ramadan2024

مقالات مختارة

عن أربعة أيام كلّلت التحرير
25/05/2022

عن أربعة أيام كلّلت التحرير

فؤاد بزي- "الأخبار"  

يحضر اسم مسؤول منطقة الجنوب في حزب الله، أيام الاحتلال، الشيخ نبيل قاووق في ذاكرة كلّ من واكب مرحلة تحرير الجنوب اللبناني في أيار عام 2000. الرجل الذي سجن نفسه في غرفة العمليات لأيام ثلاثة كان لبنان خلالها يستعيد جنوبه، مديراً عملية التحرير ومعالجاً العديد من المشاكل، ومتدخّلاً بنفسه عند الضرورة، دوّن الكثير من المواقف التي وقعت بين 21 و25 أيار. هي أيام التحرير التي أطلقتها مبادرة من أحد مساعديه، ابن بلدة الغندورية، عندما سأله: ماذا لو دفعنا أهالي القنطرة، الذين سيحضرون أسبوع سيدة من قريتهم في الغندورية، إلى دخول القنطرة؟ فكانت إجابة قاووق: فليكن.

لم تُكتب سطور قصة التحرير في الأسبوع الثالث من شهر أيار عام 2000 وحسب، بل هي رواية دارت أحداثها على مدى أكثر من 22 عاماً، بُذلت خلالها الدماء للوصول إلى صبيحة 25 أيار 2000. عمل تراكمي نقل المعركة من السّاحة اللبنانية إلى ساحة العدو، جاعلاً تكاليف البقاء فوق كلّ احتمال، يشبّهه إبراهيم الأمين "بانتقاء العدو حوالي الأربعين جندياً وضابطاً كلّ عام للموت في لبنان"، كان أبرزهم قائد القوات الإسرائيلية في الجنوب "إيرز غيرشتاين" الذي قتلته المقاومة في عملية أمنية محكمة يوم 28 شباط 1999، بالإضافة إلى ما سبقها من فشل استخباري ذريع مع عملية أنصارية التي أدّت إلى مرحلة أمان نسبي بسبب عدم تجرّؤ العدو على إرسال المزيد من قوى الكوماندوس براً أو بحراً إلى لبنان.

من جزين إلى القنطرة

ضمن هذا السياق من إنجازات المقاومة المتراكمة، يبدأ مسؤول منطقة الجنوب في حزب الله سرد رواية الأيام الأربعة التي كلّلت مسيرة التحرير، مقوّضة رغبة العدو الإسرائيلي بتحويل الشريط الحدودي المحتلّ إلى "خط بارليف" جديد يحميها. ذلك أن "الإسرائيليين"، الذين لم يعودوا يخفون نيّتهم في الانسحاب، قادوا حملة سياسية هدفها الإبقاء على جيش العملاء، من خلال تقديم سردية في الأمم المتحدة عن ضرورة حماية الطوائف المسيحية في الجنوب اللبناني من المقاومة. وتأتي هذه الخطة، لتكمل محاولة فاشلة لإشعال نار الفتنة المذهبية مع إعلان الانسحاب الأول من جزين ليل الأربعاء 01 آذار 1999 ومحاولة الدفع باتجاه مواجهة الطائفية تجنّبتها المقاومة بذكاء. يذكر قاووق الحرص على عدم الظهور بأي شكل عسكري حتى إن تبديل القوات في القرى المحيطة كان يتمّ عبر آليات مدنية ولباس غير عسكري لعدم استفزاز السّكان، ثمّ شنّت المقاومة أعتى حروبها النفسية والعسكرية على جيش العملاء لكسره نهائياً وإسقاط الرهان الإسرائيلي عليه، فكان لتفجير موقع عرمتى الأثر الأكبر في ذلك، إذ قام مجاهدوها باقتحام الموقع ونسفه بمن فيه من عملاء بشاحنة مفخّخة بثلاثة أطنان من المتفجرات كي لا يبقى شيء من تحصينات ودشم الموقع وفي 09 أيار 2000 دخل أهالي عرمتى قريتهم المحررة التي لم يعد إليها المحتل.


تكرار تجربة عرمتى

حسناً لماذا لا تتكرّر التجربة، فالعميل في حالة ذهول وصدمة والعدو لا يدافع عنه، والمقاومة تعلّمت من تجربة عرمتى كيفية العمل على المضمارين المدني والعسكري، الأول يمنع العدو من ارتكاب المجازر عند التقدّم والثاني للحماية. وهنا اقترح أحد مساعدي الشيخ نبيل قاووق الاستفادة من ذكرى أسبوع في منطقة القنطرة لحشد الأهالي والتقدّم نحو الغندورية، شعرت قوة اليونيفل في المنطقة بأمر مريب فاتصل أحد الضباط بالشيخ قاووق للاستيضاح حول ما يجري، فردّ بأنّ الأهالي يريدون المشاركة في المناسبة الاجتماعية، وما هي إلّا ساعات قليلة حتى اقتحموا بوابة الغندورية وتداعوا للتقدّم نحو القرى المجاورة وصولاً إلى دير سريان والطيبة ظهر يوم الأحد 21 أيار 2000.

التحرير صبر ساعة

الأحداث ستسبق النقاشات في كيان العدو حول الانسحاب بضمانات أو غيرها، والناس لن ينتظروا قرارات سياسية بعد اليوم، فالتحرير صبر ساعة أو أقل. وصل يومها الحاج عماد مغنية من بيروت مرسلاً من الأمين العام لمتابعة التحرّكات على الأرض، والتأكّد من أنّ العدو الذي بدأ يعدّ العدّة للفرار لن ينسحب هو والعملاء إلّا تحت نار الاشتباكات والكمائن، مع ضمان حماية الأهالي والحرص على عدم حصول أي إشكال ذي طابع مذهبي وطائفي في المنطقة، والتأكيد من أنّ الانتقام الشخصي من العملاء المرتكبين قد يؤدي إلى ردّات فعل تكون شرارة للفتنة المطلوبة من العدو لتغطية انسحابه.

ثمّ وضعت المقاومة مسارين للتقدّم، الأول من شقرا باتجاه حولا وميس الجبل، والثاني من مجدل سلم وطلوسة ووضع قطاع الشريط المحتل في حالة الطوارئ لجمع ما أمكن من ناس والتقدّم في مواكب راجلة وسيّارة شارك فيها شخصياً عماد مغنية الذي دخل مع الأهالي مشياً من طلوسة، وفي حولا شاركت مجموعات المقاومة في تدمير دبابة لحدية، فكنا نرى الحريق، يقول الشيخ نبيل قاووق، والجموع تتقدّم بمرافقة المجموعات العسكرية التي أمّنت كلّ الطرقات ومنعت العملاء من إقامة الحواجز.
أدار الشيخ نبيل التحرّكات على الأرض من غرفة عمليات المقاومة الموجودة في قرية بير السلاسل. تجمّع الناس في بيت ياحون وخيّمت الحماسة للتقدّم نحو المعبر الشهير ودخول القرية وما بعدها، فطلبت المقاومة الدعم من أهالي قرى السّاحل، ولكن قلوب من تجمّعوا لم تنتظر فتقدّم أصحابها صوب المعبر الخالي من العملاء بعد فرارهم باتجاه قرى الداخل ولم يتوقفوا في بيت ياحون ولا كونين، بل اتجهوا صوب بنت جبيل فقصفت دبابة من موقع الـ17 الطريق وحوصر الناس داخل كونين، ولتفادي الحصار وجّهتهم المقاومة باتجاه رشاف حيث استقبلهم الشيخ أحمد يحيى (أبو ذرّ) الذي لن يلبث لوقت طويل قبل أن يحقق أمنيته التي طاردها لسنوات ويستشهد بقصف للعدو.

المقاومة تردّ وتهدّد

في العديسة، قطع العملاء الطريق بواسطة ساتر ترابي وبدأ العدو بالقصف للتخفيف من عزم حركة مواكب التحرير، فطلبت المقاومة من "سلمان رمال" شاب من العديسة فتح الطريق بواسطة جرافته. تقدّم للتنفيذ فباغتته قذيفة دبابة للعدو، استشهد على أثرها مباشرةً، عندها طلبت المقاومة من مجموعة مضادّة للدروع إسكات مصادر النيران فرمتها بصاروخ لم تكن تمتلك غيره ودمّرتها وقتلت عدداً من جنود العدو.
ويومها وضعت المقاومة معادلة جديدة بعدما وصل عدد الشهداء على طريق التحرير إلى 22، فتمّ الاتفاق بين الأمين العام والحاج عماد مغنية على أن يبلغ الشيخ نبيل قوات الطوارئ بأنّ لدى العدو ساعة لإيقاف القصف وإلّا ستردّ المقاومة بقصف شمال فلسطين بشكل شامل، فردّ تيمور غوكسيل (الناطق السّابق باسم قوات اليونيفل) بأنّ العدو التزم ولم تحصل أيّ غارات بعد منتصف الليل.

نحو بنت جبيل ومعتقل الخيام

خلال الهروب من بنت جبيل لم يترك المحتلّ طريقة لمحاولة إشعال الفتن الطائفية إلّا وجرّبها، فقام بتوزيع السّلاح على المواطنين اللبنانيين، موهماً إياهم بضرورة حماية قراهم ولكنّ المقاومة قدّمت كلّ الضمانات اللازمة وأكّدت أنّ العدو لا يريد حمايتكم بل استخدامكم في مشروعه، وأصرّت على منع الدخول بشكل استفزازي إلى هذه القرى، أو إظهار السّلاح ولو داخل السّيارات وعالجت المشكلات التي طرأت "على الحبّة" دون السّماح لأيّ سوء تفاهم بالتفاقم خوفاً من الاقتتال الداخلي.

وبعد اجتماعات مع حركة أمل، اتُّخذ القرار بدخول المناطق الحسّاسة يوم الأربعاء 24 أيار 2000 فتقدّمت المجموعات العسكرية للمقاومة وسط تزاحم الأسئلة عن إمكانية سقوط موقع الـ17، وعن إمكان تجاوز بيت ياحون دون تصاريح... أسئلة أجابت عنها دموع أهالي بنت جبيل، حيث كان الناس يبكون فرحاً والنسوة يرقصن بالأباريق على رؤوسهنّ. لقد سقط الاحتلال وانتهى، حتى إنّ العدو خرج على وجه السّرعة وراح يلملم أسلحته أو أوراقه الأمنية التي جمعتها المقاومة بكلّ عناية وتأنّ.
في الجهة الثانية، كان سجّانو معتقل الخيام قد غادروه وهربوا، ومنهم من سلّم نفسه وسلاحه في ساحة بلدة الخيام بعدما حذّرت المقاومة العدو وعملاءه من أنّ "أي مسّ بالمعتقلين سيكون الردّ عليه قاسياً". تحرّر 142 معتقلاً، كانوا لساعات يعتقدون أن أصوات رصاص الابتهاج التي تصل إليهم، قد تكون اشتباكات أو ربما إعدامات، فلم يصدقوا أنّهم أحرار ومنهم من خاف من عبوات للعدو على الطريق، كونه لن يتركهم للحرية حتى وصلوا إلى بيروت فجراً، حيث كان الأمين العام لحزب الله في انتظارهم في ساحة الشورى في الضاحية الجنوبية.

لقاء بنت جبيل، ما بعد التحرير

صبيحة 25 أيار 2000، وبينما كان الناس يحتفلون باليوم الذي تحوّل إلى عيد مستحق، كانت المقاومة تفكر في الأسرى في الداخل الفلسطيني المحتل. "هؤلاء لم يشاركونا الفرحة بالتحرير والإنجاز دونهم غير مكتمل فبدأنا التفكير بعمليات الأسر القادمة وكيف سنستعمل سلاحهم الذي تركوه في مواجهتهم. وفي أحد مباني بنت جبيل عُقد الاجتماع الأول للتخطيط لمحاولة الأسر".

مخطوف من رميش

العلاقة مع أهالي القرى كانت حسّاسة، وأولتها قيادة المقاومة أهميّة كبرى كي لا تسمح للعدو باستغلال أي ثغرة لتفجير اقتتال مذهبي يُذهِب بريق الإنجاز. لذا، عندما تبلّغ الشيخ نبيل قاووق أن هناك شاباً مخطوفاً من بلدة رميش، وأن الإعلام المحرّض يقول إنّ المتهم بالخطف هو حزب الله، توجّه مباشرة إلى البلدة لكي ينفي للأهالي علاقة الحزب باختفاء الشاب، وبقي في البلدة بناءً على طلب مباشر من الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله، حتى عودة الشاب الذي يعمل ميكانيكيّ سيارات، وتبيّن أنه كان يصلح سيارة في قرية مجاورة.

«اقتلني أولاً»

دخل الشيخ نبيل قاووق للمرة الأولى المنطقة المحرّرة عبر معبر بيت ياحون السّابق، وكانت الصور التي يستعيدها في ذهنه مقارنات بين مشاهد الاحتلال وبين تهاوي قلاعه الحصينة، والشهداء الذين سقطوا على هذه الطرقات للوصول إلى هذه اللحظة، لذا كان حريصاً على زيارة الأماكن التي يعرف أن استشهاديين سقطوا فيها.

ومن المواقف التي لا ينساها، منعه لشاب التقى به عند مثلث عيناثا- مارون- عيترون من قتل عميل كان قد قتل والده وشقيقه، "لم أسمح له وقلت له عليك إطلاق النار عليّ أولاً".

عيد المقاومة والتحرير

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة