يوميات عدوان نيسان 1996

خاص العهد

 
20/10/2020

 "الإثراء غير المشروع" أقر: هل نرى مسؤولاً فاسداً خلف القضبان؟

فاطمة سلامة

يتجذّر الفساد في لبنان في كافة عظام ومفاصل الدولة. لا مبالغة في هذا الكلام، فمن يغص قليلاً في مختلف المشكلات والأزمات التي يتخبّط بها لبنان، يدرك جيدا أنّ الفساد علّة العلل. ولسوء الحظ أنّ هذا المسمى فساداً بقي لعقود من الزمن محميا بغطاء سياسي. ولا غرابة في هذا الأمر، فالفساد ينهش جسد الطبقة السياسية. سياسة تقسيم الكعكة سيطرت على الذهنية والعقلية السياسية دون أي رادع. التوظيفات السياسية دون الكفاءة، وديدن اتصالات أعلى الهرم وجدت مكانها بعيداً في جدول التوظيفات. التلزيمات بالتراضي والصفقات فعلت فعلها في خارطة المشاريع. الهندسات المالية والسياسة النقدية المجحفة لـ"تنفيع" المصارف من أموال الشعب بقيت لسنوات وسنوات. سوء الإدارة والعشوائية وقلّة المسوؤلية في مقاربة الملفات كبّدت الدولة هدراً بملايين الدولارات، وغير ذلك الكثير من أوجه الفساد التي كلّفت المواطن اللبناني حياة تغيب فيها أدنى مقوّمات العيش، حياة لا وجود فيها لأبسط الحقوق والمتطلبات.

بموازاة هذا الواقع، ثمّة متورطون معروفون ومكشوفون بالأسماء منذ سنوات. جُلهم يندرج في سياق فساد الطبقة السياسية. لكن للأسف، يتمنى المواطن أن يرى وزيراً أو نائباً أو مسؤولاً خلف القضبان، وحتى اللحظة تصب تمنياته في خانة "الأمنيات". كثيراً ما كان يقال إنّ محاسبة السياسيين من الصف الأول تحتاج الى تشريع وقوانين تُسقط الحصانات. كثيراً ما كان يُلقى باللوم على القانون الذي يكبّل المحاسبة ويبني حصناً منيعاً ما بين المسؤول والسجن. اليوم، يبدو أنّ هذه الصورة بدأت تتغيّر. يُعوّل كثيرون على قانون الإثراء غير المشروع الذي وقّعه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أمس الإثنين. وفق حساباتهم، يُشكّل هذا القانون خطوة أولى لمحاسبة الجميع. بموجبه، لا خيمة زرقاء فوق رأس أحد مهما علا شأنه، ما يطرح السؤال عن مدى فعالية هذا القانون في مكافحة الفساد خصوصاً السياسي وجعل الخطأ ممنوعا من قبل الجميع.

الموسوي: من أهم المشاريع التي أنجزت في سياق مكافحة الفساد

عضو كتلة الوفاء للمقاومة مقرّر لجنة الإدارة والعدل النائب الدكتور ابراهيم الموسوي يعتبر في حديث لموقع "العهد" الإخباري أنّ قانون "الإثراء غير المشروع" يعد من أهم المشاريع التي أنجزت في سياق مكافحة الفساد. برأيه، يعد القانون ضروريا من أجل تعزيز الشفافية والعمل الاداري الهادف،  وخلق نوع من المساواة بين المواطنين. وفق الموسوي، يحمل القانون أبعاداً اجتماعية وإدارية مهمة، والاهم  من ذلك كله -برأي الموسوي- أن القانون يطال الوزراء والنواب وكل من يقدّم خدمة عامة سواء كان معيناً ام منتخباً، وبالتالي أي صرف نفوذ أو رشوة لأي موظف ستكون خاضعة لهذا القانون.

 "الإثراء غير المشروع" أقر: هل نرى مسؤولاً فاسداً خلف القضبان؟

القانون يتماشى مع روحية الحكم الرشيد

وفي معرض حديثه عن القانون، يؤكّد الموسوي أنّ ما أقر يشكّل إنجازاً بداخله جملة من الإنجازات، فمن المعروف أن الحكم الرشيد والحوكمة أساسية في كل الإدارات من أجل ضمان عملية إدارية شفافة عادلة خالية من أي فساد، وهذا القانون يتماشى مع روحية هذا النوع من الحكم وبالتالي هو من أهم القوانين التي من الممكن لأي مجلس نيابي أن يقرها. إقرار القانون بالنسبة لعضو كتلة الوفاء للمقاومة فتح بوابة واسعة أمام سلوك لبنان وجهة سليمة على مستوى الإدارة. وهنا يشدّد الموسوي على أنّ أي خطوة إجرائية أو تشريعية ترفع الغطاء عن أي جهة فاسدة وتعريها وتمنعها من استغلال نفوذها خارج إطار وظيفتها المباشرة يعزز ثقافة مكافحة الفساد والادارة الرشيدة والحوكمة. وعليه، نحن لسنا متفائلين فقط، بل نتطلع الى ذهاب هذا المشروع نحو آلياته وإجراءاته التطبيقية لضمان تطبيقه لأن القانون لا يعني شيئاً اذا لم يطبق وهناك الكثير من القوانين في لبنان وضعت كي لا تطبق. لكن الأمر مختلف اليوم -بحسب الموسوي- الذي يشدّد على أننا ننظر اليه من منظور مختلف لأن أزمة البلد الكبرى تتعلّق بالفساد.

أسباب كثيرة أخّرت إقرار المشروع والظروف اليوم اكتملت

لماذا تأخرت هذه الخطوة؟ يجيب الموسوي عن هذا السؤال بالإشارة الى أنّ هناك الكثير  من الأسباب. القانون ليس عادياً بل يحتاج الى دراسة بعمق، وأكثرية القوانين الموجودة لدينا هي قوانين مستقاة من قوانين غربية تنص عليها الأمم المتحدة ومنظمات دولية لمحاربة الفساد. ومن جملة الأسباب -يضيف الموسوي- البطء في التشريع الذي شهدته بعض السنوات، كما هناك أسباب تتعلق بكل لجنة ورئيسها، وأسباب أخرى متصلة بالظروف السياسية التي يمر بها البلد. أما اليوم فالمجلس النيابي من أنشط المجالس على مستوى التشريع، إضافة الى أنّ هناك ظروفا محيطة ناضجة وضاغطة تمهّد لإقرار هكذا قوانين. أكثر من ذلك، فإنّ وصول الفساد الى مرحلة متقدمة في لبنان جعل بعض الدول غير مستعدة لإقامة المشاريع معه اذا لم يوقع على مشاريع واقتراحات قوانين تضمن لها أن لا تذهب المشاريع هدرا ولا تكون طعماً للفساد.  

مخيبر: العمل على القانون جار منذ عام 2009

النائب السابق المحامي غسان مخيبر الذي ترأس اللجنة الفرعية لدراسة مشروع قانون "الإثراء غير المشروع" والتي عقدت 41 جلسة منذ عام 2013 حتى عام 2016، يؤكّد في حديث لموقع "العهد" الإخباري أنّنا عملنا على صياغة هذا القانون منذ عام 2009 وأنجز عام 2016 في لجنة الادارة والعدل، حيث صيغ بحرفية عالية جداً مع أفضل الخبرات الدولية والمحلية اللبنانية بالتعاون مع الأمم المتحدة قبل أن يقر بنحو 16 مادة مع بعض التعديلات، ليشكّل إقراره نقلة نوعية جداً ليصبح لدينا أدوات فعالة على درب مكافحة الفساد.
 
 ما هو الإثراء غير المشروع؟

يعرّف مخيبر مفهوم "الإثراء غير المشروع"- بحسب ما ورد في القانون العتيد- بأنّه "أي زيادة كبيرة في الذمة المالية لموظف عمومي لا يبرّره مدخوله العادي، وبالتالي هو جرم اقتصادي لا يطلب من النيابة العامة إثبات الجرائم الأصلية التي أدت الى الإثراء إنما تكفي الزيادة الكبيرة في الذمة المالية ليتحقق الجرم وينتقل عبء الاثبات على الموظف العمومي ليثبت أنّ هذه الزيادة كانت مشروعة".

 "الإثراء غير المشروع" أقر: هل نرى مسؤولاً فاسداً خلف القضبان؟

من هو الموظف العمومي؟ يلفت مخيبر الى أنّ تعريف الموظف العمومي واسع جداً بموجب القانون ويشمل كل من تولى مرفقاً عاماً أو مالاً عاماً. المفهوم يطال كل من في السلطات الدستورية من رئيس الجمهوية مروراً برئيسي الحكومة ومجلس النواب والوزراء والنواب، وليس انتهاءً بالمديرين العامين وكافة الموظفين في الأسلاك العسكرية والمدنية والبلديات، وقد أضيف الى اللائحة موظفون قد يكونون تقاضوا رواتب أم لا كالمستشارين وموظفي القطاع الخاص اذا كانوا مسؤولين عن إدارة مرفق عام أو منشأة عامة".

الذمة المالية باتت أكثر شمولية

ويلفت مخيبر الى أنّ القانون اللبناني اعتمد نظاماً جديداً للذمة المالية يقوم على اعتماد الذمة المالية والمصالح. بمعنى، أن التصريح عن الأموال في القانون القديم اقتصر على الأموال المنقولة وغير المنقولة وهذا التصريح خاضع للسرية التامة. أما حالياً، فالذمة المالية لا تعتمد فقط على الأموال المنقولة وغير المنقولة بل تتعداها الى المداخيل والديون التي من الممكن أن تعطي صورة عن الذمة المالية، بالإضافة الى المصالح. يعطي مخيبر مثالاً على ذلك، اذ لا يمكن أن يكون الموظف وزيراً للاتصالات ولديه شركة اتصالات. في هذه الحالة هناك تعارض  في المصالح، والتصريح عن المصالح يبرز هذه الاختلافات.

للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد الحق في فتح المغلفات والتحقق من صدق التصريحات

ويؤكّد المتحدّث أنّ التصريح عن المصالح يكون سرياً، لكن القانون يعطي الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد -التي أقرت بموجب قانون وبقي تعيينها- يعطيها صلاحية التحقق من كل هذه التحقيقات، وهذا لأول مرة يحدث بحيث تكون التصريحات سرية إلا على الهئية. الأخيرة وظيفتها فتح المغلفات والتحقق من صدق التصريحات لأنّ التصريح الكاذب جريمة بحد ذاتها بمعزل عما اذا كان هناك جرم إثراء غير مشروع أم لا. وبحسب مخيبر، بإمكان الهيئة التحقق من الذمة المالية ومقارنتها مع التصريح السابق، كما أن تقديم الشكوى ومراجعة الهيئة مجاناً، وهذه نقطة جديدة تضاف الى ميزات القانون. وهنا يعتبر مخيبر أنّ التصريح عن الذمة المالية المودعة ليس الدليل الوحيد على الاثراء غير المشروع بل إحدى القرائن التي تساعد على الملاحقة. وفق مخيبر، يمكن إثبات الاثراء غير المشروع بكل وسيلة من وسائل الإثبات وليس فقط عبر التصريح المالي.

وفي سياق حديثه عن التحديات، يلفت مخيبر الى أنّ التحدي الحقيقي اليوم هو أن يقوم جميع الموظفين العمومين من الفئة الثالثة وما فوق بالتقدم بتصريحات جديدة عن ذمتهم المالية خلال ثلاثة أشهر من تاريخ صدور القانون. بموجب القانون -يوضح مخيبر-  هناك نموذج جديد كامل وتفصيلي على الموظفين العمومين تعبئته تحت طائلة سقوط وظائفهم.
 
ماذا عن "شماعة" الحصانات؟
 
أما في ما يتعلق بقضية الحصانات، فقد أثير لغط كبير حول المادة 11 من القانون التي نصّت على أنّ الإثراء غير المشروع هو من الجرائم العادية التي لا تخضع بالنسبة للوزراء ورؤساء الحكومات لصلاحية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. وفق القانون، تندرج في سياق صلاحية المحاكم العدلية العادية. هذا الأمر -برأي مخيبر- مهم جداً وعلينا أن نتذكر أنّ الإثراء غير المشروع ليس فعلاً جرمياً بل جرم اقتصادي، ومن الممكن أن يحصل خلال تولي الوظيفة أو خارجها. إنه جريمة خطيرة لا يمكن أن ترتبط بأداء أي وزير لوظيفة عامة. أما بالنسبة للنواب، فالنائب ليس خاضعاً للمحاكمة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء بل أمام المحاكم العدلية العادية، وهذه من الأخطاء الشائعة - بنظر مخيبر- فالنائب يتمتع بالحصانة أثناء الدورات العادية والاستثنائية، أما خارج هذه الدورات فيلاحق كأي مواطن عادي. وفي حال انتهت ولايته يلاحق أيضاً، ويبقى رئيس الجمهورية بالنسبة للجرائم العادية والسياسية وحده خاضعاً للمحاكمة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء لتبقى الحصانة عليه وهناك أكثر من مشروع لتعديل الدستور، يضيف مخيبر.

هل من الممكن أن نجد مسؤولاً فاسدا ًخلف القضبان؟ لا ينكر مخيبر أنّ الفساد في لبنان هو فساد بنيوي لا يعالج سوى بإصلاحات بنيوية، وقانون "الإثراء غير المشروع" هو أداة من أدوات عديدة وجدية وفعالة يجب أن ترفد بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لأنها ستتولى الملاحقات والتحقق من التصريح عن الذمة المالية وتطوير القضاء، وبالتالي هناك مجموعة من الإصلاحات التي تساند بعضها البعض وقانون "الإثراء غير المشروع" يعد خطوة نوعية رئيسية تزيد من ترسانة مكافحة الفساد في لبنان، ويجب أن يجري ربطها بقانون حماية كاشفي الفساد لأن من يكشف الفساد يستفيد من حمايات وحوافز مالية. كل هذه الأدوات القانونية تزيد من فعالية مكافحة الفساد -يقول مخيبر- أما الفساد الكبير فهو فساد مقونن عبر استغلال مناصب وغيرها. 

الاثراء غير المشروع

إقرأ المزيد في: خاص العهد