ramadan2024

خاص العهد

قراءة في الخطة المالية الاقتصادية: ما لها وما عليها 
01/05/2020

قراءة في الخطة المالية الاقتصادية: ما لها وما عليها 

فاطمة سلامة

كثيراً ما كنا نسمع انتقادات تتأتى عبر خبراء اقتصاديين ومحللين لجهة أنّ لبنان لا يمتلك خطة مالية اقتصادية. غير مرّة وُضعت الخطط -بغض النظر عن شموليتها أم لا- إلا أنها لم تبصر النور مُطلقاً. اليوم، يبدو أنّ الضعف الذي ينهش عظام الدولة ومؤسساتها، كان دافعاً لفعل أي شيء من العدم. فاجتهدت هذه الحكومة التي ورثت من سابقاتها حملاً مثقلاً بالمديونية، والعشوائية في إدارة الملفات، وسياسة "تلبيس الطرابيش"، اجتهدت لرسم خارطة طريق السنوات القادمة، بعيداً عن ديدن كل يوم بيومه الذي اتبعته الحكومات المتعاقبة. والحق يُقال، فإنّ الجهود التي تُبذل في هذه الحكومة يُثنى عليها وتُرفع لها القبعة. إلا أنّ الفرحة بإقرار خطة مالية اقتصادية -للأسف-لم تكتمل، لمجرّد السماع بأنّ لبنان طلب مساعدة مالية من صندوق النقد الدولي. هذه الخطوة التي ذهبت اليها الحكومة وليدة الأمس مكرهة بعدما وجدت نفسها عاجزة أمام الجرائم المالية والاقتصادية والسياسية التي ارتكبت على مدى سنوات، لا شك أنّ لها ما لها من تبعات في السياسة. وهنا تبرز وجهتا نظر؛ أولى يُدافع عنها العارفون بالأوضاع المالية والنقدية والاقتصادية، والقابعون في صُلب التحديات الصعبة التي يعيشها لبنان. هذا الأمر يدفعهم الى وصف -إقرار الخطة وإن جاءت بمباركة صندوق النقد الدولي- بالخطوة التاريخية. فهذه الخطة تنطوي على إصلاحات كان يحلم بها لبنان، مع ما ستحمله من انعكاسات تُغيّر وجه لبنان الكهل. برأيهم، فإنّ اللجوء الى الصندوق الدولي كان الخيار الأحلى من خيارين مرين، فإما النهوض مع ما قد يحمله هذا الأمر من تبعات، وإما السقوط الى الانهيار والتداعي. 

أما وجهة النظر الثانية، فلا يهمها اللحظة الآنية بقدر ما تقرأ ما وراءها وما بين السطور. وفق قناعاتها، فإنّ صندوق النقد الدولي ليس جمعية "كاريتاس"، بل صندوق له أهدافه السياسية، وبشروط قاسية تهلك المواطنين. وعليه، فإنّ الارتهان لهذا الصندوق يعني التحضر لنتائج لا تحمد عقباها. وما بين وجهتي النظر الأولى والثانية تبرز وجهة تؤيّد الخطة مع إبداء بعض التحفظات عليها. فكيف يُقارب أصحاب السياسة والاختصاص الخطة؟. 

مصادر سياسية: ما حصل إنجاز ولا يجوز قتل الخطة في مهدها

مصادر سياسية تصف في حديث لموقع "العهد" الإخباري إقرار الخطة بالإنجاز الذي طال انتظاره. من وجهة نظرها، فإنّ كل المشاكل الاقتصادية والمالية التي يعاني منها لبنان، لم تكن سوى نتيجة غياب الرؤى الواضحة. بمعنى آخر، عملت الحكومات السابقة على استخدام المسكنات بدل إعطاء وصفات علاجية ترسم أطراً واضحة لكل المسارات. 

وتتوجّه المصادر الى المنتقدين بالقول "لا يجوز قتل الخطة في مهدها". صحيح قد يكون هناك أمور لم نكن لنرضى بها لو جهّزت لنا الظروف منذ سنوات، في إشارة الى صندوق النقد الدولي، لكنّ هذه الخطوة هي آخر "خرطوشة" لدينا وسط الظروف الصعبة التي نعيشها اليوم. وتوضح المصادر أنّ الخطة وللمرة الأولى تتضمن أرقاماً حقيقية وشفّافة حول الواقع المالي والمصرفي في لبنان.

رمال يعرض إيجابيات الخطة مع بعض التحفظات 

عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي الأستاذ عدنان رمال يعرض في حديث لموقع العهد الإخباري وجهة نظره من الخطة، فيرى أنها تنطوي على إيجابيات مع بعض التحفظات. يُشدّد المتحدث على أنه ولأول مرة يكون لدينا خطة مالية خمسية في لبنان. يتحدث رمال عن الايجابيات المالية، برأيه فإنّ الخطة ستسمح بدخول النقد والعملة الصعبة التي نعاني من ندرتها الى البلد، خصوصاً أنّ لبنان لن يتمكن من الحصول على دين من الخارج بعد تعثره وتعليق سداد التزاماته المالية. وبالتالي، لن تدعم أي منظومة عالمية وخارجية حكومة تخلّفت عن الدفع. الا أن ترافق خطة الحكومة مع صندوق النقد الدولي يعطيها غطاء تتمكّن من خلاله مفاوضة الصناديق الاستثمارية العالمية والعربية وغيرهم والدائنين الذين امتنعوا عن التفاوض مع الدولة وهددوها إما أن تكون برعاية صندوق النقد أو نذهب الى القضاء. 

 

قراءة في الخطة المالية الاقتصادية: ما لها وما عليها 

 

وبالتالي، فإنّ ايجابيات الخطة -برأي رمال- تكمن في أنها أوجدت مسارا لتفاوض الدولة اللبنانية الدائنين الخارجيين من خلاله، وفي الوقت نفسه أوجدت لنفسها مساراً دولياً للتواجد في المنظومة العالمية. نقطة إيجابية أخرى يدلل عليها رمال تتعلّق بهيكلة القطاع المصرفي، فهذا الأمر جيد، لكنه هنا يبدي تحفظات حول الطريقة التي تتم من خلالها العملية، ويلفت الى أنّ من يملك 500 الف دولار لا يعد غنياً، بل من المفترض وضع حد المليون دولار لهذه العملية. 

ويتوقّف رمال عند نقطة سلبية تخلق مشكلة كبيرة جداً وهي تحرير سعر الصرف فورا عند الـ3500 ليرة للدولار الواحد. يعطي مثالاً على ذلك، فأي مواطن يتقاضى مليون ونصف مليون ليرة فقد خسر فوراً نصف المعاش، ويسأل هنا: كيف سيعيش خصوصاً اذا كانت عليه قروض؟. وفق رمال، لو يقر تحرير سعر الصرف فوراً لكنا أمام مشكلة كبيرة خصوصاً أن هذا الأمر يؤثر على صندوق الضمان الاجتماعي واللبنانيين والقطاع الخاص. ونحن نتكلّم لو حصل هذا الأمر عن تخفيض لقيمة الليرة اللبنانية بنسبة 133 بالمئة بين ليلة وضحاها، وهذا الأمر غير مقبول مطلقاً. 

نقطة أخرى يتحفّظ عليها رمال تكمن في زيادة الضرائب على الشركات لتصبح 20 بالمئة. يسأل: كيف هذا الأمر ونحن في وضع منكمش والشركات تعاني من وضع صعب، اذ ان نصفها أفلس وأقفل أبوابه؟ ويلفت رمال في سياق آخر الى ضرورة أن تترافق الخطة بعيدة الأمد مع خطة قصيرة الأمد لمعالجة أزمة "كوورنا". 

كما يتحفّظ رمال على وصف الخطة بالاقتصادية. برأيه، ينقصها الكثير من التحفيزات الاقتصادية، فهي تبني أرقامها بطريقة لم تعترف بكل الفترة التي سبقت، وهذا الشيء بالنسبة اليه نقطة ضعف. الخطة برأيه، ليست ذاهبة باتجاه التأهيل الا بالمنظور النظري، عبر تخفيض عدد الموظفين 5 بالمئة سنوياً في القطاع العام لمدة 5 سنوات، وفي الوقت نفسه تمتنع عن تعيين بديل عن المتقاعدين خلال هذه الفترة، وبالتالي فهي تذهب باتجاه ترشيد قاس بالقطاع العام، وهذا الأمر سيحافظ على أموال الخزينة. 

  
مقلّد: الخطة كانت فرصة ولهذه الأسباب لم تعد كذلك
 

بدوره، الخبير الاقتصادي الدكتور حسن مقلّد يقرأ الخطة مستنداً الى حجر الزاوية فيها والمقاربة والخلفية العقلية التي استندت إليها. يقرأها من كافة هذه الجوانب ليقول إنها أتت لتكمل السياسات الماضية منذ 30 عاماً حتى اليوم. تلك السياسات التي وجدت لتقول إنّ البلد مركّب ليكون لديه وظيفة، لا لأن يكون بلداً قائماً مستقلاً بحد ذاته. وأكبر دليل على ذلك -برأي مقلّد- هو القبول بتدخل صندوق النقد الدولي وبرنامجه، خصوصاً أنّ الخطة المالية الاقتصادية العتيدة "معجونة" ومكتوبة على أساس أن التوجه هو لبرنامج صندوق النقد. ماذا يعني ذلك؟ وفق قناعات مقلّد، فإنّ كتابة الخطة بنفَس وطني نابع من طاقات وإمكانات لبنانية مطلوبة، مع أخذ مباركة الصندوق بالختم لمساعدتنا للتوجه نحو صناديق أو دول ثانية شيء، وكتابة الخطة وطباعتها وفقاً لشروط صندوق النقد -كما هو حاصل اليوم- شيء مختلف تماماً. بأي معنى؟  يُفصّل مقلّد أكثر، لافتاً الى أنّ ركائز الخطة الأساسية انطلقت من ورقة شركة "لازار". الأخيرة خضعت لنقاش مطوّل وانتقادات  ما اضطر الحكومة للتراجع عنها قائلةً انها مجرد أفكار، ليجري القبول اليوم بما هو أقسى مما نصّت عليه ورقة "لازار". على سبيل التبسيط، يقول مقلّد "فعندما نصّت ورقة لازار على أن يكون سعر صرف الدولار 2925  في عام 2022، رفض صندوق النقد الدولي هذا الحديث واشترط عليهم أن يكون 3500 ليرة عام 2020"، ما أدى الى تغيير الخطة الحالية والالتزام بمقولة صندوق النقد ووضعوا سعر صرف بـ3500 ليرة في عام 2020". 

قرارات موجعة على الناس 

مثال آخر يضربه مقلّد ليُبيّن ضرر الخطة على الناس. كانت نسبة التضخم 25 بالمئة هذا العام، رفض صندوق النقد هذه النسبة، فالتزمت الحكومة ورفعتها الى الـ53 بالمئة. هذه النسبة جرى رفعها بموازاة إقرار تجميد رواتب القطاعين العام والخاص خمس سنوات كاملة، والقبول بتحرير سعر الصرف للرقم الذي ذكرناه سابقاً، ووضع حزمة ضرائب، ورفع كافة أنواع الدعم والحمايات. كل ما تقّدم سيكون له انعكاسات -وفق مقلّد-  على القدرة الشرائية لدى المواطنين. تلك القدرة وعلى مدى 5 سنوات ستكون أقل بـ20 بالمئة من القدرة الحالية، وهذا كله إذا تم ضبط الأسعار. هذه كلها -وفق مقلّد- شروط أساسية لصندوق النقد وهذا ما نرفضه. 

 

قراءة في الخطة المالية الاقتصادية: ما لها وما عليها 

ويوضح الخبير الاقتصادي أنّ الخطة كرّرت أكثر من ست مرات ما فحواه "أن لا إمكانية لأي تعاون مع أي جهة خارج إطار برنامج لصندوق النقد"، وليس شكل مساعدة تقنية. وهنا يتطرّق مقلّد لقضية احتساب الخسائر التي أحصتها ورقة "لازار" عند عتبة الـ82 مليار دولار، مع الاشارة الى وجود عيوب بنيوية تتعلّق بالهيكل المالي. اليوم رفعوا الخسائر داخل الخطة الى 159 مليار دولار، الرقم الذي يُكبّر الحجر لدرجة كفيلة بالقول لأي كان لا خيارات ولا إمكانات لدينا سوى للقيام بهذه الطريقة. فاذا كان احتساب الخسائر صحيحا، فهم لا يقولون لنا إنه لن يكون هناك هواء، بل يجب رهن البلد بأكمله. ويشير مقلّد- الى الجزئية الموجودة في الخطة والتي تتحدّث عن إعادة هيكلة القطاع المصرفي ومصرف لبنان دون القول بوضوح ما النموذج المالي أو الاقتصادي الذي سنصل له لتجري تلك الهيكلة على أساسه. 

ويتطرّق مقلّد أيضاً الى قضية الخصخصة، فيوضح أن الخصخصة المطروحة داخل الخطة هي خصخصة كاملة من أملاك الدولة الى المؤسسات وكل شيء. برأي المتحدّث، فإن عناوين الخطة براقة ولكن عندما نتوسّع فيها نجد أن كافة السياسات الماضية التي عانينا منها موجودة بداخلها ومكرّسة ومرتبطة بالصندوق. وهنا يُسجّل الخبير الاقتصادي ملاحظة لجهة ما يقال عن أن أرقام احتساب الخسائر غير صحيحة، وهذا الكلام -برأيه- صحيح، ويسأل: بناء على أي أرقام انطلقوا لاحتساب الخسائر؟ أليس كان من الأجدى أن ينتظروا التحقيق المالي الفعلي ليعلنوا المعطيات والأرقام؟ ويوضح أنّ بإمكاننا الاستنتاج وباحتساب بسيط من خلال ورقة شركة "لازار" التي قالت إن الخسائر 82 مليار دولار أنّ نصف هذه الخسائر لديها ضمانات موجودة بالامكان أن تعوّض فوراً، وبالتحديد القروض الهالكة في القطاع المصرفي، لأنّ مقابل هذه القروض هناك ودائع لنفس الأشخاص المقترضين لها، إضافة الى كمية العقارات الموجودة كضمانات والتي تشكّل أقلها مرتين ونصف من قيمة القروض. ولهذا السبب، يقول مقلّد، فإنّ تكبير الحجر بهذه الطريقة وللتعمية غير مقبول. 

لدينا خيارات بديلة ومختلفة 

ينطلق الخبير الاقتصادي مما تقدّم، ليؤكّد أن لدى لبنان مقاربات وخيارات بديلة ومختلفة تماماً عما هو مطروح اليوم. فأهل السياسة يقولون إن الحاجة الفعلية هي بين عشرة وخمسة عشر مليار دولار، علماً أن هناك دراسات تؤكّد أن الحاجة تتراوح بين ستة الى عشرة. برأيه، فإنّ مبلغ العشرة مليارات دولار على الاقتصاد اللبناني ليس مبلغاً مهولا ومرعبا، بل بالإمكان الإتيان به في حال تمكنا من القيام بسياسة للنفط مثلاً، اذ نستطيع أن نقترض من أي بلد صديق نفطا مؤجّلا دفعه لمدة عامين. هذا الاقتراض يؤمّن لنا عشرة مليارات دولار، حسب مقلّد. وأيضاً بإمكاننا تحصيل المبلغ المذكور  من مستثمر استراتيجي للكهرباء. ولكن يأسف مقلّد فمنذ يومين تبخّرت الفرصة التي كانت متاحة مع الاتحاد الأوروبي، لأنهم اعتبروا أن لا طرف في لبنان لا يريد الصندوق. ويؤكّد مقلّد إنه باستثناء المقاومة، كل الأطراف مقتنعة بصندوق النقد.
 
صندوق النقد ليس جمعية خيرية

ورداً على سؤال، يقول مقلّد "إنّ صندوق النقد ليس جمعية خيرية، فليدلنا أحد على بلد في العالم بأكمله، دخله برنامج صندوق النقد ونجح. نستدل على ذلك -برأي مقلّد- من خلال التجربة الماليزية، وشهادة رئيس الحكومة الماليزية السابق مهاتير محمد  الذي قال إنّ كل شيء أوصانا به الصندوق قمنا بالنقيض منه ونجحنا. وأيضاً البرازيل التي أخذت 16 توصية من الصندوق ونفّذت النقيض، لتتحول خلال 5 سنوات من بلد مديون الى سادس أكبر اقتصاد في العالم وحلت حينها مكان بريطانيا. فليعطنا أحد نموذجا واحدا نجح فيه صندوق النقد بلا وصاية وتعزيز الفساد، يضيف مقلّد الذي يشدّد على أنّ كل الجهات التي تعتقد أنّ صندوق النقد يحارب الفساد مخطئة، فالصندوق هو الذي غطى لأكثر من عشرين سنة فساد الطبقة السياسية اللبنانية. 

وقبل أن يختم مقلّد حديثه، ينوّه الى أنّ شركات التدقيق التي تطالعنا بين الحين والآخر، ليست جمعيات خيرية ولم تهبط علينا من المريخ بل هي شركات لها ارتباطات وامتدادات، فالشركة الأخيرة التي اعتمدت للتدقيق في ميزانية مصرف لبنان، هي شركة معروفة الادارة والجنسية والانتماء، وهذه الشركة عندما وُضع بنك الجمال على لائحة العقوبات، بقينا في مفاوضات مريرة لأكثر من أسبوع مع وزارة الخزانة الأميركية التي اشترطت أنّ هذه الشركة حصراً بالعالم هي من ستدخل بالملف. 
 
ويختم مقلّد حديثه بالتشديد على أنّ الخطة كانت فرصة ونقطة تحول للذهاب باتجاهات أخرى، ولكنها للأسف تكرّست في الاتجاه الذي نذهب اليه اليوم.

الدولارالليرة اللبنانية

إقرأ المزيد في: خاص العهد

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة

خبر عاجل