طوفان الأقصى

خاص العهد

روبرت فيسك .. المتمرّد
03/11/2020

روبرت فيسك .. المتمرّد

محمد أ. الحسيني

أن تكتب عن روبرت فيسك لا يعني فقط أن تتحدّث عن رجل خبر مهنة الصحافة، وتخصّص في الإعلام الميداني، ومثّل نموذج الصحافي المحقّق الذي شهد تفاصيل أشرس وأقسى الحروب في العالم ومنطقة ما يسمّى الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، بل يعني أيضاً أن تنصف رجلاً امتهن التمرّد، واختار المضي بعكس السير بخلاف غالبية الصحفيين في العالم الذين يترجمون وجهة نظر مؤسساتهم في صياغة الكلمات وتحوير الوقائع، ويروّجون للأنظمة الاستعمارية والسياسات الكبرى الطامعة بموارد الطاقة والاستهلاك في العالم، فتصبح الحرب في مقالات هؤلاء ضرورة لصنع الحياة، والإحتلال دافعاً لنشر السلام، والقتل أداة لترويض البشر الذين لا يعرفون كيف يديرون حيواتهم وأنفسهم ومجتمعاتهم.

كلمة لا تقف عند حدود الخبر

خالف فيسك كل القوالب السياسية -  الإعلامية التي لا تنفكّ عن التبعية في سياق التوجيه الاستخباري، ورفض إيعازات السلطة، السلطة بمعناها العام الشامل، غربية وشرقية، عربية وأجنبية، فلم يكن يوماً متأثراً "بالعلاقة الطفيلية التناضحية بين الصحفيين والسلطة"، بحسب ما كان يصنّف الصحافة الغربية وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ولم تأخذه العبارات التي سعى إعلام المستعمِر الى زرعها في واقع وعقول وأدبيات المتلقّي المستعمَر، شعوباً أو أنظمة، ويقول في ذلك: "أدى جبننا الصحفي ببساطة إلى تحويل أولئك الذين يعانون إلى معتدين، وتحويل المحتلّين إلى ضحايا، وأصبح الصحفيون متواطئين في الصراعات عندما اشتركوا في هذا النوع من التقارير".

وعي هذه الحقيقة قاد فيسك إلى انتهاج نمط لم يشاركه فيه سوى القليل من الصحفيين الذين آلوا على أنفسهم قول الحقيقة ونقل الواقع كما هو، وماهية الواقع والحقيقة هنا ليست في أن يكون مجرد مرآة صمّاء أو جهاز نقل مباشر يكتفي بنقل المتلقّي إلى أرض الحدث، بل الغوص في أصل الحكاية والتركيز على التفاصيل في ما قبل وداخل وما بعد الحدث وكيف ولماذا  وإلى أين، فاستحق بجدارة أن يكون رجل الكلمة التي لا تقف عند حدود الخبر، بل تتعدّى هذه الحدود باتجاه تشكيل كامل الصورة، دون اجتزاء أو تحوير كما يراد أن تصل إلى عقول الناس، فإن "الفشل في استخدام الكلمات الحقيقية يؤدي إلى نزع دلالات معنى الصراع..".

شعبوي بخطاب نخبوي

اختار فيسك أن يكون شعبوياً دون أن يتخلّى عن نزعته النخبوية في نقد الأنظمة وتشريح أهداف الحروب، ومنذ أن بدأ مسيرته الصحفية في العام 1972 بتغطية الحوادث في إيرلندا والحروب في البلقان والشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مدى خمسة عقود، كان دوماً خصماً للكيانات الحاكمة منطلقاً من فهم المعادلة في تشكيل الإطار الذي تسعى هذه الكيانات لرسمه تبريراً لسياسات السيطرة والانتشار وما يرافقها من فعل الاحتلال والقتل، ومن هنا جاءت مواقفه المباشرة المعارضة للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإسرائيل على وجه الخصوص، والمناصرة للقضية الفلسطينية ولكل شعب أو بلد يتعرّض لاستهداف هذه الدول في السياسة والحرب.

دموع صبرا وشاتيلا

امتاز فيسك بمعاصرته لمحطات مفصلية من عمر المنطقة العربية والإسلامية، ولم يكن واحداً في تحديد وجهة رسم الموقف، فقد كان يعدل بوصلته من منطلق رصد مكامن المصلحة الغربية في خضم هذه المحطات، فحين سكن في بيروت وكتب عن الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان حتى العام 1990، انحاز إلى لبنان الكيان في "ويلات وطن" مزّقته النزاعات خدمة لأجندة الأنظمة الكبرى، وبكى أمام أشلاء أجساد النساء والأطفال والشيوخ في صبرا وشاتيلا، الذين قضوا ضحية مجزرة وحشية في إطار مخطّط يتجاوز بامتداداته حدود لبنان وفلسطين كما رأى، وتبعاً لخارطة رؤيته هذه وجد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 على حكم الشاه نتيجة طبيعية وتلبية لتطلّعات شعب عانى طويلاً من سياسات الاستعمار الغربي، وانساق هذا الاعتبار على تغطيته للحرب السوفياتية على أفغانستان والحرب الإيرانية - العراقية، والحروب الاسرائيلية على لبنان وغزة وانتفاضة عامي 1987 و2000 في فلسطين المحتلة، فضلاً عن الحرب الأهلية الجزائرية والثورات العربية العام 2011، وصولاً إلى الحرب الكونية على سوريا.

ملفات الصراع

أربعون عاماً وأكثر من التجوال في خضم الانقلابات والزلازل أكثر من كافية لاستقرار الفكرة ورسوّ النهج وتشكيل الموقف، والأهم من كل ذلك اتضاح الصورة في سياق بناء الكلمة، سواء أكانت بيضاء أو سوداء، وعلى الرغم من بعض الاختلالات في تقييم المعادلات لدى فيسك إلا أن قاعدته في انتقاد قوى التحكّم العالمية لم تهتز، ولم ينزوِ في بدائية التعبير مع تطوّر وسائل إيصال الكلمة، بل ساعده على تفكيك الخوارزميات المتداخلة في ملفات الصراع، وظهر هذا جليّاً في كتابه "الحرب العظمى من أجل الحضارة - غزو الشرق الأوسط" الذي وضعه عام 2005، وخلص إلى أن مسار السلام في المنطقة "مات منذ سنوات إذا كان قد عاش أصلا أو وجد لكي يعيش"، طالما أن "أمريكا أصبحت في قبضة إسرائيل" في عهد ترامب، مؤكداً أن "خضوع الولايات المتحدة التام لمطالب إسرائيل سيكون وبالاً على شعوب الشرق الأوسط".

فيسك لم يكن بريطانياً

طالما أبدى فيسك إعجابه بالشعب اللبناني الذكي والحيوي والفاعل، ولكنه طالما تحسّر على فشل هذا الشعب في إمساك القرار بيده وبقائه تابعاً لإملاءات الخارج، ولذا لم يتردّد في وصف ما يسمّى ثورة 17 تشرين عام 2019 بأنها "ليست نتيجة خدعة أميركية فحسب، بل نتيجة مباشرة لنظام الإنتداب الإستعماري بعد الحرب العالمية الأولى والذي فصل لبنان عن سوريا"، وهو ما استفزّ وليد جنبلاط الذي اعتبره كلام فيسك "انحطاطاً فكرياً".. هكذا هو روبرت فيسك الذي لم يكن مجرّد صحافي يؤرخ اللحظة بل ارتقى في مدارج الكلمة نحو صياغة فكر ثائر يخطّ بقلم لم يستمدّ حبره من أروقة القرار الكبرى وغرف استخبارات الأنظمة، فكانت لغته واحدة وبلون واحد، ولذلك كان فيسك الإيرلندي الفلسطيني السوري الإيراني اللبناني الأفغاني ..، ولم يكن يوماً بريطانياً أو أمريكياً أو إسرائيلياً.. وأن تكون روبرت فيسك فهذا يعني أنك نصير الموقف الحقّ، والجريء الصادح وسط ضجيج صمت الجبناء.. وما أكثرهم في أنظمتنا.

الإعلامالإعلام والاتصالالصحافة

إقرأ المزيد في: خاص العهد

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة

خبر عاجل