طوفان الأقصى

نقاط على الحروف

منذ بداية الفتح والدم العاشق ما زال هدارًا
11/11/2020

منذ بداية الفتح والدم العاشق ما زال هدارًا

ليلى عماشا

"عهد الاستشهاديين"، عبارة تستدعي إلى الذهن كمًّا هائلًا من الصور والمشاهد التي حفظتها القلوب، عمليةً تلو عملية، وشهيدًا بعد شهيد، وتشكّل في مدى العين قافلة من أقمار، يبسم في مقدمتها شابٌّ عامليّ بعمر الثمانية عشرة ودهرٍ من رجولة وفداء: أحمد قصير، يلوّح لضوء عيوننا  في صورة من العام ١٩٨2، يتجّه صوب "مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي" في صور. تشير الساعة إلى السابعة صباحًا ويشير الدويّ وبسمة أحمد إلى افتتاح "عهد الاستشهاديين".. أكوام من القتلى الصهاينة، واستشهادي يرتفع إلى السماء وتمضي القافلة نصرًا تلو نصر.

كان قد مضى على "الاجتياح الإسرائيلي" للبنان وصولًا إلى بيروت خمسة أشهر وأسبوع واحد. الاجتياح الذي وصفه الصهاينة بالنّزهة استحال جحيمًا عليهم حين بدأوا بلملمة أشلاء قتلاهم. فطلقات النار في بيروت ولو بأسلحة فردية أوصلت لهم رسالة أن لا مكان آمنًا لهم، وجاءت العملية الاستشهادية الأولى لتضعهم بمواجهة عقيدة قتالية لا تساوم ولا يمكن مواجهتها أو تهديدها، عقيدة تطوي الأزمنة بصوتِ الثورة الثورة: "أبالموت تهددني...؟!".

بقي الإسم مجهولًا وبقيت هوية أحمد قصير طيّ الأسرار حتى العام ١٩٨٥، أي بعد تحرير منطقة صور من الاحتلال الإسرائيلي. يومها، دوّى الاسم في القلوب وامتدّ موجة من دمع وحب من ساحة بلدته دير قانون النهر إلى كل البلاد. أحمد، الفتى الخلوق ذهب إلى أقصى حسن الخلق المتمثل بالفداء وبالإيثار وبالوعي الثوري وباليقين. أحمد، الشاب الذي حوى السرّ منذ الإشارة الأولى حتى ضغط زرّ التفجير، وأحمد السرّ الذي ارتفع ليرسم الخطوة الأولى في طريق الاستشهاديين والتي بعدها تواصلت الخطوات حتى تحرير الجنوب عام ٢٠٠٠ ومن يدري كم من أسرار تواصلت على هذا الدرب وما زالت أعيننا تعجز عن التقاط ضوئها..

منذ ذلك الحين، وسرايا الاستشهاديين في المقاومة تبث الرعب في صفوف العدو.. فعلى مدخل دير قانون النهر، انتظر الاستشهادي علي صفيّ الدين في نيسان ١٩٨٤ مرور قافلة لجيش العدو وفجّر سيارته بها.. ليلتحق به عند بوابة المطلة الاستشهادي عامر كلاكش في آذار ١٩٨٥ ويقتحم بسيارة بيك أب مفخخة دورية صهيونية تمرّ قرب مستعمرة المطلة، ويلاقيه هيثم دبوق في آب ١٩٨٨ على طريق تل النحاس في مرجعيون ويفجر نفسه بقافلة من جنود الاحتلال، ويتبعه الاستشهادي عبد الله عطوي في العام نفسه عند بوابة فاطمة في كفركلا، ثم يستعجل الاستشهادي أسعد برو الوقت وينتظر دوره ليلاقي أصحابه الذين سبقوه ويفجر سيارته المفخخة في آب ١٩٨٩ في بلدة القليعة بقافلة للصهاينة..

 وبعدها في آب ١٩٩٢ كانت منطقة الجرمق على موعد مع الاستشهادي ابراهيم ضاهر الذي خاض مواجهة عنيفة ضد قوّة صهيونية، وحين نفدت منه الذخيرة أبقى على قنبلة يدوية واحدة كانت تكفيه ليحقق أعلى الممكن من الإصابات في صفوف العدو.. فاستدرج الكومندس الإسرائيلي ليقتربوا منه بعد أن ظنّوا أنّه أصيب أو استشهد، وما ان اجتمعوا حوله، فجر القنبلة الأخيرة ومعها حمّالة المتفجرات التي كانت بحوزته، فارتقى استشهاديًا وترك أفراد القوّة المجتمعة حوله أشلاء متناثرة..

أما الناقورة، فموعدها مع الاستشهاديين حان في آب ١٩٩٤ مع مجموعة للمقاومة كمنت لقافلة للعدو وفجرت فيها عبوّة ناسفة ليعبر المجاهد عباس الوزواز بطلًا برتبة استشهادي ويفجر نفسه.. وبعد، كان صلاح غندور يلحّ على القيادة لأخذ الإذن بالالتحاق بقافلة الاستشهاديين.. وكان له ما أراد في نيسان ١٩٩٥ حيث كان "مركز الـ ١٧" في مدينة بنت جبيل محط رحال جسده الطاهر الذي انفجر بسيارته المفخخة وأوقع جنود الثكنة العسكرية قتلى مذهولين.. أما على مثلث عديسة-ربّ ثلاثين، فكان الاستشهادي علي أشمر بحزامه الناسف في آذار ١٩٩٦ يعبر الطرقات المحتلة ويفجر نفسه بموكب قيادي للصهاينة.. ويتبعه في شهر حزيران من العام نفسه الاستشهادي بلال الأخرس على طريق الخردلي اثر مواجهة والتحام مع قوّة عسكرية لجيش العدو.. أما الاستشهادي عمار حمود والذي كان موعده للفداء في القليعة في كانون الأول من العام ١٩٩٩، أي قبل تحرير الجنوب بأشهر قليلة، فاقتحم بسيارته المفخخة قافلة عسكرية معادية وأرغم الصهاينة على سحب جثث قتلاهم تحت جنح الظلام كي يخفوا عدد قتلاهم..

سنون وسنون، ألف معركة وألف محطة من نصر ومن تعب ومن جراح ومن عز، وما زال الدم الاستشهادي يسري هدّارًا في عروق رجال الله كلّهم.. ما زلنا نسمع القليل القليل من حكايات بطولاتهم العابرة للحدود مهما اختلف القناع الذي يلبسه العدو.. سطّروا التاريخ بالفداء، ورسموا خارطة البلاد بالدم وبالروح التي تقاتل، وجعلوا لنا في كلّ يوم محطة للتذكّر وللدمع وللعزّ وللامتنان، وما زالوا يخوضون الحرب بنبض يردّد عبر الزمان "كرامتنا من الله الشّهادة"..

يوم الشهيد

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف