ramadan2024

آراء وتحليلات

قانون
23/12/2019

قانون "قيصر" ورماة الحدق

ايهاب زكي

 

كانت توجد فئة منذ ما قبل الإسلام اشتهرت باسم الـ"قارَة"، وكانوا يجيدون رمي السهام ليلاً كما نهاراً، حدّ إصابة حدقات العيون، فاصطلح على تسميتهم بـ"رماة الحدق". وإن كنا في زمانٍ غير زمانهم، فإننا نعيش في زمان محورٍ يستحق هذا اللقب سياسياً وعسكرياً، فلا توجد مكاسرة سياسية أو منازلة عسكرية إلّأ ورمى فيها حدقة العدو.

ورغم أنّ المحور الأمريكي يمتلك كثافة في الأدوات، إلّا أنها كثافة عشوائية تفتقر لدقة التصويب، وهو شديد الصخب لكنه مجرد خبط عشواء، وآخر الأمثلة على ذلك ما أُطلق على تسميته "قانون قيصر"، وهو قانون أقره الكونجرس وصدّق عليه الرئيس الأمريكي ليصبح نافذ المفعول على أبواب العام الجديد لمدة خمس سنوات، أو التزام الحكومة السورية بالشروط الواردة في القانون، وهي شروط بعضها مضحك وبعضها ينم عن سذاجة، كإحدى الفقرات الشرطية لتعليق العمل بالقانون، وهي أن تقوم الحكومة السورية بمعاقبة "نظام الأسد" على "جرائمه" وتحقيق العدالة لـ"ضحاياه"، وفق التعابير المستخدمة في القانون.

يستهدف هذا القانون البنك المركزي السوري وقطاع البترول والطاقة وقطاع البناء والإنشاء

ويستهدف هذا القانون البنك المركزي السوري وقطاع البترول والطاقة وقطاع البناء والإنشاء، كما يستهدف روسيا وإيران وحزب الله وكل من يتعاون مع سوريا عسكرياً واقتصادياً وتجارياً، ويستهدف البلاد المجاورة لسوريا، لبنان والعراق والأردن. بمعنى أدقّ فإنّه يستهدف مرحلة إعادة الإعمار، وهذه ليست المرة الأولى التي تفرض الإدارة الأمريكية فيها عقوبات على سوريا، ففي العام 2003 سنّت ما عُرف بقانون محاسبة سوريا، وكان في القلب منه "إسرائيل"، وقانون قيصر كذلك ففي القلب منه"إسرائيل".

 ورغم هذا الهدف النهائي، إلّا أنه لا يمكن إغفال توقيت التصديق على القانون، ويبدو أنّ الولايات المتحدة لمست جدية قاطعة في تصريحات الرئيس الأسد حول مقاومة الوجود الأمريكي، خصوصاً بعد بدء المعارك في إدلب، وبما أنّ نتائج معركة إدلب محسومة مسبقاً لصالح الدولة السورية بغض النظر عن مداها، فإنّ الملف التالي هو ملف التواجد الأمريكي، كما تزامن مع التصويب على حدقة الفوضى في لبنان، من خلال تكليف رئيس حكومة كخيارٍ ثالث، بعيداً عن التخيير الأمريكي بين التأزيم أو مرشح ببصمةٍ أمريكية، وهذا المسرح الذي يشكل تخوفاً أمريكياً من الخروج من سوريا بخفّي حنين سياسياً واقتصادياً.

كانت الخارجية الأمريكية واضحةً في التعبير عن هذا التخوف في تعليقها على صدور القانون، فاعتبرت أنّ "الغاية هي الاستجابة لنداءات الشعب السوري الذي ينادي بحل سياسي على قاعدة قرار مجلس الأمن رقم 2254"، وكانت صحيفة "واشنطن بوست" أكثر وضوحاً حيث ذكرت أنّ "تمرير القانون يعطي للولايات المتحدة نفوذاً في مسألة الحل السياسي، على اعتبار أنّها ستستخدم تلك العقوبات للضغط على الأسد وداعميه، وستفرض نفسها على الحل السياسي في سوريا".

في مكانٍ ما يستهدف ما يعرف بـ"قانون قيصر" الحكومة اللبنانية الجديدة

والحقيقة أنّ الصحيفة صدقت في النوايا والواقع، لكنها أخطأت في التوقع، فعلى صعيد النوايا فإنّ الولايات المتحدة ترغب بشدّة بأن تؤول كل الحلول في سوريا إلى صالحها حصراً، فما فشلت به عبر الإرهاب الداعشي والإرهاب الإعلامي والإرهاب السياسي تريد تحقيقه عبر الإرهاب الاقتصادي، وعلى صعيد الواقع فإنّ الواقع الميداني في سوريا خصوصاً والإقليم عموماً يسير بما لا تشتهي السفن الأمريكية، أمّا على مستوى التوقع فقد فشلت الصحيفة ومن خلفها الإدارة الأمريكية، حيث إنّ القيادة السورية لم تمنح التنازلات حين كانت أصوات الإرهاب الصهيوأمريكي وقذائفه تُسمع في قصر المهاجرين، ولم تقدمها من قبل حين كان الفيل الأمريكي يدوس عشب بغداد على أسوار دمشق، فهل تمنحها وأصوات الجيش العربي السوري تسمعها القواعد الأمريكية بل ترى هذا الجيش في إدلب؟

في مكانٍ ما يستهدف ما يعرف بـ"قانون قيصر" الحكومة اللبنانية الجديدة، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مواقف الرئيس ميشال عون تجاه سوريا، وأنّ هذه الحكومة قد تسير وفق هذه الرؤية، وعليه سيكون لبنان إحدى منصات إعادة الإعمار، وهذا القانون بصيغته الراهنة يشكل تهديداً صريحاً لهذا الخيار. كما أنّ القانون يشكّل قطعاً للطريق على مشروع الاستقلال الاقتصادي أو التوجه شرقاً كما طرحه السيد نصر الله.

وقد منح القانون استثناء تعليق العقوبات للرئيس الأمريكي في حالاتٍ يقدرها تتعلق بالأمن القومي الأمريكي، وهذا الاستثناء هو أداة المساومة التي ستستخدمها الإدارة الأمريكية في وجه المستهدفين بالقانون. وقد هالني التهليل من بعض الإعلام وما تُسمى بـ"المعارضة" السورية للقانون، واعتباره خطوة ستعجّل بسقوط "النظام". ومثار الدهشة هنا ليس التعبير الفجّ عن مزج الأمنيات بالمستحيلات، بل القدرة اللامحدودة على نزع حلقة الوصل بين اللسان والدماغ، وعلى كل حال فإنّ العقوبات الأمريكية مهما كان اسمها ومهما كانت قسوتها، فهي تفقد فعاليتها شيئاً فشيئاً، وستتحول لمجرد حبرٍ على ورق ولو بعد حين، خصوصاً وأنّ هناك أطرافاً دولية صاعدة سئمت عالماً أحادي القطبية، كما أنّ إنفاذ العقوبات يحتاج لطرفٍ مستكين لا يقابل الفعلَ بفعل، فكيف إذا كان طرفاً يمتاز برميّ الحدق؟

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات