طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

الأزمة الأوكرانية وعسكرة الوعي الروسي
25/12/2021

الأزمة الأوكرانية وعسكرة الوعي الروسي

د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي

صحيح أن الأزمة الاوكرانية أدت الى تصاعد التهديد الروسي بالحرب، القائم أصلًا منذ مدة، ودفعت موسكو الى استحضار مصطلحات ومفردات سبق وأن استخدمتها في حروبها العالمية، لاستنهاض المجتمع الروسي وتمجيد قوة وعظمة جيشها، وقدرته على سحق الأعداء، لكن في الحقيقة، فإن هذا التوجه الخطابي العسكري الرسمي الذي يعود تاريخه الى سنوات خلت، لا يرتبط فقط بالتوترات مع كييف، بل بمخطط عسكرة المجتمع الروسي.

 وحاليًا، وبينما تقوم روسيا بحشد قواتها على الحدود الأوكرانية، مما أثار المخاوف الغربية من غزو وشيك، فإن العسكرة المطردة للمجتمع الروسي في عهد الرئيس فلاديمير بوتن تلوح في الأفق، ويبدو أنها جعلت الكثيرين يحملون فكرة أن القتال قد يكون قادمًا. ففي حديثه إلى القادة العسكريين الروس الثلاثاء الماضي، أصر بوتين على أن "روسيا لا تريد إراقة الدماء"، لكنها مستعدة للرد بـ "إجراءات عسكرية تقنية" على ما وصفه بـ"السلوك العدواني للغرب في المنطقة".

ما هي قصة عسكرة المجتمع الروسي؟

على مدى السنوات الثماني الماضية، روجت الحكومة الروسية لفكرة أن الوطن الأم محاط بالأعداء، وعملت ليس فقط على بث هذه المفهوم من خلال المؤسسات الوطنية مثل المدارس والجيش ووسائل الإعلام والكنيسة الأرثوذكسية، بل إنها أثارت احتمال أن تضطر البلاد مرة أخرى للدفاع عن نفسها كما فعلت ضد النازيين في الحرب العالمية الثانية.
 
وهنا يطرح السؤال نفسه: كيف ستحقق موسكو هدفها هذا؟

لتطبيق فكرة عسكرة المجتمع الروسي، ركزت موسكو اهتماماتها على الاطفال، ولهذه الغاية جرى تأسيس برنامج عرف بـ "فيمبل" Vympel من قبل عسكري،  يدعى سفياتوسلاف أوميلتشينكو، وهو من قدامى المحاربين في القوات الخاصة في جهاز الاستخبارات الروسي "الكي جي بي".

 يهدف البرنامج الذي تبلغ قيمته 185 مليون دولار أمريكي ومدته أربع سنوات ـــ والذي بدأه الكرملين هذا العام ـــ إلى زيادة "التعليم الوطني" للروس بشكل كبير، بما في ذلك خطة لجذب ما لا يقل عن 600000 طفل لا تتجاوز أعمارهم 8 سنوات للانضمام إلى صفوف جيش الشباب بالزي الرسمي.

كيفية التنفيذ

على مدار أيام كان الطلاب من جميع أنحاء البلاد يتنافسون في أنشطة مثل قراءة الخرائط وإطلاق النار ومسابقات التاريخ. وقد تم تمويل المسابقة جزئياً من قبل الكرملين، الذي جعل التعليم "الوطني العسكري" أولوية. وفي نهاية الحدث، نظم احتفال حيث تسلّم ستة مراهقين  ــ صعدوا الى المنصة ــ وهم يرتدون أحذية ثقيلة وملابس عسكرية، جوائز لانخراطهم في تخصص متزايد الأهمية في روسيا، الا وهو "الوطنية". وانطلاقا من ذلك، قال المحارب أوميلتشينكو "يفهم الآباء والأطفال أن هذه العدوانية من حولنا تشتد وتزداد تصلبا"، وأضاف "نحن نبذل كل ما في وسعنا للتأكد من أن الأطفال على دراية بذلك ولجعلهم مستعدين للذهاب الى الخدمة".

 وتعليقًا على هذه النقطة، وصف أليكسي ليفنسون، رئيس قسم الأبحاث الاجتماعية والثقافية في مركز ليفادا، وخبير استطلاع مستقل في موسكو، في حديث لصحيفة "نيويورك تايمز"، هذا الاتجاه بـ"عسكرة وعي الروس".

هل تفاعل الروس مع هذه العسكرة؟

 تشير استطلاعات الرأي الدورية للمركز (اي ليفادا)، الى أن الجيش الروسي أصبح في عام 2018 المؤسسة الأكثر ثقة في البلاد، متجاوزًا حتى الرئيس. هذا العام أي 2021، بلغت نسبة الروس الذين يقولون إنهم يخشون اندلاع حرب عالمية أعلى مستوى مسجل في استطلاعات تعود إلى 1994 وهي 62 بالمائة.

ليس هذا فحسب، ففي استطلاع أجرته ليفادا الأسبوع الماضي، قال 39 بالمائة من الروس إن الحرب بين روسيا وأوكرانيا إما حتمية أو محتملة للغاية. المثير في الأمر، أن نصفهم أشاروا إلى أن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي هما المسؤولان عن تصاعد التوترات مؤخرًا. فيما رأى ما لا يزيد عن 4 بالمائة -من جميع الفئات العمرية- أن روسيا مخطئة.

واستنادًا الى هذه النسب، حذر ليفنسون من أن هذا لا يعني أن الروس سيرحبون بغزو إقليمي دموي لأوكرانيا، لكنه قال إن هذا يعني أن الكثيرين قد تم تكييفهم لقبول أن روسيا منخرطة في تنافس وجودي مع قوى أخرى يكون استخدام القوة فيه أمرًا ممكنًا.

 لتسهيل مهمتها، المتمثلة بمدّ مخططها بجرع ثورية وطنية، استغلت موسكو الاحتفال بانتصار الاتحاد السوفياتي على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية - المشار إليها باسم الحرب الوطنية العظمى في روسيا - حيث لعبت هذه المناسبة الدور الأكثر أهمية في هذا التكييف.

ليس هذا فحسب، لم يكتف الكرملين بالترويج، فقط لثقافة إحياء ذكرى البطولة السوفيتية وفقدان 27 مليون شخص، بل ذهب أبعد من ذلك، حيث يعمد حتى يومنا هذا، الى استعادة رواية الحرب العالمية الثانية، ويضع روسيا مجددا موضع تهديد من قبل أعداء عازمين على تدميرها.
ففي خطابه السنوي في يوم النصر هذا العام بعد عرض عسكري ضخم، توعد بوتين "أعداء روسيا الحاليين ــ لم يكشف عن أسمائهم ــ الذين كانوا يعيدون نشر النظرية الوهمية للنازيين حول حصرية قوتهم".

وللتأكيد على استعداد الأمة الروسية للتضحية كلما دعت الحاجة، سخِر مقدم برنامج إخباري على التلفزيون الحكومي الأسبوع الماضي من "التهديدات بالعقوبات ضد روسيا من قبل أولئك الذين ليس لديهم أي فكرة عن كيفية تخويف شعب فقد أكثر من 20 مليونًا من رجاله ونسائه وكبار السن وأطفاله في الحرب الأخيرة".

أما ذروة التعبئة الموجهة، فكانت استخدام موسكو ملصقًا اعلانيًا عبارة عن مصطلح شائع يعود للحرب العالمية الثانية، ومضمونه: "يمكننا فعل ذلك مرة أخرى". وبناء على ذلك قال ليفنسون: "هناك تحول باستغلال هذا الانتصار" - في الحرب العالمية الثانية - "إلى المواجهة الحالية مع كتلة الناتو".

ماذا عن دور وسائل الاعلام؟

شكل الاعلام  الروسي الحكومي -ولم يزل- رأس الحربة في مخطط عسكرة المجتمع، حيث جرى التركيز على فئة البالغين الذين يحصلون على غرسهم من التلفزيون الرسمي، من خلال عرض برامج سياسية هادفة ــ ومن ضمنها برنامج اسمه "موسكو. الكرملين. بوتين" ـــ لاستثارة المشاعر وبالتالي حضّهم على العودة الى الوطن، وذلك عبر سرد رواية "انقلاب فاشي في أوكرانيا وغرب عازم على تدمير روسيا"، بحيث يكون الجميع متحدين بالذاكرة شبه المقدسة للنصر السوفياتي في الحرب العالمية الثانية، والتي استحوذت عليها الدولة (اي الذاكرة) لتشكيل هوية روسيا المنتصرة التي يجب أن تكون مستعدة لحمل السلاح مرة أخرى.

أكثر من ذلك، وعلى التلفزيون الحكومي الروسي ذاته ايضًا، كانت تلاوة قصة "أوكرانيا التي يسيطر عليها النازيون الجدد واستخدامها كنقطة انطلاق للعدوان الغربي" (والكلام هنا للتلفزيون) مُجازًا وشائعًا منذ الثورة الموالية للغرب في كييف في العام 2014.

ونتيجة لهذا الضخ الاعلامي الحربي المتواصل، أبدى بعض المحللين خشيتهم من أن الخطاب المتصاعد يرسي الأساس لما يمكن أن تصفه روسيا بتدخل دفاعي لحماية أمنها مع المتحدثين باللغة الروسية في أوكرانيا.

وللدلالة على هذا الأمر، قال يفغيني بوبوف، عضو البرلمان المنتخب حديثًا ومقدم برنامج سياسي شعبي على التلفزيون الحكومي، في مقابلة صحافية "أعتقد أن معظم الناس في روسيا لن يكونوا مؤيدين إلا إذا دافعنا عن الشعب الروسي الذي يعيش في هذه الأراضي" ، مشيرًا إلى المناطق الانفصالية في أوكرانيا حيث حصل مئات الآلاف على الجنسية الروسية.

والان لنستعرض وسائل التعبئة الاخرى.

لتنمية روح العسكرة بين مواطنيها، لجأت موسكو كذلك إلى ادوات ووسائل معتددة، للوصول الى غايتها، منها: اقامة المعارض، والعروض الفنية والثقافية وتنظيم المؤتمرات.

 لنبدأ بالمعارض، حيث افتتحت الكاتدرائية الكبرى للقوات المسلحة الروسية على بعد ساعة واحدة غربي موسكو العام الماضي. تميزت الكاتدرائية بمظهرها الخارجي العسكري ذي اللون الاخضر، فيما غطت ارضيتها بأسلحة ودبابات تم الاستيلاء عليها من الفيرماخت الألماني اي (القوات البرية الالمانية)، كما زُينت نوافذها الزجاجية الملونة المقوسة بشارات وميداليات علقت عليها.

 تقول نيويورك تايمز: في أحد أيام الأحد، امتلأت الكنيسة والمتحف والمنتزه المصاحب لها بالزوار. تقدمت مجموعة من طلاب الصف الخامس من مدرسة سوفوروف العسكرية في مدينة "تفير" الروسية، في خطين، وهم يرتدون زيهم الرسمي، قبل السير إلى المتحف. أوضح مدربهم أنه "من المهم بشكل أساسي للطلاب، في السنة الأولى من المدرسة العسكرية، التعرف على أسلافهم".

خارج أراضي الكنيسة، سار الزوار بين الخنادق المغطاة بالثلوج في محاكاة للخط الدفاعي الأمامي، ثم بعدها كانت المفاجأة. فتحت القبة الشاهقة للكنيسة، كان يمكن للأطفال الركوب في دبابات مصغرة وضعت في حلبة سباق سيارات صغيرة، في نسخة طبق الأصل عن دبابات القتال الحقيقية.

ماذا عن البرامج المخصصة للشباب؟

مؤخرًا، تجمع أكثر من 600 شخص في موسكو من جميع أنحاء روسيا، في منتدى برعاية الحكومة يهدف إلى تعزيز الروح الوطنية بين الشباب. وقد أشاد سيرجي كيرينكو، نائب رئيس أركان بوتين القوي، بالحضور لقيامهم "بعمل مقدس".

اثناء المؤتمر، تحدث اثنان من "متطوعي النصر" عن خططهم لتعليم طلاب المدارس الثانوية انتصار روسيا في الحرب العالمية الثانية في حدث إقليمي في الأسبوع التالي.

ما هي الوسائل الفنية والثقافية؟

 الحقيقة أن القناعة السائدة في المجتمع أن روسيا ليست معتدية، تعكس أيديولوجية جوهرية تعود إلى العهد السوفياتي، وهي أن الدولة تخوض حروبًا دفاعية فقط. حتى أن الحكومة خصصت أموالًا للأفلام التي تستكشف هذا الموضوع.
في نيسان الماضي، أصدرت وزارة الثقافة مرسوماً يقضي بأن "الانتصارات التاريخية لروسيا" و"مهمة حفظ السلام الروسية" كانت من بين الموضوعات ذات الأولوية لمنتجي الأفلام الذين يسعون للحصول على تمويل حكومي.
قال أنتون دولين، ناقد سينمائي روسي: "في الوقت الحالي، يتم الترويج لفكرة أن روسيا بلد محب للسلام محاط بشكل دائم بالأعداء". واضاف "تتناقض بعض الحقائق مع هذا، ولكن إذا عرضته في الأفلام وترجمته إلى زمن الحرب الوطنية العظمى، فسنحصل على الفور على مخطط مألوف للجميع منذ الطفولة."
 
المفارقة هنا، أنه بالرغم من هذا الجهد والابتكار، فإن فعالية رسائل الدولة العسكرية مطروحة للنقاش. تظهر استطلاعات الرأي أن الشباب لديهم وجهة نظر أكثر إيجابية عن الغرب من الروس الأكبر سنًا، ويبدو أن المشاعر المؤيدة للكرملين التي أثارها ضم شبه جزيرة القرم قد تبددت وسط الركود الاقتصادي.

ومع ذلك، يضاعف الكرملين من قوته، وذلك عبر زيادة "التعليم الوطني" وتمويل مجموعات مثل Vympel التي لديها حوالي 100 فرع في جميع أنحاء البلاد، وهي كانت قد  نظمت مسابقة المهارات الأخيرة في مدينة فلاديمير التي انتهت قبل اسبوعين.

 في المحصلة، في الوقت الذي تسعى فيه موسكو لتعبئة مواطنيها ضد التهديدات الغربية من حولها، فإننا في لبنان، ورغم وجود عدو يتربص بأرضه وشعبه، بكل لحظة كالعدو الصهيوني، هناك من يعمل ليل نهار، ويحيك المؤامرات للتخلص من أسباب القوة في هذا البلد (ونعني بها المقاومة طبعا)، ويحاول أن يمحو من ذاكرة اللبنانيين انتصاراتها وبطولاتها الاستثنائية (على الاحتلال الاسرائيلي) التي تضاهي انتصارات روسيا في حروبها العالمية، مع الفارق في القدرات والامكانات وحتى العنصر البشري.

اوكرانيا

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات