يوميات عدوان نيسان 1996

نقاط على الحروف

حين نلقم النيران أحلامنا
14/10/2020

حين نلقم النيران أحلامنا

محمد عيد - سوريا

كانت روعة الغابات المحيطة بقريتي ديرماما وبقية الضياع في منطقة مصياف وصولًا إلى جبال القدموس الرائعة تشكل التعويض المعنوي الجمالي لحالة الفقر المزري الذي كان يعيشه أغلب سكان هذه المنطقة. فتحت فيء شجرة وارفة الظلال في حرش منسي إلا من أنفاس وحوش الغابة، كان بإمكاننا أن نطلق العنان لأحلام الثراء ونحن نتوسد العشب صيفًا، أو نحتسي المتة في يوم عاصف قرب موقد نار في كهف حجري صنعته الريح على مرسم صخرة استغرق تكوينها المبدع قرونا من التأني الخلاق.
 
 كان الهروب إلى الغابة في ذلك الهزيع المبكر من العمر، يشكل طوق النجاة لكل من استبد به همّ، أو أثقلت نفسه قلة ذات اليد، فهنالك بين أشجار الدلب والسنديان والصنوبر كان لكسرة الخبز مع البصل اليابس طعم يفوق أشهى موائد المترفين لذة، وكان لكأس الشاي الساخن مع الجوز اليابس في ليلة وسمها الثلج بنقائه طعم يختصر كل عناوين الترف.
 
كنا آنذاك أصحاب ثروة طبيعية لا تعرف النفاد، بسطاء مترفين بمال الجمال المنتشر على امتداد الأفق، نملك من مفاعيل سحره ما يجعلنا دائما على حافة الجسر الذي قد يعبر بنا في أية لحظة إلى عالم الأمنيات.
   
شاءت الظروف أن أغادر ديرماما إلى دمشق مخلفًا ورائي تلك الثروة الهائلة من السكينة، وأعترف بأنني قد احتجت إلى زمن طويل قبل أن أتقبل فكرة أنني لن أشرع نافذتي بعد اليوم لذلك الأفق الساحر الذي تختبئ وراء ضبابه حكايا العجائز، عن الجن الذين يستوطنون الغابات، ليتربصوا بعابريها، فمن كانت نفسه آثمة وقع في شباكهم، أما أولئك الطيبون الحالمون فيقعون في نفوس الجن موقع المحبة، فلا عجب أن يكشفوا لهم عن  تلك الكنوز المخبوءة في الأحراش البعيدة بعد أن يفكوا عنها الرصد.

ورغم كل ذلك، كان بإمكاني أن أنهل من ذلك الجمال المتراكم في نفسي وأنا أقضي أيامي بين تلك الكتل الإسمنتية المسماة على سبيل المجاز بالمدينة، أدخل واحة الحلم أنى شئت قبل أن أكمل المسير مجددًا في صحراء العمر، إلى أن وقع ذلك الأمر الذي لم يكن في الحسبان.
 
على مدى سنوات الأزمة كانت أخبار الحرائق التي تلتهم غابات منطقتنا تصل إلى مسامعنا فنحترق بلهيبها مثل أي شجرة في تلك الأرض أتت عليها النار. أما صور النيران الممتدة على مساحات شاسعة من جبالنا فلم تكن في الحقيقة غير جغرافيا الحنين الخامدة التي قادتنا دروبها الوارفة يومًا إلى كنوز الجمال.

تصحرت النفس قبل الأرض، بعد أن أتت النيران على الأحلام والذكريات.
عند هذا المنعطف النفسي الحاد من الخيبة، أيقنت اليوم أنني قد أصبحت مفلسًا كما لم أكن في يوم من الأيام، بعد أن ألقمت ثروة العمر كله للنار، وأن هنالك من يستطيع أن يسرق أشجار أحلامنا الوارفة ويحولها في لحظة إلى مجرد حطب يابس يوقده في الشتاء.

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف