يوميات عدوان نيسان 1996

آراء وتحليلات

درس واشنطن.. هل فهم الأتباع العرب؟
05/03/2020

درس واشنطن.. هل فهم الأتباع العرب؟

أحمد فؤاد

حين عبر الأوروبيون المحيط الأطلسي، لتستقر جيوشهم، وبجوارها وقبلها، بعثات النهب والسرقة على الضفة الأخرى من العالم، جرى تعميم وصف كولومبس، عن السبب الأول لتحرك الجيوش: "الذهب".. والذي تحوّل مع عصر "التسويق الأميركي" لكل دناءة وسقوط بشري مروع، إلى كلمة أكثر احترامًا وهيبة: "المصالح"، تصلح ككلمة منمقة تجري على ألسن أصحاب الياقات.

الفارق الأساس والرئيس بين حرب دفاع مشروعة واعتداء استعماري، هو أخلاقية الحرب، ومدى قدرة طرفيها على حشد الرأي العام - المحلي أولًا - ثم الإقليمي والدولي، حول مشروعيتها، لتضمن خلق تيار موالٍ لحركتها، وأصوات مرددة لأفكارها وكلماتها، على امتداد القارات، والأهم استمرار حشد جهود شعبها، وبذل العرق والدم اللازمين لفرض إرادتها على الطرف الآخر، وهو أقصر وأفضل تعبير للنصر.

أما أقرب طريق للهزيمة، فهو التبعية، التي ترزح تحتها أغلب الشعوب العربية، التي أسقطت - أو أُجبرت على إسقاط - المقاومة من خياراتها. مهما تماديت في خدمة الغرب، ومهما طال وفاؤك لهم واتباعك لأوامرهم وكلماتهم، وإشادة إعلامهم الشيطاني بك، فلا بد من إلقاء عظامك للكلاب تمضغها بعنف. وهذا هو ملخص قصة مصر - كامب ديفيد مع سد النهضة، حتى حين استجار النظام المصري بدونالد ترمب، وطلب وساطته لحل أزمة سد النهضة الإثيوبي، الذي يهدد فعلًا مورد الماء الوحيد لأكثر من 100 مليون إنسان، فقد ساعد الإثيوبيين في كسب المزيد والمزيد من الوقت، وأضفى مشروعية الأمر الواقع على تصرفهم.

في قضية مصر مع سد العطش، أو النهضة الإثيوبي، لن تجد مثالًا أفضل منه على الحقوق المشروعة المهدورة، والأهداف التي لا تقبل الجدل لكنها جوبهت بالتجاهل والعناد.. المياه التي تأتي من نهر النيل تضمن 95% من احتياجات مصر المائية، وتعاني البلاد عجزًا يتزايد بنفس معدل التزايد السكاني، ودخلت بالفعل مرحلة الفقر المائي منذ بداية الألفية، ووجود سد ضخم على النيل، يتجاوز احتياجات إثيوبيا، يعد تهديدًا بالقتل الجماعي لشعب كامل.

والأهم، ترك النظام المصري أنظمة الخليج، حلفاءه المفضلين، دون أن يستعين بهم، والدول الخليجية بشكل عام تعد أكثر المستثمرين في إثيوبيا، ومجرد التلويح بسحب الأموال كان سببًا سيجعل أديس أبابا تفكر مرتين قبل شراء عداء محيطها كله بالسد.

دخلت مصر معركة الحياة أو الموت، أو قل معركة الموت فقط، تابعة بالكامل للغرب والولايات المتحدة، دولة بلا إرادة، ووضع داخلي متفكك وأرضية متشققة، وبناء على وشك الانهيار، ونظام حاكم يراعي زيادة وتعميق الهوة بين أطراف المجتمع وقواه، بل واستعداء بعضها على بعض لضمان استمراره، وحيدًا، ينعق على أطلال خربة.

وتنازل صاحب القرار نهائيًا، حين قبل بوساطة أميركية، ومن البنك الدولي - ولا يدري أحد ما هو موقعه القانوني أو السيادي على طاولة المفاوضات - على حقوق السبب الأساس للحياة ذاتها، متجاهلًا مسؤوليته ومهدرًا حقوق الوطن، مقدمًا، ليخرج في النهاية بورقة لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به، تسلم بكل مطالب إثيوبيا، وتخفض حصة مصر بمقدار الثلث، ورغم ذلك فإن النظام الإثيوبي حين أدرك العجز وقلة الحيلة، فقد رفض التوقيع، وترك وزير الخارجية المصري يوقع الاتفاقية وحده، في مشهد يصلح لمسرحية عبثية تدمي القلوب والعيون!

ولحديث الأرقام شجون خاصة في قصة النيل المغدور، تبلغ حصة مصر طبقًا لاتفاقية 1959 نحو 55 مليار متر مكعب، تنازل الوفد المصري مقدمًا عن ثلثها (1/3) ووافق قبل أي مفاوضات على التنازل عن 14 مليار متر مكعب منها، لضمان ملء بحيرة السد الإثيوبي خلال 4 سنوات فقط، ودون الوضع في الاعتبار سنوات الجفاف (الفيضان الشحيح)، وهي سنوات دورية في حوض النيل.

حجم البحيرة خلف سد النهضة هي 74 مليار متر مكعب تقريبًا، تصر أديس أبابا على ملئها خلال فترة لا تتجاوز 4 سنوات، وتعضد موقفها اتفاقية "إعلان المبادئ" المروعة، وبالتالي فإن مصر مهددة بفقدان نحو 14 مليار متر مكعب سنويا من حصتها البالغة 55 مليارًا، مع الوضع في الاعتبار إن نقص مليار متر مكعب فقط يعني توقف الزراعة في مائتي ألف فدان، لن تصلها المياه، أي أن 2.8 مليون فدان ستكون أرضًا بورًا خلال فترة ملء السد، ومع الاتجاه الأكيد لتعويض جزء من الحصة عن طريق بحيرة ناصر (بحيرة السد العالي) فإنها مهددة هي الأخرى بالجفاف.

ولم يكن غريبًا في هذا السياق أن يلف الصمت غلالة سوداء على رقبة كل جريدة وبرنامج ولقاء، يجري في أجهزة إعلامية تابعة للنظام، حين هدد رئيس وزراء إثيوبيا بالحرب وحشد مليون مقاتل ضد من يمس سد النهضة.. فجأة ابتلع الضباب ترانيم التسليح الجديد متعدد المصادر، وأصبحت الحرب "خيارا صعبا في وضع دولي مأزوم"، وانكشف زيف دعاوى الإنفاق الهائل على مشتريات من المجمع الصناعي العسكري الغربي: (الولايات المتحدة – فرنسا – ألمانيا)، واكتشفنا أن أرصدة البلاد الدولارية القليلة بُددت هباء تذروه الرياح، عوضًا عن إنشاء صناعة وطنية قادرة على التطور وتوفير البديل المحلي لبعض ما يتم استيراده، وانتصرت وجهة نظر السماسرة، وحصدوا عمولاتهم الهائلة على صناديق مكدسة في مخازن، لن تجد اليد التي تحملها بحقها من الطبقة الحاكمة الحالية.

باختصار، كان من المنطقي والبديهي، أن تسخر إثيوبيا من أي تلويح مصري بحرب، كما يسخر منه مصريون عاديون، يعلمون أن النظام لن يورط نفسه في صراع عسكري يكشف ترهله وضعف بنيته، ولن يسمح له مشغلوه بالتسبب في إشعال الإقليم، وليذهب 100 مليون مصري للجحيم.
وبعيدًا جدًا عن السياسة، المعرضة لتقلبات حادة، والتي لا تخضع بطبيعتها المتحركة والسيالة لمعادلة تحكم أو مؤشر يقيس، فنحن أمام تحد وطني بامتياز، ينطبق عليه الوصف بتجرد كامل، وكان أجدر بقيادة وطنية، تستطيع أن تمضي في طريق الأماني والحقوق المشروعة لشعبها، بقوة واندفاع هائلين، معززة بالحق والتاريخ، والقوة التي يوفرها الإجماع الوطني الكامل، والتام.

لكن، ولأن القضية حرفت منذ البداية، وصارت مجالًا لـ "الردح"، فإن الإعلام الداعم للنظام، والممول بالكامل من أجهزته، سارع فور توقيع وثيقة إعلان مبادئ سد النهضة للترويج "لانتصار كبير" على من يطلقون عليهم وصف "أهل الشر"، ولا أحد يعرف بالطبع أي شر ألعن من التفريط في مياه تجري في مصر منذ خلق الأرض، وقبل حتى سكنى الإنسان لوادي النيل!.

النظام الذي وجد ذاته أمام وضع مأساوي، اختار ببساطة التجاهل، والسير في اللعبة الإثيوبية البلهاء - أيضًا - لكسب الوقت، وترك الفضاء ملكًا حصريًا لدجالين عصريين يرتدون أحدث صيحات الموضة والأزياء، ويتحدثون لغة الغرب وبلسانه، وتتألق حولهم أضواء الكاميرات، ويتلفظون بالغريب المنسي من الكلمات، التي تبدو مضخمة وتحمل معانيَ قادرة على تغيير البلاد والعباد، وهي في حقيقتها طبل أجوف، لا يطرب ولن يغني من كارثة قادمة، وقريبة.

مصر

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات

خبر عاجل