يوميات عدوان نيسان 1996

آراء وتحليلات

الوعي المفقود في واقعة استجداء الانتداب..
24/09/2020

الوعي المفقود في واقعة استجداء الانتداب.. "الاحتلال"

د.علي رباح - باحث وكاتب سياسي وفي الادارة العامة

هل يُمكن أن تكون حقيقةً تلك الحادثة، مجموعة وقفت أمام "الكولونيالي الجنتلمان"، المشبع بالفشل والآتي من تجاربه الصفراء السلبية في بلاد لم تكن يوماً، وبالحد الادنى منذ تعرفنا على تاريخها الذاهب عميقاً في احتلال الشعوب، لم تكن يوماً سوى تآمرية استغلالية حليفة طبقة الكومبرادور لسرقة الشعوب وسحقها.. وقفت تستجديه ليعيد احتلالنا أو انتدابنا بالمعنى الملطف للكلمة. ولست متأكداً إن كان معظمهم بريئاً، لأنني أكاد أجزم أن جلهم ما زال ينظر الى الدول الغربية كجمعيات صديقة للإنسان والبيئة رغم كل التجارب المريرة التي تتمحور حول فكرة جوهرية واحدة مفادها:"أن هذه الدول لا تقيد في حساباتها الا ما وافق مصالحها حتى لو اضطر الأمر للتضحية ببعض الاتباع أو كلهم .."، مع الاشارة الى أنني لا أقدم العذر لأي أحد من المصابين والمجروحين لأن الهروب من الطبقة الفاسدة لا يسيغ لنا الارتماء في احضان المستعمر، نعم قلبي ووجداني يئن لأجلهم، ولكن ليس الى حد التخلي عن حريتنا واستقلال بلدنا، فوجع الانسحاق المعنوي امام دول الهيمنة يتجاوز بألمه الوجع المادي من جراء الحوادث والحروب وغيره.

هذه الحادثة الغريبة والخطيرة بكل أبعادها، والتي تكشف عن اختلالات عميقة في الوعي وتشكله في شريحة ليست قليلة من المجتمع اللبناني، ولست أقصد فقط الذين قاموا بهذا العمل الشنيع، إنما ايضاً المؤيدين له والمبررين لفعله وحتى الساكتين عن اتخاذ موقف رافض ازاء هذه الانتكاسة الوطنية التي تتجاوز بحجم خطورتها وأضرارها خطورة وأضرار الانفجار ولمراتٍ مضاعفة.

والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يتشكل الوعي وخصوصاً الوعي السياسي منه في العقل الفردي والجمعي الدافع لاتخاذ هكذا مواقف؟

إن تفسير عملية تشكل الوعي مسألة عويصة نسبياً، وكانت ولا زالت محط نقاش العديد من الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع، ولكن لربما استطعنا تعداد بعض الامور التي تساعد في هذه العملية الديناميكية وتُعتبر من المداميك الاساسية في هذا المضمار كالتربية والمنهج التعليمي والمجتمع والجماعة والاعلام ثم الاعلام ثم الاعلام، والتحدث عن المناهج التعليمية والاعلام ولو باقتضاب ضروري.

أقر المستعمر مناهجنا التعليمية قبل أن ينسحب عسكرياً من دولنا، وحافظ عليها بحرص ليس مستغربًا، وما المبلغ الـ 15 مليون دولار المقدم من جمعية "الرئيس الفرنسي ماكرون" الخيرية (...) لمدارس معينة الا في هذا السياق، ويُناط بهذه المناهج إنتاج عقولِ منمطة، تقنية، مبرمجة لتدمير نفسها ومن حولها، ومسيطر عليها سيطرة مالك "الريموت الكونترول" على الروبوت البشري، وتتخرج هذه الانماط لتكون جاهزة للسقوط في ثقب الاعلام الاسود، تتلقف التلقين فلا تحلل، ولا تتجرد، فاقدة للمعايير العقلائية والموضوعية، تحمل هذا التلقين وتدور فيه متبجحةً بما تحمل.

والنتيجة، ماذا؟ مشهدٌ سريالي درامي، بشرٌ فقدوا الهوية، أو لا هوية لهم، يستجدون الاستعمار ليعود اليهم، حاملاً معه كل ارثه الكولونيالي، مع تحديثٍ ابداعي، عمل على اسقاط الشعوب من الداخل، بوسائل مختلفة: أنظمة اوريولية وضعها هو، كومبرادور اقتصادي اشترك معه في عمليات سحق اقتصادية، اعلام مجند عمله زرع بذور الشك تجاه الضحية المطالبة بالتحرر، وتسليط الاضواء عليها وكأنها سبب الكوارث وجعلها في انظار الشعوب مصدر الالام الامنية والاقتصادية، من خلال فبركات ممنهجة وضخ كثيف لمغالطات في الاخبار، وبرامج "التوك شو" والفكاهة السياسية، ووسائل التواصل حيث يعشش الذباب الالكتروني، وكل هذا في اطار بروباغندا تراجيدية تصور سعي الخروف لمجابهة الذئاب الطيبة والانسانية ذنباً لا أخلاقياً وارهاباً يقوض على هذه الذئاب الافتراس بسلام.

"تعالي ايتها الشعوب الينا، واعلموا أن حركاتكم التحررية لم تجلب لكم سوى الفقر والحروب، دعونا نحتلكم ونأخذ ثرواتكم لنحتفظ بها لدينا لتكون بأمان، دعونا نعلمكم ما لا يُتعب عقولكم، تعالوا نستعبدكم فأنتم لا طاقة لكم أن تكونوا احرارا، تعالوا نغتصب نساءكم ونقتل رجالكم الذين يسببون الازعاج او لا يسببونه، ..."  هذا لسان حال المستعمر الناطق باللاتينية في صيغها الفرنسية والانجليزية.

اخيراً، لن تستقيم هذه الأوطان حتى تنفض عن كاهلها الاستعمار الثقافي والتربوي والاعلامي، وتنتج عقولاً قادرة على العمل وفق منهجية واعية ورشيدة، عقول متعلمة تحلل وتميز وتستنتج وتعتبر من التجارب وتشكل وعياً يمكنها من فهم حقائق الامور ولا تنطلي عليها استعراضات الآتين من وراء البحار. وحينها تدرك هذه العقول ان حركات التحرر لم تكن يوماً الا نتيجة الاحتلال والاستعمار وغطرسته وتدخله وتجاوزه كل الحدود، وحينها ايضاً نعلم جميعاً أن التحرر هو اللبنة الأولى الأساسية في "ميكانيسم" تشكل الوعي.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات