طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

التحقيق الجنائي: ضرورة ملحة أم تقصير مؤسسات؟
08/02/2021

التحقيق الجنائي: ضرورة ملحة أم تقصير مؤسسات؟

هاني ابراهيم

في ظل التمهيد لإجراء التدقيق الجنائي في حسابات المصرف المركزي، وتنفيذًا للعقد الموقع بين شركة التدقيق الجنائي ووزارة المالية، امتنع حاكم مصرف لبنان عن تسليم الشركة المعنية بالتدقيق أغلب المعلومات المطلوبة، تحت عناوين وحجج متعددة ومنها السرية المصرفية، متجاهلًا كل شيء لا سيما الاستشارة التي أعدّتها هيئة الاستشارات والتشريع في وزارة العدل، والتي أكّدت أن مصرف لبنان ملزم بتنفيذ قرار مجلس الوزراء الذي أقرّ التدقيق الجنائي.

استطاع حاكم مصرف لبنان وضع حواجز عديدة تمنع الشركة من الغوص في دهاليز المصرف المركزي، عبر منعهم من التواصل المباشر مع إداريّي المصرف والاستماع اليهم. مع العلم أن عمليّة التدقيق الجنائي بحد ذاتها تفترض الاستقصاء في أدق تفاصيل البيانات والإجراءات مع الأطراف المعنيّة، ما استدعى الذهاب الى المجلس النيابي بهدف تذليل العقبات، فكان اقرار القانون الرامي إلى رفع السرية المصرفية في حسابات المصرف المركزي والوزارات والإدارات لمدة سنة، خطوة وصفتها معظم الكتل النيابية بالإيجابية.

كل ذلك كان بدافع معرفة كيف تبخرّت ودائع الناس في المصارف، وكيف حصلت التحويلات المالية إلى الخارج وبعلم من، وهل ما حصل كان بعيدًا عن معرفة المنظومة السياسية؟
لمعرفة ذلك، يطرح السؤال الأهم، هل كنا نحتاج في لبنان الى شركة تدقيق جنائية للقيام بهذ المهمة؟ أم أننا نملك ما يكفي من المؤسسات والأجهزة القادرة على القيام بهذا الدور والوصول الى الحقيقة المنشودة؟

ذهب البعض باتجاه أن القيام بالتدقيق الجنائي أمر ممكن بموجب القوانين اللبنانية مرعية الإجراء ومن قبل مؤسسات وأجهزة رقابية، ودون الحاجة الى الذهاب نحو عقود موقعة مع شركات من هنا ومشاريع قوانين من هناك. لكن كيف ذلك؟ ووفق أي قانون يمكن تحقيقه؟

إن لإدارة الأموال العمومية أصولًا معينة تم تحديدها بالاستناد الى قانون المحاسبة العمومية، وهذه الأموال هي أموال الدولة، والمؤسسات العامة التابعة للدولة أو البلديات، وأموال سائر الأشخاص المعنويين ذوي الصفة العمومية، وقد أعطى القانون نفسه لوزارة المالية حق وصلاحية إدارة هذه الأموال.

من جهة أخرى، فإن المصرف المركزي أنشئ بموجب قانون النقد والتسليف، باعتباره شخصًا معنويًا من القانون العام ويتمتع بالاستقلال المالي، لكنه خاضع في الوقت عينه لرقابة وزارة المالية، عبر مفوضية الحكومة لدى المصرف المركزي والتي يرأسها موظف برتبة مدير عام يحمل لقب (مفوض الحكومة لدى المصرف المركزي)، ومن صلاحيات ومهام هذه المفوضية السهر على تطبيق قانون النقد والتسليف، ولكن الأهم من ذلك كله هو مراقبة محاسبة المصرف.. لكن كيف؟

الجواب، عبر نص المادة 44 من قانون النقد والتسليف، حيث يحق للمفوض ولمساعده الاطّلاع على جميع سجلات المصرف المركزي ومستنداته المحاسبية، باستثناء حسابات وملفات الذين تحميهم سرية المصارف المنشأة بقانون 3 أيلول 1956.

يطلع المفوض وزير المالية والمجلس، دوريًا، على أعمال المراقبة التي أجراها، كما يطلع وزير المالية بعد كل سنة مالية على المهمة التي قام بها خلال السنة المنصرمة، بموجب تقرير يرسل نسخة منه الى الحاكم.

أوجب قانون النقد والتسليف على حاكم مصرف لبنان أن يقدم لوزير المالية قبل 30 حزيران من كل سنة الميزانية وحساب الأرباح والخسائر عن السنة المنتهية، وتقريرًا عن عمليات المصرف خلالها. ينشر الميزانية والتقرير في الجريدة الرسمية خلال الشهر الذي يلي تقديمها لوزير المالية، وينشر بيان وضع موجز كل 15 يومًا.

هل السرية المصرفية تتعارض مع حق وزارة المالية الرقابة على المصرف المركزي؟

يستفاد من النصوص القانونية المذكورة أعلاه أن المشترع منح وزارة المالية حق الرقابة على مصرف لبنان. ويشمل نطاق الرقابة:

- السهر على تطبيق قانون النقد والتسليف من كل نواحيه

 إن الرقابة، كما هي مبيّنة أعلاه، هي واجب على وزارة المالية أن تقوم به، ولا علاقة لشكل ومضمون هذه الرقابة بالسرية المصرفية، ولا يمكن لمصرف لبنان التذرع بالسرية المصرفية لمنع قيام وزارة المالية برقابتها القانونية والمالية على المصرف، فهذه الرقابة فرضها القانون بشقيها التدقيق المحاسبي والتدقيق الجنائي، وفقًا لما هو ثابت في قواعد التدقيق اللبنانية والدولية. وهذه الرقابة تتصف بالثبات والاستمرارية بحكم القانون، وليست بحاجة الى قرار من السلطة التنفيذية (مجلس الوزراء) أو من وزير المالية، فهي واجب مفروض بحكم القانون.

يتذرع حاكم مصرف لبنان بالمادتين 44 و51 من قانون النقد والتسليف لعدم التعاون في سياق التدقيق الجنائي حيث إن المادة 44، منحت مفوض الحكومة لدى مصرف لبنان ولمساعده حق الاطلاع على جميع سجلات المصرف المركزي ومستنداته المحاسبية، باستثناء حسابات وملفات الذين تحميهم سرية المصارف المنشأة بقانون 3 أيلول سنة 1956.

فيما المادة 51 من القانون عينه فرضت على كل شخص ينتمي الى المصرف المركزي، بأية صفة كانت، أن يكتم السر المنشأ بقانون 3 أيلول 1956، ويشتمل هذا الموجب على جميع المعلومات وجميع الوقائع التي تتعلق ليس فقط بزبائن المصرف المركزي والمصارف والمؤسسات المالية، وإنما أيضًا بجميع المؤسسات المذكورة نفسها والتي يكون قد اطّلع عليها بانتمائه الى المصرف المركزي.

إن المادتين المذكورتين أعلاه، هما من أحكام قانون النقد والتسليف، لكن تطبيقهما خاضع لرقابة وزارة المالية بحكم القانون ذاته، ولا سيما المادة 42 منه التي فرضت على مفوض الحكومة السهر على تطبيق قانون النقد والتسليف.

وبالتالي كيف لمصرف لبنان أن يتذرع بالسرية المصرفية لحجب أي معلومات عن وزارة المالية عند قيامها بأعمال الرقابة على المصرف؟
من جهة ثانية وبالإضافة الى دور مفوض الحكومة لدى المصرف المركزي فإن في لبنان أجهزة رقابية مختصة وعلى نحو أساس بالتدقيق والتحقيق والمحاسبة أيضًا ومن ضمن هذه الأجهزة  ديوان المحاسبة

تمتد رقابة ديوان المحاسبة على حسابات كافة الادارات العامة ومن ضمنها وزارة المالية في كل ما يتعلّق بواردات الدولة وبنفقاتها هذا فضلًا عن امتداد الرقابة لتطال الحسابات المتعلقة بمقبوضات الخزينة ومدفوعاتها أيضًا من خلال صحّة معاملات القبض والدفع وانطباقها على الأوامر الصادرة عن الجهة الصالحة.

لكن هل من واجب ديوان المحاسبة وصلاحياته التدقيق في عمليات مصرف لبنان؟

الجواب نعم. لقد أوجب قانون المحاسبة العمومية على وزارة المالية أن تضع كل سنة قطع حساب الموازنة وحساب المهمة وتقديمها إلى ديوان المحاسبة قبل 15 آب وقبل أول أيلول من السنة التي تلي سنة الحساب، ويتضمّن قطع الحساب واردات الدولة ونفقاتها خلال السنة، كما يتضمن حساب المهمة العام والعمليات المالية للدولة كافة، ومن ضمنها حسابات الصندوق وحسابات المصرف (المصرف المركزي وحساب الخزينة لدى المصرف المركزي).

إن قطع الحساب وحساب المهمة يحددان الوضع أو المركز المالي للدولة من جميع الجوانب.
لذلك فإن ديوان المحاسبة هو الجهاز الرقابي الدستوري، وهو مدقق الحسابات والمستقل عن السلطتين التشريعية والتنفيذية في ما يتعلق بالرقابة على المال العام، فقد أولاه الدستور والقانون وحده، صلاحية وسلطة الرقابة على المال العام.

فوفقًا لقانون إنشاء الديوان فان الهدف من رقابة ديوان المحاسبة هو اعطاء الرأي الأخير حول مدى صحة وقانونية الحسابات المتعلقة بالأموال العمومية. لذلك، وباختصار، إن حسابات الدولة تتضمن الإيرادات والنفقات والقروض وسندات الخزينة. مع الإشارة الى أن إيرادات الدولة تتضمن حصة الدولة من أرباح مصرف لبنان بما فيها أرباح الذهب والقطع. كما أن مصرف لبنان هو من أشخاص الحق العام المكتتب بسندات الخزينة، وهو الذي يحتسب فوائد الدين العام ويدفعها إلى حملة السندات، ما يعني أنه يتوجب إيداع جميع الأموال العمومية في الحساب المفتوح لدى مصرف لبنان باسم الخزينة العامة.

ما يعني أن من صلاحيات ومسؤوليات وواجبات ديوان المحاسبة التدقيق في العمليات المالية المذكورة أعلاه، سواء لدى وزارة المالية أو لدى مصرف لبنان، وبالتالي فإن تذرع حاكم مصرف لبنان أو المجلس المركزي لمصرف لبنان بالسرية المصرفية لمنع ديوان المحاسبة من القيام بالتدقيق هو مخالفة قانونية فاضحة.

كل ذلك مع عدم إغفال دور القضاء العدلي، فالنيابات العامة لا سيما المالية منها والتي تتولى في هذا الإطار النظر بالجرائم المالية المرتكبة  خلافًا للقوانين المصرفية والمؤسسات المالية والبورصة وقانون النقد والتسليف، وعليه هل ما زلنا نحتاج الى شركة تدقيق جنائية أم تفعيل مؤسساتنا وأجهزتنا الرقابية؟

مصرف لبنانالسرية المصرفيةالقضاء

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة

خبر عاجل