يوميات عدوان نيسان 1996

مقالات مختارة

الخليج و«لبنان الجديد»
01/11/2021

الخليج و«لبنان الجديد»

ابراهيم الأمين - صحيفة الأخبار

ما من ثقة حقيقية بين دول مجلس التعاون الخليجي. السعوديون ينظرون إلى بقيّة «الممالك» والإمارات والمشيخات على أنها جزء تمّ سلخه عن شبه الجزيرة عنوةً بفعل الاستعمار. وربما، لو كان هناك نظام عالم وعاقل وعادل في الرياض، لكان منطقياً وحّد كل الجزيرة العربية بما في ذلك اليمن. لكنّ الأمر يستحيل ذلك مع حكّام استولوا على الحكم بفعل القرصنة والقتل المستمر منذ عشرات السنين. لذلك لن يكون بينهم وبين جيرانهم سوى الخوف والشكّ وانعدام الثقة.

وحده سلطان عمان الوحيد يستمدّ من تاريخ بلاده وعلاقاتها مع الغرب والشرق وتركيبتها الاجتماعية ما يسمح له بأخذ مسافة نقدية من دون مواجهة. لذلك، لم يكن سلطان عمان يُغضب الرياض، ولم تكن السعودية تتصرّف على أنه «في الجيبة». صحيح أن الأمر تغيّر مع السلطان الجديد، ولكن ذلك ليس لأنه يحتاج إلى دعم مالي من السعودية فحسب، بل لأن الغرب أجبره على الابتعاد أكثر عن إيران وجيرانه قبالة بحر العرب.

في الإمارات، يعاني حكّامها الستة الأمرّين، ويتصرّفون على أنهم تحت احتلال آل زايد منذ غدر بهم زايد الأب وسيطر على رئاسة الاتحاد. وجاء الجيل الحالي من الأبناء ليفرض سيطرة أكثر شراسة، ويمنع أيّ تمايز في السلوك داخلياً وخارجياً، حتى صار ممنوعاً على أيّ شيخ استضافة أحد قبل استئذانهم. لكنّ أولاد زايد الذين يتقاسمون مواقع القرار في الدولة يدركون جيداً أن بقية شيوخ الإمارات، وعلى رأسهم محمد بن راشد، لا يخضعون لوصايتهم طوعاً، وهم يعرفون جيداً المواقف الفعلية لشيوخ دبي وعجمان والشارقة ورأس الخيمة وأمّ القيوين والفجيرة، وعبارة «حسبنا الله ونعم الوكيل» التي يهمسون بها لدى سؤالهم عن أحوالهم.
آل خليفة في البحرين، ما من داعٍ للتفصيل كثيراً في شأنهم. هؤلاء الذين يخشون انقطاع الطعام إن أُقفل جسر الملك فهد لساعتين فقط، لا يتصرّفون أساساً إلا كتابعين وحرس فرضهم الاستعمار البريطاني ثم الأميركي، مع فارق أنهم أوغلوا في قتل معارضيهم حتى وصل الأمر بهم إلى طلب انتشار الجيش السعودي فوق أراضيهم خشية غضب الناس عليهم.

أما الكويت فقد حرصت دائماً على التمايز عن السرب الخليجيّ. كثيرون يُرجعون ذلك ليس إلى الرياح الآتية من غربها، بل من شرقها، لأن العراقيين، بكل تلاوينهم الفكرية والاجتماعية، لا يرون الكويت خارج حدودهم. لكنّ حكام الكويت تغيّروا مع السنوات، وباتوا اليوم في خريف العمر. مواتٌ سياسيٌّ جعل الكويت منعزلة: شعور دائم بالخوف من عراق قويّ ومستقرّ، وخشية تمنع أي تطور مقارنة بما يجري في بقية دول الخليج.

القطريون جرّبوا التمرّد على سلطة آل سعود. بدأت حكايتهم بانتفاضة قبيلة سعودية تعيش في قطر. هم من أتباع المذهب الوهابي، ويخضعون لحكم عائلة انقلبت على نفسها، لكنّها لا تخالف رعاية الحاكم الفعلي الأميركي. ينالون دعمه ويلبّون مطالبه ويمنحونه نصف ثرواتهم ويقيمون علاقات مع من يرغب بدءاً بإسرائيل. وهم حاضرون دوماً لدور الوسيط وناقل الرسائل مع كل خصوم أميركا، من حكومات ودول وأحزاب، بما في ذلك من تعتبرهم واشنطن إرهابيي العصر... وكل ذلك مقابل حصانة عدم إخضاعهم للسعودية. لكنّها حصانة غير مطلقة. فقطر مضطرّة، بين وقت وآخر، للعودة إلى الحضن السعودي، حتى ولو كان حكامها يعرفون أن آل سعود لا يثقون بهم.
هذه هي حال دول مجلس التعاون الخليجي منذ زمن. ما تبدّل هو انعقاد لواء الحكم لمحمد بن سلمان الذي يصفه سعد الجبري بـ«المختلّ» الذي يملك مقدّرات هائلة والمهووس بقتل كل خصومه. وهو يعطي درساً تلو آخر في كيفية الإمساك بمفاصل الدولة كاملة، وفي معاقبة كل من يخالف طاعته.

لكنّ الأمر لم يعد ينحصر فقط في الحدود الجغرافية لممالك وإمارات القهر والموت. بل تعدّاه ليشمل كل منطقة تصلها يد هؤلاء، من المغرب العربي وغرب أفريقيا، إلى مصر والسودان والقرن الأفريقي، ومن باكستان وأفغانستان وما بينهما وصولاً إلى العراق والأردن وسوريا ولبنان. أما فلسطين، فليست على خريطة هؤلاء، سوى على ورقة الإعانات الجانبية التي تقرر أميركا وقتها وحجمها وهدفها.
كان الأمر يسير على نحو مقبول لدى الجميع إلى أن قامت ثورة الإمام الخميني في إيران. حاول الخليجيون إنتاج تسوية تشبه ما كانوا يقومون به مع شاه إيران. لكنّ جدول أعمال طهران بدعم قوى المقاومة والتحرّر، والموقف الإسرائيلي – الأميركي – الغربي منها، جعل دول الخليج تنتقل إلى موقع آخر. موّل أمراء القهر الحرب المجنونة بين العراق وإيران، وقادوا أكبر عملية احتواء لنخب وقيادات وحكومات في العالم العربي، ونشطوا لزرع فكر وهابي تكفيري في كل مكان يصلون إليه، ومارسوا كل أشكال القمع ضد من يعارضهم، وبقوا كذلك حتى خرجت من جنوب الجزيرة، ومن بلاد اليمن الواسعة، ثُلّة من الشباب الذين قرّروا الانتفاضة على حكم القُساة فتغيّر المشهد برمّته.
لم يكن علي عبدالله صالح قادراً على تلبية طلبات ولي العهد الراحل سلطان بن عبد العزيز. حاول مراراً قمع حركة أنصار الله. شنّ حروباً لا تقلّ قساوة عما يفعله آل سعود اليوم. لكنّه فشل، بل وتراجع نفوذه إلى حدّ سقوط حكمه ثم حزبه ثم سقوطه شخصياً. أكثر من ذلك، صُدم السعوديون بأن القبائل اليمنية التي عملوا لسنوات طويلة على تدجينها وشراء ذمم قياداتها، انتقلت إلى موقع جديد. صار اليمن مختلفاً. حتى أهل الجنوب الذين يكرهون الشماليين ولا يحبون الحوثيين، تعرف السعودية جيداً أنهم، في قرارة أنفسهم، لا يطيقون سماع اسمها. لكنّ الدبّ الداشر صدّق الأفلام التسويقية عن قواته وقدراته وعن قدرة العالم على نجدته في ثوانٍ. ومثله فعل المغامرون من أبناء زايد. لم يكن هؤلاء ينتظرون رأي البحرين والكويت، وسارت معهم قطر قبل أن تبتعد بفعل حسابات معقّدة بعضها يرتبط بعدم احترام السعودية والإمارات لها ولقيادتها، وبعضها الآخر بالوهم «الإمبراطوري» الذي جعل حكام قطر يعتقدون بأن شاشة صغيرة تجعل من الفأر فيلاً. تاهت قطر بين انضمام قسري إلى تحالف يشنّ أبشع حرب قذرة عرفها القرن الحالي ضد شعب أعزل، وبين الانسحاب مطرودة لعدم الثقة بها، وصولاً إلى اللعب على الحبال في دعم الحوثيين من جهة، ومحاولة جذب حزب الإصلاح، وتمويل معارضي الإمارات في جنوب اليمن، والسعي إلى لعب دور الوسيط. لكنّ الدوحة، في حقيقة الأمر، لم تكن بعيدة عن أصل فكرة السيطرة والنفوذ، تماماً كما فعلت في مصر وتونس، وكما صرفت، ولا تزال، مليارات الدولارات لتمويل عمليات القتل الوحشية في سوريا.
اليوم، يقف حكام ممالك القهر وإمارات الموت أمام المرآة. ربما هي المرة الأولى التي يشاهدون فيها أنفسهم على حقيقتهم: مجرّد مجانين يلعبون بالدم والنار. ويعتقدون أن ما من قدرة لدى أحد للتمرّد عليهم والتحرّر من سيطرتهم. مع ذلك، لا يزالون يعتقدون بأن المال قادر على صنع المعجزات. وعندما غضب ابن سلمان وأبناء زايد من حلفائهم في لبنان وسوريا، سألوا: أنفقنا عشرات أضعاف ما صرفته إيران على جماعتها في لبنان واليمن وسوريا والعراق وفلسطين. فلماذا لا يأتينا الحصاد نفسه؟
يعرف هؤلاء أن الجواب في مكان آخر، وأن أشخاصاً كحمد الشامسي وثامر السبهان ووليد البخاري ممن يمسكون بأعناق أحزاب وجهات وشخصيات وعائلات في لبنان يدركون بأنه لا يوجد ألف رجل في لبنان قادرون على ملاقاتهم في منتصف الطريق... حتى سمير جعجع الذي يراهنون عليه يعرفون جيداً أحواله بعد مجزرة الطيونة، ورأوا ما نطقت به عيناه، لا ما تردّده شاشاتهم وأبواقهم ليلَ نهارَ عن «البطل الذي قهر حسن نصرالله»...وهم غير قادرين على إحياء شيوخ جدد لا في خلدة ولا في زحلة، ويبحثون عن مغامر في صيدا أو الشمال بعدما هرب سعد الحريري منهم ومن مجانينهم في بيروت، ولم يعد بيدهم، أو بيد الغرب، من حيلة سوى محاولة زجّ الجيش اللبناني مباشرة في مواجهة مع المقاومة، وهو ليس في قدرته ذلك. فماذا تراهم يفعلون؟

ليس عندهم سوى قرار الرحيل وترك الخراب خلفهم. تماماً كما تفعل أميركا في كل مكان تدخله وتخرج منه مهزومة. يفترض آل سعود أن في زعلهم عقاباً لا نقدر على تحمّله. لكنّ المشكلة ليست فيهم فقط، بل في لبنانيين يتوهّمون بأن السعودية تريد لبنان غير ما كان عليه «لبنان القديم». ومشكلتهم هذه المرة ليست في قلة أعداد المرتزقة الذين يلهثون خلف فتاتهم، بل في أن من يرون فيه خصماً وعدواً ليس بحاجة إلى مكرماتهم، ويخشون يده الطويلة. وهم إذ يُلقون اليوم الحجارة على لبنان، تهتزّ قلوبهم جراء ما يصلهم من أخبار اليمن، فلا أحدَ قادرٌ على منع سقوط مأرب، وبعدها صافر وصولاً إلى الوديعة في الشمال الشرقي، والحديدة وباب المندب في الجنوب الغربي. وهم، أيضاً، يعرفون جيداً أن في اليمن جيلاً جديداً سيمسك عُباب الماء من بحر عُمان إلى البحر الأحمر، وسيستعيد حقوقه المسلوبة في جيزان ونجران وعسير... وهو جيل لا يُخيفه الحصار أو الموت ولا كلّ أنواع المناشير...

الخليجابراهيم الامين

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة