يوميات عدوان نيسان 1996

خاص العهد

 معادلة
30/05/2020

 معادلة "القضاة الاستشهاديين": ماذا تعني؟

فاطمة سلامة

قبل فترة، طرحنا سؤالاً بديهياً يخطر على بال أي أحد: ما الذي يمنع القضاء من البت بملفات الفساد؟. وجّهنا هذا السؤال لرئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود انطلاقاً من المهمة المنوطة بالمجلس. الأخير من المفترض أنه يسهر على حسن سير القضاء وعلى كرامته واستقلاله وحسن سير العمل في المحاكم ويتخذ القرارات اللازمة بهذا الشأن. الإجابة نقلتها مصادره عن لسانه بأنّ مجلس القضاء الأعلى لا تحال اليه ملفات الفساد بأكملها، وهو ليس المرجع المختص لتلقي كل القضايا المتعلقة بالفساد أو للتعرف عن قرب على مسار المحاكمات، وفي حال كان هناك استفسار حول ملف معين فنحن جاهزون لسؤال المراجع المختصة عنه. وفي الوقت ذاته، أكّدت مصادر سياسية أنّ عدم البت بملفات الفساد يعود لسببين: شق تقني، وشق سياسي. الأخير يكاد يكون علّة العلل، وأحد الأسباب الرئيسية التي تمنع المحاسبة في لبنان. لطالما كبّلت السياسة العمل القضائي في لبنان وقيّدته بزواريبها الضيقة. لطالما هُدّد قضاة وشُتموا من قبل جهات سياسية كي لا يقوموا بواجبهم المهني كرمى لعيون فلان وعلان. ولطالما أفردت الحمايات السياسية لتمنع المحاسبة عن رأس كثر تورطوا بملفات كبيرة. 

وقد بات معلوماً وواضحاً للجميع أنّ مكافحة الفساد في لبنان تتطلّب قضاء نزيها يُترك له العنان لمقاربة الملفات والحكم بالعدل. وبالموازاة، أثبتت التجربة أنّ محاربة الفساد تتطلّب  إقرار سلّة قوانين تمكّن القضاء وتمنع التدخلات السياسية. تماماً كما تتطلّب قضاة استشهاديين، تلك المعادلة الجديدة التي أرساها الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله في إطلالته الأخيرة. فماذا تعني هذه المعادلة؟ وما الفارق بين القاضي الاستشهادي وغيره؟. 

الساحلي: القاضي الاستشهادي هو القاضي الجريء الذي لا يهمه الموضوع السياسي

المقرر السابق للجنة الادارة والعدل النائب السابق نوار الساحلي يؤكّد في حديث لموقع "العهد" الإخباري أنّ سماحة السيد نصر الله عندما تحدّث عن معادلة القاضي الاستشهادي فهو تحدث عن القاضي الجريء الذي لا يهمه الموضوع السياسي. القاضي الذي يفكر فقط في الملف الذي أمامه ويحكم بالعدل. ذلك القاضي الذي لا تهمه المناصب ولا يركض وراء سياسيين كي يصل اليها. وفق الساحلي، هذه سمات القاضي الاستشهادي في المفهوم اللبناني، لأنّ التركيبة اللبنانية وللأسف جعلت القضاة -مع احترامنا للكثير من الشرفاء منهم- يركضون وراء السياسيين للوصول الى مراكز قضائية تُعتبر في المفهوم اللبناني مهمة،  كالنيابة العامة، قضاة التحقيق ورئاسة محكمة الجنايات، وجعلتهم يهربون من بعض المناصب كمستشارين في محكمة وحتى في محكمة التمييز التي هي أعلى وأرقى محكمة في لبنان. 

لذلك فإنّ القاضي الاستشهادي -برأي الساحلي- هو القاضي الذي يفكر في ملفه وخاصة ملفات الفساد ولا يهمه من هو المتهم بل يهمه الجرم والوصول الى قناعة للحكم على المتهم المجرم أمامه. هل لدينا نماذج من القضاة الاستشهاديين؟ طبعا لدينا الكثير من القضاة الذين لديهم الجرأة للقيام بهذا العمل -يقول الساحلي- الذي يلفت الى أن هناك بعض القضاة المشهود لهم بجرأتهم وعدم الامتثال للساسة وعدم الاهتمام بالمراكز، وهم ينجحون. وهنا يشدد الساحلي على أن القاضي الذي يتلقى أقل كمية اتصالات هاتفية هو القاضي الناجح لأنه يعمل بقناعته وبما يمليه عليه ضميره.

هل دفع قضاة أثمانا جراء عدم امتثالهم للسياسيين؟ يجيب الساحلي على هذا السؤال بالقول " طبعاً، في تاريخ القضاء اللبناني، هناك بعض القضاة للأسف دفعوا أثمانا لأنهم لم يمتثلوا للرأي السياسي  فتم تغيير مواقعهم، وهذه الأمثولة التي أدت الى أن يتغير تصرف بعض القضاة ليحافطوا على مواقعهم". ويؤكّد الساحلي أنه لا بد أن نجد قضاة استشهاديين، ويجب أن نبحث عن أولئك الذين لا يفكرون سوى بملفهم ويغلقون هواتفهم ويغلقون الباب عند المذاكرة ويفكرون فقط بالعدالة، وهذا سيوصلنا الى الهدف الاساسي لمحاربة الفساد من الباب الواسع". 

حزب الله يعمل على اقتراح قانون لعدم تطبيق مرور الزمن على الجرائم ضد الانسانية 

نموذج القضاة الاستشهاديين لا بد من تعميمه في مختلف الملفات. محاكمة العملاء واحدة من تلك القضايا التي تتطلّب قضاة يحكمون بضمير بعيداً عن كافة أشكال التدخلات السياسية. وفي هذه النقطة، يشدد الساحلي على أننا بحاجة الى هذا النموذج، اذ يجب أن يفكر القاضي بطريقة وطنية. تماماً كما يجب أن نبحث عن تعديل القانون بشكل  لا ندع أي مخرج للعملاء ينفذون منه مع مرور الزمن. الثغرة الأساسية في قانون العقوبات الحالي هي سقوط التهمة مع مرور الزمن. وفي هذا السياق، يوضح الساحلي أنّ هناك معاهدة دولية اعتبرت أن الجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب لا يشملها مرور الزمن. لبنان للأسف لم يوقع على هذه المعاهدة، لذلك يجب أن يكون هناك اقتراح قانون في الحكومة أو من مجلس النواب يلزم لبنان بتطبيق هذه المعاهدة، فمسألة العملاء تندرج تحت إطار جرائم الانسانية التي تنص عليها المعاهدة. هذه أهم ثغرة في القانون نطالب بتعديلها يقول الساحلي الذي يشير الى أننا في حزب الله نعمل على اقتراح قانون في هذا الصدد لعدم تطبيق مرور الزمن على الجرائم ضد الانسانية وجرائم الحرب. 

اسماعيل: المحاسبة الشعبية أهم من القانونية 

وفيما تُشكّل -كما ذكر الساحلي- قضية "مرور الزمن" حجر عثرة في طريق محاكمة العملاء، يقارب الخبير الدستوري الدكتور عصام اسماعيل هذه القضية، منطلقاً من قاعدة عامة تقول إنّ العميل لا يمكن إسقاط التهم عنه ولا أحد يتجرأ على هذا الفعل اذ لم يكن هناك جو عام ملائم يجيز أو يغض النظر عن العميل. ما حصل مؤخرا في قضية العميل عامر الفاخوري خير مثال على ذلك، حيث إنّ ضغط الرأي العام وقف سدا منيعا في وجه اسقاط التهمة ليجري اخراجه تهريبا من الاراضي اللبنانية ولكن دون تبرئته. وفق اسماعيل فإن القضاء ما كان ليقوم بخطوة توقيف الفاخوري في الأساس ولمجرد وصوله الى لبنان، لولا الضغط الشعبي والاعلامي قبل أن يضطر كخطوة لاحقة باتخاذ التدابير لتهريبه. ومن هذا المنطلق فإن الفاخوري لم يأخذ عفوا على جرمه من الناحية الشعبية، لأن المزاج العام كان ضد ذلك. يستند اسماعيل الى هذه الحادثة ليقول إنه حتى ولو صدر قانون العفو عن عملاء آخرين فلن يجرؤ أي عميل على مجرد التفكير بالرجوع الى لبنان، من الممكن أن يستغلوا اسقاط التهم في العملية الانتخابية، ولكن عودة هؤلاء العملاء الى لبنان لن تتم. وفق قناعاته فإن المحاسبة الشعبية في هذا الملف أهم من المحاسبة القانونية، والرأي العام يمتلك قوة للتأثير في هذه الملفات.

على القضاء الأخذ بالتفسير الذي يلائم الواقع المجتمعي 

ويشير اسماعيل الى أن قانون العقوبات يحوي التباسات في قضية "مرور الزمن" ما ولّد اجتهادين متعارضين؛ أول قال إنه لا مرور للزمن على العمالة طالما هي مستمرة، وثان قال إن هناك مرورا للزمن. لذلك فإن التطبيق القضائي للنص القانوني اعتمد على أكثر من تفسير، ومن هنا على القضاء -وفق اسماعيل- الأخذ بالتفسير الذي يلائم الواقع المجتمعي. الأخير يقول إن العميل يجب أن يأخذ أقصى العقوبات ما يوجب على القاضي  تفسير النص وفق الارادة الشعبية. يعطي المتحدّث مثالاً على التفاوت في تفسير النص القانوني عندما يكون ظنياً، فمسألة شرب الشاي مع العدو الشهيرة مثلا فسرت في ذلك الوقت على أنها ليست عمالة، لكن لو أن الواقع السياسي كان مختلفاً لجرت محاكمة شاربي الشاي مع العدو ربما بجرم التعامل مع العدو في حالة الحرب. 

طالما العمالة مستمرة يستمر واقع قطع مرور الزمن 

وقد حصل الجدال على مسألة "مرور الزمن" -وفق اسماعيل- لجهة: هل مرور الزمن يسري على العقوبات بعد صدور الحكم، أو على الفعل من تاريخ العمالة؟. وهنا يوضح اسماعيل أنه اذا قلنا على الفعل لا يسقط مرور الزمن لأن العمالة لا تزال مستمرة والهوى "الاسرائيلي" لم يسقط، ووجود العملاء في الاراضي المحتلة لا يزال قائما. وقد استمرت الاشكالية حول سقوط الحكم على العقوبة مع مرور الزمن، وفي هذا الصدد يوضح اسماعيل أنه وطالما أن هذا العميل لم يأت الى لبنان بعد صدور الحكم ويسلم نفسه ولم يسافر الى دولة أجنبية بل بقي في الكيان وتردد فيه، بمعنى أن العمالة بقيت مستمرة حتى بعد صدور الحكم، طالما بقيت هكذا يجب أن يستمر واقع قطع مرور الزمن، يختم اسماعيل.

القضاء

إقرأ المزيد في: خاص العهد