ramadan2024

نقاط على الحروف

أزمة أميركا المستعصية
23/12/2019

أزمة أميركا المستعصية

عبير بسّام

 

شهدت المنطقة، ولبنان بالذّات، زيارات أميركية متعددة، وتوالت معها تصريحات: منها الغث ومنها السمين، والتّي تدخّلت بشكل مباشر في السّياسات الدّاخلية. واتخذت التّحركات طابعاً عنفياً في لبنان والعراق. وتوازت الأحداث في لبنان والعراق مع الاحتلال الأميركي لمنابع النّفط في شرق الفرات في سوريا. ولا تنأى التحركات الأميركية في العراق عن سياق الهيمنة التي تحاول أن تفرضها في المنطقة، والتّي تترافق مع العقوبات الاقتصادية التّي تنهال بها يميناً ويساراً عبر العالم والمنطقة. وبعد قرن من الحروب خاضتها أمريكا من أجل السيطرة على العالم، باتت اليوم سبل هيمنتها معضلة تؤرقها.

منذ سبعين عاماً، لم يأل الأميركيون جهداً من أجل تحقيق الأمن والرفاهية لمستوطني الكيان العبري، لأن هؤلاء لا يمكن لهم الاستمرار في استيطان فلسطين العربية إلا من خلال تأمين الأمن الاجتماعي والاقتصادي لهم، وإلّا فإن خيارات العودة الى البلاد التّي جاؤوا منها، مفتوحة أمامهم.

وبالتاّلي فإن الأموال الطائلة التّي دفعها الأميركيون منذ نهاية الحرب العالمية الثّانية وحتى اليوم، ستذهب هباءً، وسيذهب معها المردود الاقتصادي الذّي يفترضه وجود الكيان العبري كحاضنة للشّركات الأميركية التّي تعمل في المنطقة العربية وفي دول الخليج المطبعة أدراج الريّاح. وبالتّالي ستدفع أمريكا ثمن الخيار الإسرائيلي الغبي بالعملة الصّعبة.

بالطبع، لم يكن القرار البريطاني بمنح اليهود وطناً قومياً مبنيًا على خلفية "ايمانية". لقد كان القرار بإنشاء "دولة اسرائيل" مرتبطًا تماماً بالمصالح البريطانية إبان الحرب العالمية الأولى 1914-1918، والمصالح الاستعمارية للامبراطورية البريطانية، التي أرادت دفع أمريكا لدخول الحرب إلى جانبها، لعلمها بعدم قدرة الحلفاء على كسب الحرب دون مساهمة دول المستعمرات. لذا كانت الحاجة ماسة من أجل الضّغط على يهود أميركا وأصحاب المال فيها من خلال أصحاب المال في أوروبا من أمثال وايزمن وروتشيلد وغيرهما، وبالتّالي الدّفع بأمريكا للمساهمة في إعادة بناء أوروبا بعد الحرب، وهذا ما نشرته مجلة مدار في عددها الـ 65. والأمر الثّاني هو المصلحة البريطانية في إيجاد قاعدة متقدمة لها على شواطئ البحر المتوسط وقريبة من منابع النفط في العراق. وهنا لم تختلف  المصلحة الأميركية عن المصلحة البريطانية. فمن خلال زرع دولة "اسرائيل" ستتمكن الولايات المتحدة من السّيطرة على المنطقة. وفهمت الولايات المتحدة أهمية الوعد الذي قطعه بلفور لروتشيلد باكراً، فتبنى الكونغرس الأميركي في العام 1922 وبموجب القرار 322، منح اليهود الحق ببناء دولة في فلسطين.

بعد انتهاء الحرب الباردة، دفعت السّياسات الأميركية المتعاقبة، والتّي انتهت بالحرب على أفغانستان والعراق، بها نحو نقطة اللاعودة. وجاءت حرب العدو الاسرائيلي على لبنان في العام 2006، لتكشف الخطة الأميركية ببناء شرق أوسط جديد، والتّي تدعو إلى إعادة تقسيم دول الشّرق الأوسط، بحسب خطة وضعها الرّئيس وودرو ويلسون في العام 1920. وظنّت الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في العام 1989، أنّها ستبقى الدّولة الوحيدة المهيمنة على العالم، وأنّه بات بإمكانها فرض شروطها السّياسة والاقتصادية. وبعد أن خسرت حليفها الأهم في المنطقة، شاه إيران، بعد انتصار الثّورة الإسلامية فيها، حاولت الدّفع نحو سلام دائم ما بين العرب والكيان الصّهيوني، وابتداء محادثات السّلام في كامب ديفيد 1978 ووصولاً إلى أوسلو في العام 1992، والتّي نتج عنها الدخول في اتفاقيات سلام وتطبيع مع الاسرائيلي. غير أنّ هذه الاتفاقيات لم تستطع إنهاء الصّراع أو ضمان أمن واستقرارالكيان الاسرئيلي، وهنا مربط المعضلات الأميركية.

إحدى المعضلات التّي تواجهها الولايات المتحدة هو "الإسلام السّياسي"، اذ اعتقدت الولايات المتحدة أنّ القوى الإرهابية المتشددة التّي مولتها والتّي تزعم استنادها إلى التّشريع الإسلامي كـ"القاعدة" و"النّصرة" وغيرهما، ستكون قادرة على حماية المصالح الأميركية. فالولايات المتحدة تعتبر الرّافعة الأساسية لهذه القوى، إلا أنّها لم تستطع فرض الجماعات الإسلامية الرّاديكالية كواقع مسلَّمٍ به في المنطقة. ولم تفلح الجهود التّي بذلتها الإدارة الأميركية نحو اعتماد سياسة الرّبط ما بين الحركات الإرهابية وما بين حركات المقاومة الإسلامية مثل حماس والجهاد الإسلامي وحزب الله في لبنان. فقد عجزت عن تغيير الرّأي العام في فلسطين ولبنان والعراق وسوريا، والذي يشكل مصدر التّهديد المباشر على أمن الكيان الاسرائيلي وبالتّالي على أمن المصالح الأميركية في المنطقة.

لقد شكل فشل الحكومات الأميركية المتعاقبة منذ زمن جورج بوش الابن (2000) وحتى اليوم، على الرغم من الجهود التّي بذلتها لتجعل من كلّ من سوريا والعراق دول صديقة لإسرائيل معضلة جديدة. وبعد سنين من الحروب الأميركية، فإن هاتين الدّولتين أصبحتا ذاتَي خبرة أكبر في القتال والمواجهة، وأعيد بناء الجيش العراقي ومن ثم تم رفده بفصائل الحشد الشّعبي العقائدي والمعادي لإسرائيل. وفشلت في إضعاف الجيش السّوري الذّي بقي متماسكاً، وأصبح أقوى وذا خبرة قتالية عالية حتى في حرب العصابات. هذه الانتصارات عززت من قوة محور أرادت الولايات المتحدة تفكيكه وتقطيع أوصاله وفصل حزب الله عن محيطه وقطع الإمداد المادّي والعسكري عنه.

لا يعد وجود حزب الله كحزب سياسي معضلة بالنسبة للأميركيين، ولكن حزب الله المقاوم يشكل الأزمة الأساسية لكلٍّ من الأميركيين والإسرائيليين. فالحزب هو تهديد مباشر للشّركات الأميركية العملاقة التّي تحتكر اليوم التنقيب عن النّفط والغاز واستخراجه وتوزيعه في شواطئ كلٍّ من مصر واليونان وقبرص وفلسطين المحتلة. والحرّية التّي تتمتع بها الدّول المنتجة للنفط والغاز في تصديره إلى دول العالم، تجعل الأميركي عاجزًا عن إدارة تجارتيهما عالميًا، وبالتّالي إملاء شروطه على الدّول الصّاعدة والمنافسة للأميركيين. فالأميركي غير قادر على التّحكم بحجم بيع وشراء المنتجات الهيدروكربونية التي تحتاجها الصّين الصّاعدة، وغير قادر على لجم بيع الغاز الرّوسي إلى أوروبا، مما يمنح روسيا هامشاً لتجاوز العقوبات عليها. وحتى خط الغاز الذّي يمتد من فلسطين المحتلة إلى أوروبا لا يمكنه العمل لوجستياً دون رفده بغاز حقول كلٍّ من لبنان وسوريا.

وبالتالي، تعتبر الولايات المتحدة ومنذ مشاركتها في الحربين العالميتين، أنّ من حقها أن تضمن رخاءها الاقتصادي وتطورها وأن تكون صاحبة الحق الحصري في قيادة التّجارة العالمية وتحديد قائمة الأعداء والأصدقاء الذّين يحق لهم الاستفادة من الرخاء الاقتصادي، ما دامت مصالحهم مرتبطة وتخدم المصالح الأميركية. ولذا فالإحباط الأميركي من عدم قدرته على تحقيق أمن "اسرائيل" يرتبط حصرًا بتأمين قاعدة آمنة في "شرق المتوسط" للشّركات الأميركية الكبرى من أجل التّحكم بثرواته الباطنية وإبقائه في حالة من التّخلف والسّبات بحيث يكون مرتعاً لخدمة تلك الشّركات، حتى نهاية مدة خدمة ثرواته. وبالتّالي الاستفادة من الموقع الجغرافي الهام الذّي تمتاز به المنطقة، والذّي جعلها عرضة لصراع القوى عليها منذ بدأ نشوء الدّول والإمبراطوريات، على أهم طريق تجارة عالمي ليس فقط ما بين الشّمال والجنوب وإنما ما بين الشّرق والغرب أيضاً، وبخاصة على طريق النفط والغاز في زمننا الحالي.

 

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف