طوفان الأقصى

آراء وتحليلات

النزاع التاريخي بين
08/01/2021

النزاع التاريخي بين "روما" الاستعمارية الغربية والشرق

جورج حداد

رغم التقارب بل والارتباط الجغرافي والاقتصادي والحضاري بين ضفتي حوض البحر الأبيض المتوسط: الشرقية (المتمثلة في مصر وشمال افريقيا العربيين، والمشرق العربي)، والغربية (المتمثلة في القارة الاوروبية)، فإن الصفة الرئيسية التي يمكن أن تطلق على تاريخ العلاقات العربية ـ الاوروبية والغربية، وبصورة اكثر تحديدا العلاقات العربية ـ الاوروبية الغربية والاميركية، هي أنها "تاريخ اسود".

فمنذ فجر التاريخ المكتوب التصق هذا التاريخ بعملية الغزو الاوروبي ـ الغربي للشرق، بالتعاون الوثيق مع الطغمة العليا المالية ـ الدينية اليهودية التي تجر وراءها القطيع الشعبي المضلل.

وحينما دمرت الامبراطورية الرومانية القديمة قرطاجة الكنعانية العظيمة، وغزت مصر وشمال افريقيا، كان النخاسون (تجار البشر) اليهود يرافقون القوات الرومانية، وهم يحملون الاموال والاغلال، لشراء الاسرى (بالجملة) من الجيش الروماني، وتكبيلهم ثم ترويضهم، وبيعهم لاحقا (بالمفرق) كعبيد.

وفي رأينا المتواضع انه ينبغي لعلماء التاريخ واللاهوتيين، الشرفاء والموضوعيين:

أولًا ـ أن يبحثوا، من وجهة نظر ايديولوجية ـ دينية، عن طبيعة الحقد الدفين لـ"يهوه"، على الكنعانيين، من قرطاجة الى فلسطين، وهو ما ينضح به المستنقع الفكري ـ الديني للكتب "السماوية" المحرّفة.

وثانيا ـ عليهم ان يبحثوا، من وجهة نظر تاريخية ـ اجتماعية، عن كيفية لحاق التجار اليهود بالقرطاجيين الى المناطق التي وصلوا اليها في اوروبا، والاستيطان في تلك المناطق عبر المشاركة في تجارة القرطاجيين مع شعوب تلك المناطق، ثم التسلل الى ايطاليا، وتأسيس التعاون اليهودي الوثيق مع روما القديمة، ضد القرطاجيين والكنعانيين خاصة وشعوب الشرق المظلومة عامة، وهو التعاون الذي لا يزال ساري المفعول الى اليوم.

وبعد ان اكتسح الرومان المشرق العربي، بالاشتراك مع اليهود، قاموا بمذبحة اطفال بيت لحم، حينما "ولد السيد المسيح، بهدف قتل يسوع المسيح وهو طفل، ثم قطعوا رأس يوحنا المعمدان، ثم ارتكبوا الجريمة الكبرى بصلب يسوع المسيح"، حسب العقيدة المسيحية، ومارسوا اشد الاضطهاد ضد المسيحيين الشرقيين الاوائل الذين تعرضوا لشتى انواع القمع والتعذيب والقتل الوحشي مدة مئات السنين.

وفي تلك الظروف بالغة المأساوية بالنسبة للمسيحيين الشرقيين الاوائل، الفلسطينيين ـ الكنعانيين والسوريين ـ السريان  واللبنانيين ـ الفينيقيين، اتاح المستعمرون الرومان للطغمة المالية ـ الدينية اليهودية ان تحكم اجزاء من فلسطين ضد ارادة اهلها وضد ارادة جمهرة واسعة من اليهود الشعبيين الذين تبنوا الدعوة المسيحية.

وفي كنف الاستعمار الروماني للشرق العربي، نشأت في الأدبيات اليهودية فكرة "اسرائيل الكبرى من الفرات الى النيل".
 
وفي اواسط الالفية الميلادية الثانية انتشرت موجة الرحلات الاستكشافية الاوروبية الى الشرق. وكان الهدف الرئيسي لتلك الرحلات هو الاستعمار والاستيلاء على خيرات الشرق. وفي هذا السياق يجب التأكيد بشدة على حقيقة تاريخية ينبغي ألاّ تغيب عن فكر ووجدان كل وطني عربي وكل انسان شريف في العالم وهي: ان اكتشاف القارة الاميركية، وتأسيس الدولة الاميركية (الشمالية) يرتبطان عضويا بالنزعة الاوروبية القديمة  لغزو الشرق، المندمجة بالنزعة اليهودية للتسلط والعداء المميت للكنعانيين خصوصا والشرقيين عموما.

فقد اكتشف كريستوف كولومبوس الجزء الشمالي من القارة الاميركية في رحلته الثانية الى ما سمي "اميركا" سنة 1498. وبعد اكثر من مائة سنة من ذلك التاريخ، أي في سنة 1600 احرقت الكنيسة الكاثوليكية الكاهن ـ الفيلسوف جوردانو برونو، في وسط روما، لقوله بوجود النظام الشمسي وكروية الكوكب الارضي. أي إنه حين قيام رحلة كولومبوس الى "اميركا" كانت الكنيسة الكاثوليكية ترفض بشدة الاعتراف بكروية الارض، الى درجة تكفير واحراق القائل بذلك حيا بالنار. في حين أن مشروع رحلة كولومبوس كان يقوم بالضبط على فكرة كروية الارض، وانه يمكن التوجه من اوروبا نحو الاراضي المقدسة، ليس فقط بالسير شرقا، بل ايضا وبالابحار غربا للوصول الى الهند ومنها الى الاراضي المقدسة، من الخلف. وقد "تنازلت" الكنيسة الكاثوليكية عن دوغمائيتها الدينية التكفيرية المتشددة حول لا كروية الارض، ووافقت على رحلة كولومبوس ودعمتها، بدافع "اعطاء فرصة" لغزو الشرق والوصول الى الاراضي المقدسة، ولو بغير "الطريق القويم" الى الشرق، بالمفاهيم الدينية البالية. والتفسير المنطقي الوحيد لهذه البراغماتية الكاثوليكية حينذاك، هو النزعة الصليبية الاستعمارية الاوروبية، المؤيدة والداعمة لاي مشروع لغزو الشرق باية طريقة كانت، حتى ولو كانت طريقة مخالفة للمفاهيم الدينية السائدة. ويعزز استنتاجنا هذا واقعتان تاريخيتان:

الاولى ـ ان الذي موّل رحلة كولومبوس ليست ايزابيل الكاثوليكية كما هو شائع، بل متمولون يهود "اندلسيون" متظاهرون بالمسيحية. وقد رافق عدد من أولئك اليهود رحلة كولومبوس. وأول تقرير قدمه كولومبوس عن رحلته كان لأولئك اليهود (راجع كتاب "اليهودي الكوسموبوليتي" لهنري فورد).

والثانية ـ أن الرواد، أو المستوطنين أو المستعمرين، الاوائل، لاميركا الشمالية كانوا من المسيحيين (البروتستانت والكاثوليك) التوراتيين ـ المتهودين. وذلك طبعًا الى جانب اليهود الثابتين أو المتظاهرين بالمسيحية. وقد ادعى أولئك الرواد، اليهود والمتهودون، انهم هم "شعب اسرائيل = شعب الله المختار"، وان ما سمي "الهنود الحمر" (سكان القارة الاصليون) هم "الكنعانيون" الذين لعنهم الله، ودعا "شعبه المختار" الى ابادتهم والحصول على أرضهم بوصفها "ارض الميعاد" التي وعد بها "الرب" "شعب اسرائيل". وبناء على هذا الفكر المتوحش التطهيري ـ العنصري في الواقع، قام المستوطنون الاوائل لاميركا بابادة 112 مليون "هندي احمر" بكل "راحة ضمير سماوية" (راجع كتاب " اميركا والابادات الجماعية" لمنير العكش)، واقاموا فوق جماجم الضحايا "الولايات المتحدة الاميركية" التي نصبوا على بوابتها النيويوركية تمثال الحرية الشهير.

وبناء على هذه الفلسفة "الطهورية ـ الاصطفائية ـ الربانية" فإن السلطة الاميركية اليوم تنتحل، مع يهودها ومسيحييها التوراتيين ـ المتهودين، صفة "شعب الله المختار"، وتستبيح قتل وابادة الفلسطينيين والعرب وجميع شعوب الشرق بوصفهم "كنعانيين" أمر الله بابادتهم، واميركا لا تفعل سوى تنفيذ ارادة الله كما يزعمون!

وفي منتصف، ونهاية، القرن الخامس عشر حدثت نكستان كبريان في التاريخ الحضاري العالمي هما:

ـ أ ـ سقوط المنارة القسطنطينية في براثن الغزو العثماني. وتم ذلك بتشجيع ودعم البابوية واليهودية العالمية، لمنع روسيا من الوصول الى شواطئ المتوسط، وقيام التواصل المباشر بين الروس والعرب.

ـ ب ـ سقوط المنارة الاندلسية في براثن الصليبية الغربية الجديدة و"محاكم التفتيش" البابوية.

وبعد "حرب الاسترداد" (Reconquista بالاسبانية) او "سقوط الاندلس" (بالعربية)، وطرد العرب من شبه القارة الايبيرية، فإن غالبية اليهود العاديين او "الشعبيين" ارتحلوا الى المغرب العربي حيث شكلوا أقلية دينية كبيرة. اما الطغمة المالية اليهودية العليا، التي جمعت ثروات هائلة ابان الحكم العربي ــ الاسلامي لانها كانت تسيطر تماما على التجارة (ولا سيما تجارة العبيد والجواري والغلمان) في "الدول" العربية ـ الاسلامية، من الاندلس الى سور الصين، ـ نقول ان هذه الطغمة العليا المالية اليهودية قد بقيت في الاصقاع الاوروبية، بوجهها اليهودي المكشوف او بالتظاهر بالوجه المسيحي. وقد شكلت كتلة الاموال الطائلة لهذه الطغمة اليهودية الرأسمال الاولي لانطلاق النظام الرأسمالي في القرون الوسطى، في اوروبا، ومن ثم في اميركا الشمالية.

وبعد الغزو العثماني الهمجي للقسطنطينية، وذبح وتشريد الملايين من المسيحيين الشرقيين ـ السكان الاصليين للقسطنطينية، وعثمنتها وتحويلها الى عاصمة للامبراطورية العثمانية الهمجية تحت اسم "الاستانة" و"الباب العالي"؛ ـ نقول: بعد هذه النكسة للحضارة الانسانية، التي كانت مقدمة لنكسة الاندلس، فإن الطغمة المالية اليهودية "الاوروبية ـ الاندلسية" انسلّت كالافعى الى "الاستانة" وعششت فيها، وتحولت الى "المفتاح المالي" لـ""الباب العالي". وبعد عشرين سنة فقط من معركة مرج دابق و"الفتح" الاسلامي ـ العثماني للعالم العربي، وبدءا من عهد السلطان "سليمان القانوني"، بدأ السلاطين العثمانيون بمنح ما سمي "الامتيازات الاجنبية" لاسيادهم في الدول الاوروبية الاستعمارية. وبموجب هذه "الامتيازات" تحول القناصل الاوروبيون الغربيون الى حكام غير متوجين للولايات العثمانية.

وطوال مئات السنين من الاستعمار العثماني الهمجي، عمل قناصل الدول الاستعمارية الاوروبية بتعاون وثيق مع الطغمة المالية اليهودية في "الاستانة"، من أجل تغريب واقتلاع وتدمير وتهجير وتشريد المسيحيين الشرقيين، صانعي ومتابعي  الحضارات شرق المتوسطية، كمقدمة شرطية لنهب وإفقار وتدمير واستعمار الشعوب والبلدان التي دخلت في البوتقة الحضارية الموحدة للأمة العربية. ولم تكن الدولة الاسلامية ـ العثمانية سوى أداة لهذا المخطط الجهنمي، الاستعماري الغربي ـ اليهودي. ولا يزال هذا المخطط يطبق اليوم من قبل الامبريالية الاميركية وكتلتها الغربية و"اسرائيل" والصهيونية العالمية، بالتعاون السري والمكشوف مع تركيا والأنظمة العربية العميلة والداعشية.  

وفي الأزمنة القريبة قام الغازي الاستعماري الفرنسي نابوليون بونابرت، بمعزل عن البابوية وبريطانيا، بحملته لاستعمار الشرق، فاحتل مصر في 1798، ووصلت قواته الى أسوار عكا في 1799. وأطلق نابوليون حينذاك نداء خاصًا الى يهود العالم لدعم الاستعمار الفرنسي واقامة الدولة اليهودية على أرض فلسطين. وفي أعقاب ذلك، وطوال القرن التاسع عشر، نشأت وترعرت في أحضان أوروبا الحركة الصهيونية القائلة بـ"القومية ـ الدينية اليهودية"، والتي ضمت في صفوفها ليس فقط اليهود الشرقيين "السفارديم" (ذوي الاصل العبراني)، بل وضمت خصوصًا اليهود الغربيين "الاشكنازيم" (ذوي الاصل الخزري)، الذين ليست لهم أية علاقة نسبية بيعقوب (اسرائيل) وابراهيم التوراتيين، والذين انتشروا في اوروبا بعد ان دمر الروس العظام، في القرن العاشر، مملكة الخزر اليهودية في المساحة بين ضفاف بحر قزوين ونهر الفولغا. وبعد مائة سنة من نداء نابوليون لاقامة "الدولة اليهودية"، عقد سنة 1897 في مدينة بازل بسويسرا المؤتمر العالمي الاول للحركة الصهيونية، بزعامة الصحفي المجري ـ النمساوي تيودور هرتزل (اليهودي الغربي ـ الاشكنازي الذي لا علاقة نَسَبية له بـ"وعد الرب" لنسل يعقوب وابراهيم)، والذي كان قد أصدر كتابه "الدولة اليهودية" في 1896، وهو الذي كُرّس فيما بعد بوصفه "الاب الروحي لاسرائيل".

وفي سنة 1917، ومع الغزو الاستعماري البريطاني لفلسطين، والشروع في تنفيذ "اتفاقية سايكس ـ بيكو" الاستعمارية، صدر البيان الذي سمي عربيا "وعد بلفور" لانشاء "الدولة اليهودية" في فلسطين. وخلال مرحلة الحكم الاستعماري لفلسطين عمل الانكليز كل ما يمكن لتحقيق "وعد بلفور". وفي سنة 1948 أعلنت الدولة العنصرية ـ الدينية اليهودية المشؤومة، بدعم كلي من الامبريالية الغربية والستالينية الخائنة. وتم إخراج مسرحية حرب 1948 ـ 1949 لتكريس وجود تلك الدولة كأمر واقع (دي فاكتو) بحكم "اتفاقيات الهدنة" التي وقعت بين "اسرائيل" والدول العربية. ومن ابشع علامات الدعم الامبريالي الغربي لليهودية العالمية و"اسرائيل"، هو أن المانيا الغربية ما بعد النازية، قدمت التعويضات بمليارات الدولارت، عن الهولوكوست، لاسرائيل بالذات، من اجل دعم وتكريس اغتصاب فلسطين العربية، علمًا أن الدول الأكثر تضررًا من الهولوكوست النازي ضد اليهود العاديين (الذين كانت غالبيتهم ضد الصهيونية) كانت بولونيا واوكرانيا وروسيا التي تم تدميرها بشكل فظيع، والتي كان لها الفضل الأكبر في محاربة النازية والانتصار عليها، ولكنها لم تحصل على أي نوع من التعويضات والمساعدات، بل على العكس حصلت على الحصار والعقوبات، لوقوفها في حينه ضد الامبريالية الغربية.

وفيما بعد دعمت الامبريالية الغربية "اسرائيل" في جميع حروبها العدوانية ضد الفلسطينيين والعرب، بهدف تأبيد الهيمنة الامبريالية الغربية على الشرق العربي.

وفي المرحلة الأخيرة، وتحديدًا منذ اتفاقية كامب دايفيد المشؤومة سنة 1978، تعمل الادارة الأميركية، وبدعم صامت أو مكشوف من قبل الدول الأوروبية الاستعمارية والموالية للاستعمار، على جر الأنظمة العربية الخائنة الى التطبيع مع "اسرائيل"، في محاولة أخيرة يائسة لتكريس الوجود "الشرعي" لـ"اسرائيل" واغتصاب فلسطين، كمؤشر على فرض الهيمنة المطلقة للامبريالية على الشرق العربي والاسلامي.

لقد نجحت الامبراطورية الرومانية قديمًا في تدمير قرطاجة، ولكن موجة التوسع الروماني تحطمت في زمانها، وبدأت بالانحسار، على الجدار الحصين للمقاومة الشرقية الروسية.

أما اليوم، فإن حصون المقاومة الشرقية العظيمة تمتد من روسيا الى الصين وايران واليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين.. بل والى كوبا وفنزويلا وبوليفيا والبرازيل في القارة الاميركية ذاتها.. وان "روما الجديدة" الاميركية واليوضاسيين الاوروبيين واليهود لن يستطيعوا مهما فعلوا أن يعيدوا التاريخ مرة ثانية!

ــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب لبناني مستقل

العالم

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل