يوميات عدوان نيسان 1996

خاص العهد

04/10/2021

"حرب لقاحات الأطفال" الأميركية على فنزويلا: العالم يتفرج

د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي

هل قلتم حقوق الطفل؟ حسنًا، لنقرأ ما ورد في اتفاقية حقوق الطفل التي تم التصديق عليها من قبل أغلبية دول العالم خصوصًا أوروبا (التي ترفع لواء الانسانية وحقوق الانسان) بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 44/25 المؤرخ في 20 تشرين الثاني 1989، وجرى البدء بتنفيذها في 2 أيلول 1990.

تنص الفقرة الأولى من المادة 24 في الاتفاقية، على الآتي: "تعترف الدول الأطراف بحق الطفل في التمتع بأعلى مستوى صحي يمكن بلوغه وبحقه في مرافق علاج الأمراض وإعادة التأهيل الصحي. وتبذل قصارى جهدها لتضمن أن لا يحرم أي طفل من حقه في الحصول على خدمات الرعاية الصحية هذه". فيما تقول الفقرة الثانية من المادة ذاتها: "تتابع الدول الأطراف إعمال هذا الحق كاملا وتتخذ، بوجه خاص، التدابير المناسبة من أجل:
أ) خفض وفيات الرضع والأطفال.
ب) كفالة توفير المساعدة الطبية والرعاية الصحية اللازمتين لجميع الأطفال مع التشديد على تطوير الرعاية الصحية الأولية.
ج) مكافحة الأمراض وسوء التغذية حتى في إطار الرعاية الصحية الأولية".

 في حين تحضّ الفقرة الرابعة، الدول الأطراف على أن تتعهد بتعزيز وتشجيع التعاون الدولي من أجل التوصل بشكل تدريجي إلى الإعمال الكامل للحق المعترف به في هذه المادة. وتراعي بصفة خاصة احتياجات البلدان النامية في هذا الصدد.

إلى هنا يبدو الكلام جميلًا يبعث على الأمل، غير أنه إذا ما أسقطناه على الوضع الدولي الحالي المَعيش، نجد واقعًا مناقضًا كليًا أحيانًا لما هو منصوص عليه في هذه الاتفاقية وغيرها، وتحديدًا ما ورد في الفقرة الرابعة (لجهة تكاتف الدول)، حيث الكلمة العُليا الآن، للسيّد الاميركي الذي يتحكّم بمفاصل القرار المالي الدولي، فلا تجرؤ أي دولة مهما علا شأنها ومكانتها، على التمردّ على أوامره أو مخالفة رغباته وقوانينه الخاصة، أو الخروج عن طوعه (حتى لو كان بلد ما، على شفير كارثة صحية كفنزويلا كما سنرى في الأسفل)، خوفًا من سيف العقوبات الأميركية المُصلت على رقبة الدول والشعوب، والذي أصبح بمثابة القانون الدولي الأعلى والأوحد، النافذ على امتداد مساحة الكرة الأرضية، يتقدم ويسمو على اية معاهدة أو اتفاقية أممية، بما فيها (حقوق الطفل)، ويحولها الى مجرد عبارات ومصطلحات نظرية، فاقدة لأي قيمة انسانية أو أخلاقية لا تجد طريقها للتطبيق، تصلح، فقط، لأن تكون قصائد أو مواضيع انشائية ارشادية مدرسية، تُلقى على المنابر أو تستخدم في المسابقات الدولية.
 
وحتى لا نُتهم بالمبالغة أو التجنيّ، فلنتعرّف على "حرب لقاحات الأطفال" التي تشنها الولايات المتحدة (بالمناسبة أميركا ربما الدولة الوحيدة في العالم التي لم تصادق على هذه الاتفاقية لغاية الآن) بشكل غير مباشر على فنزويلا، عبر أداوتها (وهذه المرة، كانت إحدى المؤسسات المالية برتغالية) التي أخذت على عاتقها تولي هذه المهمة الشيطانية، وهو ما أظهر قادتها على صورتهم الحقيقة كمتعهدي موت، لا تأخذهم رحمة أو رأفة حتى بأطفال لا ذنب لهم، سوى أن وجدوا أنفسهم في بلد وضعتها الجغرافية السياسية على مقربة من أميركا، حيث لم تتورع واشنطن حتى عن حرمانهم من اللقاحات الضرورية، لإبعاد شبح الموت عنهم، أو لدرء خطر اصابتهم بأمراض مزمنة، بهدف الاطاحة برئيسهم.
 
تبدأ القصة، بتعليق مصرف نوفو بانكو البرتغالي Novo Banco طلبًا بقيمة 12.7 مليون دولار من الأدوية والمستلزمات الطبية الهامة ـ كان وضعه بنك التنمية الفنزويلي مع منظمة الصحة للبلدان الأميركية ـ لأكثر من شهرين، كنتيجة غير مباشرة للعقوبات الأميركية. يغطي الطلب الذي جمّده المصرف البرتغالي، أكثر من 30 مليون حُقنة تتضمن: 6 ملايين لقاح ضد الحصبة، والنكاف، والحصبة الألمانية، 5.5 مليون لقاح ضد (الخانوق) والتيتانوس (الكزاز)، مليوني لقاح ضد شلل الأطفال، ومليون لقاح ضد الحمى الصفراء، إضافة الى ملايين اللقاحات الأخرى المختلفة.

"حرب لقاحات الأطفال" الأميركية على فنزويلا: العالم يتفرج

 هذه العرقلة المتعمدة، تأتي في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أزمة اقتصادية خانقة، حيث تعمل حكومة كراكاس على مكافحة التصاعد الملحوظ في الأمراض التي يمكن الوقاية منها باللقاحات خصوصًا الخانوق والحصبة.

 واشنطن التزمت الصمت، إذ رفض متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية التعليق على هذه القضية. ورغم وعود ادارة الرئيس الاميركي جو بادين، بالقطع مع سلفه ترامب في كثير من القضايا والسياسات، إلا أنه حتى الآن، تجنبت ادارته الدعوات لتغيير نهج عهد ترامب تجاه فنزويلا بشكل كبير.

على الدوام تفعل أميركا الشيء ونقيضه، فبعد أن شددت إدارة ترامب العقوبات كجزء مما يسمى بسياسة الضغط الأقصى ضد عهد الرئيس نيكولاس مادورو في اب 2019، أصدر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في الوقت ذاته، توجيهًا، أكد فيه أن "تدفق السلع والخدمات الإنسانية إلى الشعب الفنزويلي ليس محظورًا بموجب العقوبات الأمريكية".

عمليًا، تُلقي القيود التي تم تشديدها في ظل إدارة ترامب وأبقى عليها الرئيس جو بايدن، بثقلها على البنوك والمؤسسات المالية، حتى تلك التي تعمل خارج حدود الولايات المتحدة. حيث تتخطى المؤسسات المالية أحيانًا ما هو مطلوب قانونيًا (وتصبح ملكية اكثر من الملك نفسه)، وتتجنب السماح بمعاملات معينة بدافع الحذر الشديد أو الخوف من المخاطرة بفرض عقوبات كبيرة.

ليس هذا فحسب، أجادت واشنطن، وبشكل متقن ومحترف لعبة التضليل لتجنب الانتقادات التي كانت توجه لها بشأن عقوباتها الشاملة ضد فنزويلا، إذ غالبًا ما تشير الحكومة الأميركية إلى الإعفاءات الإنسانية الواسعة المعمول بها، والتي تقول إنها تسمح بالتدفق الحر للأغذية والأدوية إلى المحتاجين.

وعلى المنوال ذاته، أكد مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة - أو مكتب مراقبة الأصول الأجنبية، الوكالة التي تشرف على إنفاذ العقوبات - أن القيود المختلفة المفروضة على ممارسة الأعمال التجارية في فنزويلا لا تمنع المدنيين من الوصول إلى الغذاء والدواء اللذين هم في أمس الحاجة إليهما.

هذه التصريحات والبيانات الأميركية، يدحضها استمرار تعليق الشحنات الطبية لأطفال فنزويلا، ويؤكد حجم الكذب والخداع الذي تمارسه أميركا، ويفضح تصرفاتها وأفعالها اللاإنسانية التي طبعت سياستها تجاه أكثر من دولة ومنطقة في العالم. ومن منّا لا يذكر العقاب الجماعي الذي فرضته على الشعب العراقي بعد احتلال صدام حسين للكويت، وأدى إلى وفاة أكثر من مليون ونصف من العراقيين، بينهم نحو نصف مليون طفل (بحسب تقديرات منظمات الاغاثة الدولية)، وحرمت العراقيين لأكثر من عقد من الزمن الحصول على حاجاتهم من الغذاء والدواء؟

بلغة الوثائق التي تمت مشاركتها مع  صحيفة "ذا إنترسبت الاميركية"، رفض "نوفو بانكو" الذي يتخذ من لشبونة مقرًا له، الموافقة على نقل المبلغ المطلوب للقاحات، إلى منظمة الصحة للبلدان الأمريكية، وهي وكالة للصحة العامة التابعة لمنظمة الصحة العالمية. لم يردّ المصرف على طلب للتعليق الذي وجهته الصحيفة له. جاءت الاصوات المنتقدة التي صدرت من داخل البرلمان الأوروبي، لتؤكد إن الصفقة المتوقفة هي دليل على المدى الواسع والآثار السلبية للعقوبات الأمريكية ضد فنزويلا.

يُعد تأخير "نوفو بانكو"،  جزءًا من صراع أكبر بكثير بين البنك والحكومة الفنزويلية. بدءًا من أوائل عام 2019، بعد أن أعلن النائب المعارض خوان غوايدو نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد وحصل سريعًا على اعتراف من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، جمدت المؤسسات المالية في جميع أنحاء أوروبا الأصول المملوكة لحكومة نيكولاس مادورو أو المرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا. وقد شملت هذه الكيانات شركة النفط التي تديرها الدولة في فنزويلا، وبنك التنمية العام المعروف باسم "باندز" Bandes.

يقدر المبلغ الاجمالي العائد لفنزويلا في مصرف نوفو بانكو، بحوالي 1.7 مليار دولار. أنشئ المصرف في عام 2014 خلال الأزمة المالية الأخيرة في البرتغال. تعود ربع ملكيته إلى صندوق ريزوليوشن في البرتغال، وهو صندوق خاص مدعوم من الدولة للمساعدة في استقرار البنوك. أما الأرباع الثلاثة الأخرى فمملوكة لشركة الأسهم الخاصة الأمريكية لون ستار.

ورغم أن الاتحاد الأوروبي لم يعد يعترف بزعيم المعارضة خوان غوايدو رئيسًا لفنزويلا منذ كانون الثاني 2021، إلا أن المأزق استمر في "نوفو بانكو". ووفقًا لحكم صدر في تموز الماضي، عن أحد قضاة لشبونة، فإن البنك مخول صراحة بالموافقة على المعاملات من "باندز"، طالما أنها تحصل على موافقة القاضي مسبقا. وهو ما كان بنك التنمية الفنزويلي قد فعله هذا الصيف.

 من جديد، وفي 22 تموز الماضي، طلب "باندز" الموافقة من "نوفو بانكو" لإرسال الطلبية ذاتها والمقدرة  بقيمة 12.7 مليون دولار تقريبًا إلى منظمة الصحة للبلدان الأمريكية. ولتقليل المخاوف من انتهاك العقوبات الأميركية وزيادة فرص الحصول على الضوء الأخضر من القاضي، اقترح "باندز" إجراء التحويل بالريال البرازيلي وإيداع الأموال مباشرة في حساب منظمة الصحة للبلدان الأمريكية في برازيليا، مرفقا بمعلومات حول الأدوية والإمدادات المعنية.

 ومع ذلك، بالرغم من مرور شهرين، لم يعط نوفو بانكو موافقته. وفي 15 أيلول، أرسل رئيس "بانديس" هيكتور أندريس أوبريغون بيريز رسالة متابعة إلى الرئيس التنفيذي لشركة "نوفو بانكو" أنطونيو رامالهو، حثه فيها على المضي قدما في الصفقة"، مشيرا إلى أن الدفع "عاجل ولأسباب إنسانية".

أثار تقاعس "نوفو بانكو" عن العمل، انتقادات خارج فنزويلا. أوروبا العاجزة، إلا عن الكلام فقط، لم ترق ردة فعلها الى مستوى هول المأساة التي ستتسبب بها العقوبات الأميركية لأطفال فنزويلا، فاقتصر تحركها الباهت على تخطيط مجموعة من 24 عضوًا في البرلمان الأوروبي لإصدار رسالة يوم الخميس المقبل 7 تشرين الاول 2021، تدعو المصرف البرتغالي إلى المضي قدمًا في الطلب الفنزويلي للأدوية.

الرسالة ــ التي لا تسمن ولا تغني عن لقاح، وتمت مشاركتها قبل اصدارها مع صحيفة "ذا انترسبت" Intercept  ــ  تجادل بأنه "لا توجد عقبة قانونية أو خارجة عن القانون من شأنها أن تمنع بنكًا برتغاليًا من تحويل أموال Bandes الخاصة بالريال البرازيلي مباشرةً إلى حساب مصرفي برازيلي من أجل الدفع للإمدادات الإنسانية".

أقصى ما فعلته مجموعة البرلمانيين هذه، هو الاعراب عن أسفها، لأن "البنوك الأوروبية لا تزال ملتزمة أكثر من اللازم" بالعقوبات الأمريكية ضد فنزويلا على الرغم من الجهود المبذولة "لتوضيح أن المساعدات الإنسانية مسموح بها تمامًا وحتى مرغوبة".

 وتعليقًا على هذه القضية، قال جيمس شنايدر مدير الاتصالات في منظمة بروجريسيف إنترناشونال "المنظمة الدولية التقدمية" (منظمة دولية توحد وتعبئ النشطاء والمنظمات اليسارية التقدمية) لصحيفة إنترسبت، إن قضية نوفو بانكو توضح: العقوبات تقتل. الرئيس جو بايدن ومجموعة السبع يحبون التحدث عن الحاجة إلى التضامن "في مواجهة جائحة عالمية. ومع ذلك، فإن سياساتهم الاقتصادية تمنع بلدانًا بأكملها من الوصول إلى الأدوية الأساسية المنقذة للحياة وتحمي أرباح شركات الأدوية قبل حياة الأشخاص الذين يموتون يوميًا بسبب Covid-19 وأمراض أخرى".

 معاناة كراكاس مع الولايات المتحدة وعقوباتها التي شملت القطاع الصحي في هذا البلد، ليست بجديدة، إذ سبق وان ألقت الحكومة الفنزويلية باللوم على العقوبات الأمريكية في إعاقة قدرتها على الوصول إلى لقاحات Covid-19 من خلال COVAX، وهي مبادرة عالمية لمشاركة اللقاحات تدعمها منظمة الصحة العالمية. (في ذلك الوقت، رفضت وزارة الخارجية الاميركية فكرة أنها تتحمل أي مسؤولية). وبعد طول مماطلة، تلقت فنزويلا أخيرًا شحنتها الأولى عبر COVAX في ايلول الماضي، وكانت آخر دولة في أميركا الجنوبية تحصل عليها.

ولكن ماذا عن موقف الأمم المتحدة؟

 التحرك الأممي كما هو متوقع جاء دون المطلوب. جُلّ ما قامت به ألينا دوهان، مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بالتدابير القسرية الأحادية وحقوق الإنسان، هو ارسالها، في تموز الفائت، خطابًا إلى البنك جنبًا إلى جنب مع مسؤولين آخرين في الأمم المتحدة انتقدوا فيه وجود "زيادة في الامتثال وسياسات عدم المخاطرة". وذكّرت دوهان ايضا، المصرف البرتغالي بأن "الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي يحظر عليهم الامتثال للعقوبات الأمريكية"

وكانت دوهان قد أصدرت في شباط الماضي، تقريرًا أوليًا عن آثار العقوبات الأجنبية على فنزويلا، ووصفت الاستثناءات الإنسانية الحالية بأنها "غير فعالة" وجادلت بأن "الأثر المدمر" للعقوبات "يتضاعف بسبب تجاوز الحدود الإقليمية والإفراط في الامتثال. وبينما تحتدم النقاشات حول من يتحمل المسؤولية، لا تزال الصورة الاقتصادية والصحية العامة الأوسع في فنزويلا قاتمة. فهناك أكثر من 5 ملايين شخص فروا من البلاد في السنوات الأخيرة، استنادًا للمفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وبحسب وكالة USAID التابعة للحكومة الأميركية، يحتاج 7 ملايين فنزويلي إلى مساعدة إنسانية.

 والى أن تتم ترجمة البيان الثلاثي المشترك الذي صدر في حزيران عن كلّ من الاتحاد الأوروبي وكندا واميركا، والذي أكد أن "الولايات المتحدة ستدرس تخفيف العقوبات على فنزويلا إذا تم إحراز تقدم ملموس في المحادثات بين شخصيات المعارضة والحكومة"، ينتظر أطفال فنزويلا من الدول التي تسمي نفسها "بالعالم الحُرّ"، انقاذهم من براثن العقوبات الأميركية، فهم قطعا لن يحيوا بالبيانات، بل باللقاحات.

فنزويلالقاح كورونا

إقرأ المزيد في: خاص العهد

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة