طوفان الأقصى

خاص العهد

رحلة
24/05/2021

رحلة "الضيعة" قبل التحرير‎.. كابوس المعبر واللحديين

ليلى عماشا

حتى تاريخ ٢٢ أيار ٢٠٠٠، لم يكن قرار الذهاب إلى "الضيعة" ولو لظروف طارئة قرارًا بسيطًا. بالنسبة للكثيرين كان اتخاذ قرار كهذا يتطلّب الكثير من التفكير والقلق والمخاطرة أيضًا، وكان بالنسبة للبعض مستحيلًا إذ لم يكن متاحًا للجميع، ولا سيّما ممّن يعرفون أن أسماءهم مكتوبة على "المعبر" في قائمة المطلوبين.

ولأنّ المعبر يفتح ويقفل وفقًا لمزاج اللحديين وأوامر الصهاينة المباشرة، وإن فُتح فلساعات قليلة بأفضل الأحوال، كانت الرحلة إلى قرية في الشريط الحدودي تأخذ روتينًا خاصًا قد يجده من لم يختبره ولو لمرة غريبًا.

كان أهالي الشريط الحدودي المحتلّ المهجرين إلى بيروت والمناطق، أو الذين اتخذوا قرار الاستقرار بعيدًا عن سطوة الاحتلال وكل مستتبعاتها، يعانون الأمرّين إذا أرادوا لأي سبب كان زيارة القرى المحتلّة. إليكم التفاصيل، التفاصيل العالقة في الذهن بشكل يتيح لها أن تُستعاد في كلّ مرة تزور فيها القرى المحرّرة وتجد نفسك تكرّر "هون كان المعبر"!

في الصباح الباكر، الباكر جدًا، سيحضر لاصطحابك أحد أصحاب السيارات التي اعتادت نقل الناس من بيروت والمناطق إلى القرى المحتلة ومنها. في كل قرية كان هناك شخصان أو ثلاثة معروفون وعليك التواصل مع أحدهم لتتفق معه على المرور بك في يوم محدّد. ولأن الهاتف المحمول لم يكن رائجًا بعد، كان الأمر يتطلّب أن تنتظر في يوم سابق لرحلتك السائق في محطة سيمرّ بها لتخبره بنيّتك الذهاب، فيجيبك إن كان في سيارته مكان لك، وبموعد الانطلاق.

رحلة "الضيعة" قبل التحرير‎.. كابوس المعبر واللحديين

في الصباح الباكر، تأتي السيارة التي قد يتكدّس بداخلها ٦ أو ٧ ركّاب وجميعهم وجهتهم "الضيعة"، وقبل الضيعة المعبر.

القلق نفسه يساور جميع الركاب. يتقاسمونه برهة بشكل ضمني فيتحدثون بحذر شديد في العموميات وأحوال الحياة وربّما حول ذاكرة مشتركة سبقت الاحتلال أو "النزوح"، ثم يستعيد كلّ منهم حمولة القلق كلّها التي كانت بحوزته منذ الليلة السابقة، ويغرق شرودًا يشتد عمقًا وحزنًا وربّما توتّرًا كلما اقترب الطريق من "المعبر".

 *على المعبر*

صفّ طويل من السيارات الصامتة تنتظر إذن العبور وفتح البوابة. وإبداء التململ أو الانزعاج من الوقوف الطويل غير المبرّر كان مخاطرة قد لا تنتهي بمجرد صراخ اللحديين واقترابهم بكامل عتادهم وسفالتهم لتهديد سائق السيارة ومن معه. فقد ينتهي الأمر بمنع عبور السيارة والطلب إلى سائقها المغادرة بعيدًا، أو حتّى اعتقاله!

قد يقرّر لحديّ في أي وقت أن يطلق النار في الهواء ترهيبًا أو على سبيل التسلية. وقد يمرّ مسؤول المعبر متبخترًا بين السيارات مهدّدًا ومزمجرًا وهازئًا بالمنتظرين كي يستعرض قوة استقاها من الاحتلال، متناسيًا أنّه كيس رمل في دشمة العدو، ليس أكثر.

صوت يعلو في أول القافلة.. فتحت. يسارع السائقون مستبشرين إلى تشغيل محرّكات سياراتهم ليتقدّموا ببطء صوب البوابة. بطء يرافقه تسارع في نبضات قلوب الركاب، وغضب يكتمه ألف سبب ومنها "خلّي هالمرقة تمرق عخير".

بعد البوابة الأولى، تقف السيارات في أماكن مخصّصة كي ينزل الركاب ويمرّوا بما يشبه المكاتب لتسجيل العبور، ويتضمن التسجيل هذا أحيانًا تحقيقًا سريعًا يتضمّن حتمًا سؤال الراكب عن سبب مجيئه ومدّة بقائه المتوقعة وحتمًا عن مكان سكنه وعمله خارج المنطقة الخ. أمنا بالنسبة للمقيمين الذين اضطروا للمغادرة وعادوا، فالأسئلة أكثر تعقيدًا بقليل: لماذا ذهبت وماذا فعلت ولماذا عدت، وقد تصل إلى "بمن التقيت" وأين أقمت وغيرها. أما بحال كان "العابر" مثيرًا لشكوك اللحديين، فقد يتعقّد الأمر أكثر، فيطلب إليه البقاء "قليلًا"، ويتم إخبار السائق أن يكمل الطريق بدونه.

ما إن ينهي جميع ركاب السيارة إجراءات الدخول، يعودون إلى السيارة محاولين تذكر طريقة جلوسهم التي كانت قبل النزول وجعلت المقعد المخصص لثلاثة ركاب متسعًا لخمسة أو لستة أشخاص مثلًا. يكتمل العدد في السيارة، ويكمل السائق الرحلة لتوزيع الركاب على بيوتهم داخل القرى.

تصل بيتك.. وعلى وقع استقبال الأهل والحمد على وصولك سالمًا، سيذكّرونك بأن تخفض صوتك ولو داخل البيت إذا تحدّثت عن المعبر، عن بيروت، عن أصدقائك والجيران.. سينبهونك مرارًا كي تتجنّب أي حديث ذي طابع خاص أمام الضيوف إذا أتوا، وسيخبرونك همسًا عن مصائب حدثت لأناس تعرفهم.. فلان اعتقلوه.. فلان "أخذوه عالإجباري".. فلان صار عميلًا مع تمتمة لا تميّز إن كانت شتمًا أو تحسّرًا على أهله الذين لا يستحقون عارًا كهذا.. وستجد في كلّ حديث مهما بدا عاديًا الكثير من الحذر حتى تكاد تختنق.. هذا الاختناق كان الحال الطبيعية في ظلّ الاحتلال. ويزداد سوءًا عند مرور دورية "لحدية" بالقرب من منزلك، أو ما إن يصل خبر اعتقال طازج إلى مسمعك، أو بمرور عميل من بعيد ويخبرك بنظراته أنّه الحاكم هنا، وأنّك لا تستطيع أن تمنعه عن أي شيء يحلو له أن يفعله، ستكتم غضبك صابرًا، مدركًا أن عليك تجنّب أي حديث معه.

يقترب النهار من نهايته. لن يمرّ ببالك احتمال أن تسهر خارج بيتك، عند جار أو صديق، فاللحديون لا يستسيغون التنقل ليلًا داخل القرى وقد يجدون في ذلك تخطيًا لسلطتهم. ستفضّل حتمًا البقاء في بيتكم، لتشاهد محطات التلفزة التي بغالبيتها "صهيونية" وكانت إحداها ناطقة باللغة العربية -ما أكثرها اليوم-. ستجد أن الصمت هو أفضل وسيلة كي لا تؤذي من حولك، وأن عليك أن تخزّن في ذاكرتك كلّ ما تراه مؤونة ليوم آتٍ مهما بدا بعيدًا. وكي تمضي بقيّة وقتك في "الضيعة" بدون مصائب سيتلذذ اللحديون أو الصهاينة بارتكابها بأيامك.. وكي تستطيع الاستحصال على "تصريح" بالمغادرة بدون مشاكل، تلك الورقة الصغيرة التي كانت تُعتبر إذن خروجك من المنطقة المحتلة والتي تخضع بدورها لمزاج العملاء ولأنماطهم في التعاطي مع الأهالي، والتي يُعتبر منع استحصالك عليها مؤشرًا إلى احتمال أن تكون المعتقل التالي..

كلّ ما سبق ذكره كان عيّنة ضئيلة وشبه عادية وخالية من الأحداث الاستثنائية.. هذه العينة بكلّ ما فيها من قهر متواصل لم يرد فيها اعتقال مفاجىء ولا اعتداء مباشر ولا دخول مباغت للحديين إلى داخل بيتك ولا استدعاء غريب لك إلى "مركز الأمن".. عيّنة خالية من الأمور التي كانت تحدث في كلّ يوم مع أحد ما في داخل الشريط المحتلّ، والمرشحة للحدوث في كلّ لحظة مع أي أحد من أبناء المنطقة.. هذا القهر كان نمط الحياة العادية التي اضطر الجنوبيون إلى العيش فيه سنين طوالًا قبل أن يتمّ التحرير عام ٢٠٠٠ بسواعد المقاومين، بدمهم وأرواحهم..
ولذلك، ولو مرّ ألف عام، لا يمكن لذاكرة الجنوب أن تنسى يوم التحرير، وأن لا ترى فيه أولًا المعبر التاريخي بين أمس مجرّح بالإحتلال وحاضر مزيّن بالحرية، وثانيًا الممرّ الجميل الذي يؤدي حتمًا إلى تحرير كامل الأرض المحتلة، والشرفة التي نقف عليها ناظرين إلى المدى ومردّدين: وغدًا فلسطين.

عيد المقاومة والتحرير

إقرأ المزيد في: خاص العهد