ البيئة الشعبية المؤيدة للمقاومة، حيث أصبح الحزب في عين العاصفة الأميركية.

- قد يكون الأشرس من كل ذلك حملة الشيطنة التي تتولاها الأجهزة الأميركية ومن سار في ركْبها، والتي قامت على ترويج صورة لحزب الله على أنه "منظمة إجرامية عابرة للحدود" وليس فقط "منظمة إرهابية دولية"، كما كان التوصيف الأميركي سابقاً. ولهذا، كثرت التقارير المخابراتية والتلفيقات التي تربط الحزب بعصابات المخدرات ومافيا الجريمة وغسل الأموال وما شاكل.

الأربعون ربيعاً

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل