طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

لماذ استطالت أزمة الفراغ الحكومي؟
01/05/2021

لماذ استطالت أزمة الفراغ الحكومي؟

ابرهيم صالح

نحو عشرة أشهر على الانفجار الكارثي المدوي في مرفأ بيروت ونحو ثمانية أشهر على تكليف الرئيس سعد الحريري تأليف الحكومة، ومع الأمرين المبادرة الفرنسية مدعومة بضغوط باريس الاستثنائية على لبنان مشفوعة بأفكار ومحاولات من أطراف داخليين ومواكبة مع تدخلات ووساطات مصرية وروسية وقطرية. ومع كل ذلك فإن الفراغ الحكومي مقيم بعناد، وعلى ضفافه تنمو أزمات الإنسان اللبناني وتكبر على صدر الأيام بلا هوادة ولا رحمة.

في سياق تقاذف كرة المسؤولية بين طرفي التأليف المباشرين أي الرئاسة الأولى والرئيس المكلف يسند كل منهما ظهره الى مواد دستورية تتناول حدود صلاحيات كل منهما في عملية التأليف وإصدار مراسيم الحكومة. وبناء عليه يدور بضراوة السجال بين فقهاء الدستور ولا يمكن تاليًا وجود من يمتلك حق الإفتاء وقول حكم الفصل، اذ إن تلك المواد الدستورية التي ترعى هذه العملية ظلت منذ سريان دستور ما بعد الطائف مبهمة وملتبسة بل بقيت ثغرة أباحت للرئيس المكلف أخذ وقته حتى ولو استمرت المسألة أسابيع وشهورًا وربما سنوات (الرئيس تمام سلام احتاج ما يقرب من 11 شهرًا ليطلق مراسيم حكومته) وأجازت تاليًا لرئيس الجمهورية ردًا متكررًا للتشكيلات المقدمة له طالبًا التعديل بذريعة عدم مراعتها مواصفات عدالة التمثيل. فإذا كان لا ذريعة قانونية تسمح لرئيس الجمهورية بسحب التكليف من الرئيس المكلف، فإنه لا سند قانونيا يجبر رئيس الجمهورية على التوقيع على مراسيم التشكيلة المقدمة له لكي تبصر الحكومة النور.

  اذًا السجال والجدال يبدو عقيمًا وبلا نهاية، وهو ما يفتح المجال أمام أزمة الفراغ الحكومي لتظل أمرًا واقعًا مقيمًا الى ما شاء الله، أو إلى أن يتفاهم طرفا التشكيل على صيغة توافقية تضع حدًا للأزمة.

 ذلك في المبدأ الذي صار معلومًا لكثرة الحديث عنه واشتغال أهل القانون على تفسيره لا سيما أن "المشهد التعقيدي" عينه يوشك أن يتكرر منذ أول حكومات ما بعد الطائف ولحد اليوم وهو يخبو حينًا ويتبدى للعيان حينًا آخر، وذلك بناء على التوافقات أو التناقضات بين طرفي التأليف المباشرين واستطرادًا بناء على طبيعة الظروف والمرحلة السياسية السائدة.

ولكن ماذا عن التعقيدات والصراعات الظاهرة والخفيّة الكامنة وراء عملية التأليف كما هو واقع الحال اليوم؟ وبمعنى أكثر جلاء، لماذا بلغت الأمور أخيرًا هذا المبلغ من الاحتدام على نحو استعصى على طرفي التأليف التفاهم على تسوية ما على رغم توفر عروض التسوية ومبادرات الحل المتعددة المصدر؟ في مقدور بعض المنظرين أن يركنوا الى استنتاج فحواه أنها أزمة النظام والتركيبة المتعثرة منذ الولادة والفاقدة هذه المرة لمن كان يتطوع ويسارع الى الإنقاذ عبر جرعات دعم لا سيما وأن النظام الرسمي العربي نفسه قد أصيب بـ"عطب" بنيوي وتحديدًا بعد اندلاع ما يسمى بـ"ثورات الربيع العربي" مما أفقده القدرة على إنتاج الحلول والحيلولة دون امتداد الأزمات.  

في طوايا هذا التشريح والتحليل جزء من الصحة والواقعية لكن اللافت أن أزمة النظام اللبناني ليست جديدة البتّة، فهي قرينة ملازمة له منذ الاستقلال في مطالع عقد الأربعينيات من القرن الماضي وبرهانها الأبلج أحداث عام 1952 والتي انتهت باستقالة أحد بطلي الاستقلال بشارة الخوري وأحداث عام 1958 والتي انتهت بخروج غير مجيد للرئيس كميل شمعون من الرئاسة، إلى الأزمات الصغيرة المتعددة التي سبقت الانفجار الكبير في عام 1975 الى التعقيدات التي تناسلت بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، ما حدا بمنظّر معروف هو سمير فرنجية الى ابتكار مصطلح: "لبنان الدولة المؤجلة والأزمة المستمرة" ويبني على ذلك عمارة فكرية وثقافية لم تمت بموته.

 ولكن في السابق كان النظام اللبناني ينجح في تخطي أزماته ويخرج من حالات الاحتضار الكثيرة التي أصيب بها لتنبعث الروح فيه مجددًا.

 ومن جهة ثانية هناك من يرى أن غياب اليد العربية المنقذة للوضع اللبناني هو زعمٌ يكتسب شرعية، ولكن "اقتحام" المبادرة الفرنسية للمشهد بعد أيام قليلة على انفجار 4 آب شكل نوعًا من التعويض وملأ فراغًا مدويًا. ومع بلاغة ذلك فإن اللافت أن أزمة الفراغ الحكومي قد استطالت ومعها تفاقمت الأزمة السياسية والمالية.

وواقع الحال هذا أوجب مجددًا إثارة السؤال عن السر الذي يحتجب ورءا كل هذا التأزم والاستعصاء على كل عروض ومحاولات الحل.

 تتعدد الإجابات بطبيعة الحال، لكن ثمة استنتاجًا شرع يحفر لنفسه مكانًا وبدا فريق معين يتبناه. ومبتدأ هذا الاستنتاج أن جذور الأزمة الحالية تعود عمليًا الى مساء 17 تشرين الأول عام 2019، حينما نزلت الى الشارع جمهرة من المواطنين حاملة لافتة الاعتراض القطعي على أداء النخبة الحاكمة. في ذلك الحين كان مفهومًا ومشروعًا الى حد بعيد الشعارات التي رفعت ومن ثم اتساع تلك الحركة، لكن لاح في الأفق ما استدعى الريبة واستدرج الشكوك وتجلى ذلك في الآتي:  

- رفض المشاركين في موجات الاعتراض والحراك كل عروض الحل والتسوية والإنقاذ وإصرارهم على البقاء في الساحات واللجوء الى قطع الطرق الرئيسية واطلاق شعارات فئوية لا تتماشى مع المنطلقات الجوهرية للحراك.

 - مبادرة جهات وشخصيات على صلة بالسفارة الأميركية الى السعي لمصادرة الحراك وتصدر فاعلياته. وثمة كثر يتذكرون صورة رئيس الجامعة الأميركيىة في بيروت فضلو خوري وهو يحاضر ويوجه يوميًا في خيمة بالقرب من مبنى العازرية في وسط العاصمة واللغة التي استخدمها.

 - والأكثر استغرابًا كان اعتكاف رئيس الحكومة سعد الحريري عن الدفاع عن ورقة الإصلاح التي أقرتها حكومته، ومحاورة المعترضين على أساسها ومن ثم تقديمه استقالة حكومته بعد أقل من أسبوعين على انطلاق الحراك. وبناء عليه انفتح تمامًا باب التأزم السياسي وتاليًا الانهيارات المالية والاقتصادية لتبلغ الأمور هذا الدرك من السوء.

كان ثمة من يبرر للحريري خطوة الاستقالة، ولكن ما كان مريبًا لاحقًا هو الآتي:  

- خروج الحريري بشكل شرس على الاتفاق الرئاسي وفتحه أبواب المواجهة على هذا النحو من الحدة مع الرئاسة الأولى و"التيار الوطني الحر" والسعي للتبرؤ من كل علاقة معهما وتهميشهما إن أمكن.

- لاحقًا أدخل الحريري الى التداول السياسي مصطلح حكومة التكنوقراط وإصراره على المضي قدمًا في اداء سياسي يعاكس الأصول الديموقراطية المتبعة منذ اتفاق الطائف من خلال دعوته الى إعطائه وحده حصرًا حق تسمية "حكومة اختصاصيين مستقلين" ورفضه التفاوض حولها مع المكونات السياسية.

- سعيه فور خروجه من الحكم إلى تكريس تجربة مد جسور العلاقة مع الحراك في الشارع وهي تجربة لم يكتب لها النجاح.

وعليه، كان واضحًا أن الحريري يسعى الى تكريس معادلة سياسية جديدة تقوم على الآتي:

- اخراج الطبقة السياسية من الخدمة تحت شعار أن لا حلول ترجى مع وجودها.

- التحرر من موجبات التفاهم الرئاسي.

- إلغاء "ناعم" ومشرعن لما أفرزته الانتخابات النيابية الأخيرة التي رفعت فريقًا الى الأكثرية المريحة وخفضت رتبة فريق آخر.

 بعد انفجار 4 آب وظهور المبادرة الفرنسية بشكلها الغامض والمفتقد لآلية واضحة لاستيلاد الحكومة، تيقن المعنيون أن الهدف المضمر هو عين ما اشترطه الحريري لدعوته الى العودة الى تأليف الحكومة في أعقاب استقالة حكومته، أي الإطاحة بالأكثرية النيابية والتأسيس لتجربة مختلفة تسمح بإدارة جديدة هجينة للحكم والحكومة تكون بشكل أو بآخر تحت الوصاية الفرنسية.

وما لبث الحريري أن انقض على هذه المبادرة واستوعبها وقدم نفسه على أنه الوريث الشرعي والحصري لها وذلك بعدما "نجح" هو بمعونة آخرين في الداخل في اجهاض عاجل لتجربة السفير مصطفى أديب الذي أتي به من سفارته في برلين ليشكل حكومة بتمامها وكمالها من خارج كل الاصطفافات. وقد نجح الحريري في مسعاه هذا من خلال اللجوء الى أمرين:  

الأول: جمع للأصوات الكفيلة بتكليفه بعدما وزع الوعود لضمانها من جهة، ولتأمين عودة قوية ومعتبرة له من جهة أخرى في جولة كسر ارادات مع الرئاسة الأولى وفريقها السياسي.

والثاني: سعى الحريري الى "التشاطر" السياسي عبر طرح صيغ حكومية له فيها أكثرية مريحة. وهو أمر لم ينطلِ على الرئاسة الأولى وفريقها.

ولقد برّز البطريرك الماروني بشارة الراعي لاحقًا فرصة الاستفادة من هذا التأزم تحت عنوان معلن وهو محاصرة الرئيس عون بشبهة التعطيل وشن حربه المعلنة تحت عنوان "استرداد" القرار اللبناني و"تحريره"، ولاحقًا تحت عنوان "منع تغيير هوية لبنان" وهو شعار رفع عشية كل تأزم سياسي في البلاد وكلها مغلفة بشعارات أخرى للتمويه مثل الحياد والتدويل.

إنها باختصار تجربة سياسية كان على الحريري أن يخوضها عله يمسك بزمام البلد وقراره وكان على الراعي أن يسارع الى تأمين شبكة دعم وأمان له من خلال "استرداد" القرار السياسي المسيحي وسحب الغطاء عن أي قوة تتصدى له، وسعي كليهما الى هدف مشترك.

ولم يعد مفاجئا القول إن الحريري قد ضيع فرصًا للتأليف وهو بات عليه أن يقتنع أن مضيه في النهج الذي اتبعه سيفاقم من الأزمات وهو لن يؤمن له تحقيق أي من الأهداف المضمرة التي صارت معلومة.  

 

سعد الحريري

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات