يوميات عدوان نيسان 1996

نقاط على الحروف

18/02/2019

"وارسو".. "كامب ديفيد" وأخواتها!

بغداد ـ عادل الجبوري

لم يكن كل ما حصل في مؤتمر "وارسو"، الذي كان عنوانه الواسع والعريض هو "السلام والاستقرار في الشرق الاوسط"، مفاجئاً او خارج سياق التوقعات والقراءات المسبقة، ولم يمثل انعطافة حادة في المواقف والتوجهات، بقدر ما جاء ليعزز ويكرس ويرسخ منهج الانهزام والذل والخنوع العربي، والغطرسة الاميركية الصهيونية.

منذ البداية، أي حينما طرحت فكرة عقد المؤتمر، قبل عدة شهور وراحت تتبلور على الارض، انفرزت المواقف وتحددت المساحات بصورة واضحة الى حد كبير، ولم يكن صعبا ولا عسيرا على المتتبع والمراقب الموضوعي المحايد، تلمس المسارات المختلفة والمتقاطعة، وتشخيص ماهية وطبيعة نقاط ومواضع التقاطع والاختلاف.

الولايات المتحدة الاميركية، أرادت من وراء عقد المؤتمر، أن تزيد من حجم الضغط على ايران ومحور المقاومة، وتعزز حصارها الاقتصادي، بحصار سياسي واعلامي مدعوم من قبل قوى اقليمية ودولية في مقدمتها الكيان الصهيوني والسعودية، وما قيل على لسان عدد لا يستهان به من كبار الساسة وأصحاب الرأي الأميركان قبل المؤتمر وخلاله وبعده، يعد مصداقاً ودليلاً دامغاً على حقيقة ذلك التوجه المعادي لايران والمقاومة.

ولم يكن غريبا أن تجد واشنطن من يتفاعل معها ويتحمس لها، ويهرول وراءها، ويفتح لها خزائنه المالية.

وطبيعي أن أي إضعاف واستهداف لايران ومحور المقاومة، يعني تلقائياً دعم وتقوية واسناد للكيان الصهيوني الغاصب لفلسطين وأراضي عربية أخرى.

وحينما نتابع وندقق، لا نجد أي حديث عن حقوق الشعب الفلسطيني ومظلوميته المتواصلة منذ سبعة عقود من الزمن، ولو حرص المخططون والمنظمون لمؤتمر "وارسو" على الالتزام بالعنوان الذي رفعوه له "السلام والاستقرار في الشرق الاوسط"، لكانوا قد أفردوا حيزاً من اطروحاتهم ونقاشاتهم لفلسطين والفلسطينيين، باعتبارهم الطرف الأساس في خيارات الصراع والسلام على السواء. كيف يتم بحث موضوع السلام في الشرق الاوسط بمؤتمر قاطعه كل الفلسطينيين بما فيهم السلطة الفلسطينية؟

وفي بيان لها عشية انعقاد مؤتمر "وارسو"، اعتبرت الرئاسة  الفلسطينية "أن أي مؤتمرات دولية بشأن الشرق الأوسط لن تنجح دون ضمان حل القضية الفلسطينية وفق قرارات الشرعية الدولية، وأن قضية الشرق الأوسط هي سياسية وليست أمنية، ومفتاح تحقيق الأمن والاستقرار هو حل القضية الفلسطينية على أساس قرارات الشرعية الدولية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة".

وأكثر من ذلك ترى الرئاسة الفلسطينية "إن الاستمرار في مثل هذه المشاريع الفاشلة لن يؤدي سوى إلى خلق مناخ سلبي يستفيد منه المتطرفون وأعداء السلام".

كيف يمكن لمؤتمر أن يترجم عنوانه الى واقع عملي على الأرض، في وقت كانت أهدافه وأجنداته بعيدة كل البعد عن جوهر ومضمون العنوان.

فالبحث عن السلام والأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، لا يتحقق بقرع طبول الحرب، وتجييش الجيوش، وتعبئة الحشود ضد طرف ما، وهذا ما أريد من مؤتمر "وارسو" وما حصل بالفعل.

رئيس وزراء الكيان الصهيوني، كان نجم المؤتمر، ونائب الرئيس الاميركي مايك بينس، خاطب الحاضرين، مطالباً اياهم بفتح الابواب والقلوب والحدود للمدللة "اسرائيل"، والتحريض على ايران والتحذير من خطرها عليهم.

كيف لا يصبح نتنياهو نجماً لمؤتمر "وارسو"، وهو الذي تصدر الحاضرين، ووجد من يتملقه ويجامله ويسترضيه من الخانعين والمنهزمين، وسمع من عبارات الدعم والتأييد له ولنظامه ما لم يسمع مثله من قبل، كما سمع من عبارات التنديد بإيران والمقاومة الشيء الكثير.

بيد أن كل ذلك لا يعني أن مؤتمر "وارسو" نجح في تحقيق أهدافه وتمرير أجنداته، فذلك لا يمكن أن يتحقق بمجموعة اجتماعات ولقاءات تتخللها خطب وكلمات في عاصمة ما، بل على العكس من ذلك، فإنه ـ لا نقول كشف عن حقائق ـ وانما أثبت ورسخ حقائق قائمة.

فالدعم والتأييد الأميركي غيرالمحدود للكيان الصهيوني، ليس بالأمر الغريب أو الجديد، لكن كان مؤتمر "وارسو"، فرصة جيدة لافهام من لازالوا يعولون على واشنطن في لعب دور الوسيط النزيه والصادق للتوصل الى سلام حقيقي في المنطقة، انها ـ اي واشنطن ـ لم ولن تكن في يوم من الأيام محايدة وموضوعية ومنصفة، وربما تكون في ظل وجود ترامب، أسوأ كثيرا مما كانت عليه في مراحل وأوقات سابقة.

وكذلك الخنوع والانهزام والضعف العربي أمام واشنطن و"تل ابيب"، ليس بالأمر الجديد، فالذين ذهبوا الى "وارسو"، وعبروا عن عدائهم لايران واستعدادهم للتطبيع مع "اسرائيل"، هم أنفسهم من فتحوا بالأمس القريب أبوابهم على مصاريعها لنتنياهو ولبعض وزرائه ولوفود ثقافية ورياضية صهيونية، بحيث لم يعودوا يشعروا بأي حرج أو خجل حينما يجلسون جنباً الى جنب مع الصهاينة بالعلن وعلى مرأى ومسمع العالم كله.

أضف الى ذلك، فإن كل ما قيل في المؤتمر ضد ايران وقوى محور المقاومة، لم يتضمن شيئاً جديداً، ولعلهم يثبتون قصر نظرهم وسطحيتهم، حينما يتصورون أن مؤتمر "وارسو" سيرغم ايران على الخضوع والاستسلام بعدما صمدت وقاومت على امتداد أربعين عاما، أو سيجعل حزب الله يلقي سلاحه ويرفع الرايات البيضاء، أو يرغم "أنصار الله" واللجان الشعبية على الركون والركوع للتحالف السعودي ـ الاماراتي، الذين لم تركعهم الطائرات والصواريخ والمدافع وكل وسائل الموت والقتل والدمار طيلة أربعة أعوام.

يخطئ من يتصور أن مؤتمر "وارسو" قد نجح في تحقيق أهدافه، لأن النجاح لا يتمثل في أن يلتقي الحلفاء والاصدقاء والاتباع في مكان واحد ليكرروا ما يقولونه هنا وهناك، وانما النجاح يكون حينما تتقدم خطوات الى الأمام، وأن تأتي بجديد، وتطرح جديداً.

قبل أكثر من أربعين عاماً، انعقد مؤتمر كامب دايفيد، وبعده انعقدت مؤتمرات اوسلو ومدريد وواشنطن وواي بلانتيشن ووادي عربة، وكلها كانت حبراً على ورق، ولا شك أن "وارسو" لن يكون أفضل من سابقاته، في زمن أخذت مساحات المقاومة والصمود والتحدي تطغي وتهيمن على مساحات الذل والخنوع والضياع والاستسلام والتردي.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف