يوميات عدوان نيسان 1996

آراء وتحليلات

أزمة كيان العدو: تصدع مجتمعي لا أفق له
27/11/2019

أزمة كيان العدو: تصدع مجتمعي لا أفق له

جهاد حيدر

 

يتجاوز فشل محاولات تشكيل حكومة اسرائيلية في أعقاب عمليتين انتخابيتين متتاليتين خلال خمسة أشهر، الجانب القانوني والمتصل أيضًا بمصير نتنياهو الشخصي والسياسي، على أهميته الكبيرة كعامل أساسي في انتاج هذه الأزمة. وتعود جذوره الفعلية أيضًا الى الصراع الديني العلماني، الذي يشكل أخطر انقسام داخلي تمتد ظلاله الى الصراع على هوية المجتمع والدولة.

شكل فشل غانتس في تشكيل الحكومة، خلال 28 يومًا بعد فشل سبقه اليه نتنياهو، سابقة في تاريخ "اسرائيل". كما شكل اجراء عمليتين انتخابيتين متتاليتين، خلال خمسة أشهر، سابقة أخرى للمرة الاولى في تاريخ "اسرائيل" أيضًا. وتلوح في الافاق امكانية اجراء انتخابات ثالثة خلال أقل من سنة. ويكشف كل ذلك عن الأزمة التي بلغتها "اسرائيل". ولو جرت هذه الانتخابات ايضا، فإنها لن تؤدي الى أي اختراق جذري في الخارطة السياسية الحزبية. ويعني ذلك المزيد من الاستنزاف السياسي والاقتصادي لصالح المزيد من الوقت لمزيد من المناورة، وكل ذلك، بهدف تحصين نتنياهو من المحاكمة والدخول الى السجن.

المعطى الأهم هو أن المعادلة التي أفرزتها الانتخابات الإسرائيلية، كرست الانقسامات السياسية والحزبية، وأنتجت خريطة سياسية معقدة منحت أكثر من كتلة وحزب في الكنيست الـ22 القدرة على عرقلة تشكيل الحكومة، من دون أن تكون له في الوقت نفسه القدرة وحده على تشكيلها. فلا تحالف نتنياهو استطاع أن يشكّلها من دون أن تنضمّ أحزاب وتكتلات من المعسكر المقابل إليه، مع قدرته على عرقلة تأليفها، ولا تحالف زعيم حزب "أزرق أبيض"، بني غانتس، استطاع ذلك، على رغم أن معارضي نتنياهو يمتلكون أغلبية 65 عضواً، إلا أن إشكالية استنادهم إلى كتلة عربية مرجِّحة (القائمة المشتركة) أفقدهم "المشروعية اليهودية".

مع ذلك فإن رئيس حزب "إسرائيل بيتنا"، أفيغدور ليبرمان، كان قادرًا على ترجيح الكفّة لمصلحة نتنياهو إن انضمّ إليه، لكنه أعلن التزامه الشعارات التي رفعها خلال الحملة الانتخابية: تشكيل حكومة وحدة ليبرالية قادرة على فرض التجنيد في الجيش على "الحريديم".

راهن نتنياهو على عدم جرأة غانتس وليبرمان الاستناد الى كتلة عربية ترجح الكفة، ونجح في رهانه. في المقابل، راهن غانتس على حصول تصدع داخل الليكود، أو داخل التكتل اليميني يمكنه من تشكيل حكومة اقلية تستند الى اغلبية يهودية، وفشل في ذلك، بل أفشله نتنياهو حتى الان. وهكذا تجسدت قدرة التعطيل لدى كل منهما وصولا الى رمي الكرة في ملعب الكنيست.

مع ذلك، في ضوء خارطة القوى السياسية في الكنيست، من الواضح أنه لو أراد رئيس حزب "يسرائيل بيتنا"، أفيغدور ليبرمان، الانضمام الى حكومة نتنياهو كما فعل خلال السنوات الماضية، لتشكلت حكومة أخرى برئاسة نتنياهو، ولما كانت هناك حاجة لجولة الانتخابات الثانية. لكنه اشترط لذلك، تشكيل حكومة قادرة على سن قوانين جديدة تتعلق بالأحوال الشخصية خصوصًا، تلبي احتياجات جمهور ناخبيه، وتغير "الستاتيكو" في العلاقة بين الدين والدولة.

هذه العقبة تؤشر الى الأزمة السياسية التاريخية في الكيان الاسرائيلي، والتحولات التي شهدتها الساحة الاسرائيلية، وأبرزها أن الصراع الديني العلماني بات أكثر حضوراً. وبرز هذا الصراع بقوة، لدى تشكيل نتنياهو حكومته الثالثة، عام 2013. فقد بقيت الأحزاب الحريدية خارج هذه الحكومة، بعد اشتراط "ييش عتيد/ يوجد مستقبل" برئاسة يائير لبيد وكتلة "البيت اليهودي" الصهيوني الديني برئاسة نفتالي بينيت، انضمامهما لحكومة بدون الحريديين. وعلى ما يبدو أن موقف لبيد كان نابعا من الصراع العلماني – الديني، بينما موقف بينيت المتدين نابع من أسباب عدة بينها أن الحريديين، وخاصة الأشكناز، ليسوا صهاينة أو "شبه صهاينة". وبعد انتهاء ولاية الحكومة، تراجع بينيت عن موقفه حيال الحريديين، بينما استمر لبيد بالإصرار على موقفه حتى اليوم.

جذور هذه المواقف والخلافات تنبع من انقسامات المجتمع الإسرائيلي وتصدعاته العرقية والأيديولوجية والسياسية، لكن ما هو قائم بين التيارين العلماني والديني يتجاوز التصدّع إلى الصراع على هوية الدولة والمجتمع، وهو صراع يمكن تصنيفه على أنه الأكثر خطورة، علماً بأنه يتغذى من التصدّعات الأخرى ويغذيها.

في هذا المجال يُقسم العديد من الباحثين الانتماء الأيديولوجي في المجتمع الإسرائيلي اليهودي إلى ثلاثة مستويات: المتدينون الفعليون الذي يلتزمون بكامل التوجهات الدينية على المستويين الفكري والسلوكي في مجالات الحياة كافة، والتقليديون الذين يلتزمون نسبياً بالتعاليم الدينية وتحديداً ما يتّسم منها بالطابع الاجتماعي، والعلمانيون الذين يتراوح موقفهم من الديانة اليهودية ما بين عدم المبالاة والإلحاد، الأمر الذي ينعكس أيضاً في الموقف من التيار "الحريدي" بين من يتكيّف معه كأمر واقع وبين من يعمل على إقصائه أو فرض القوانين العلمانية عليه.

أما بخصوص موقع الصهيونية من الانقسام العلماني الديني، فلا هي حركة علمانية بالمعنى الدقيق للكلمة، ولا هي حركة دينية وإنما خلطة حقيقية، ولا يقدح في ذلك أن مؤسِّسيها علمانيون؛ فهي وإن تصادمت مع الدين في بعض المفاصل، إلا أنها سرعان ما توظِّفه وتتكامل معه. من هنا، نبعت بعض المقولات التي تنظر إلى الصهيونية على أنها محاولة لإعادة تفسير الدين اليهودي بما يتلاءم مع مستجدّات العصر، وإن على حساب بعض الثوابت الأساسية، لكونها أضفت على المفاهيم الدينية صبغة قومية وحداثوية مثل "شعب الله المختار" و"أرض الميعاد"، وحوّلتها إلى أفكار قومية.

في المقابل، يرى بعض آخر أن الصهيونية هي امتداد للدينامية الأوروبية التي أنتجت هذا النوع من الأفكار، ولكنها تطورت وتحولت إلى مشروع سياسي تم تنفيذه في بلادنا بدعم من الاستعمار. ومنذ اللحظات الأولى، تبنّى مؤسِّسوها خيار أن يكونوا أداة تنفيذ تلك المخططات الاستعمارية، انطلاقاً من حقيقة أنه لا أفق لمشروعهم إلّا في لعب هذا الدور الوظيفي. والواقع أنها الاثنان معاً.

انطلاقاً ممّا تقدم، يمكن القول إن التطرف السياسي، وتحديداً في ما يتعلق بالساحة الفلسطينية، لا علاقة له بالضرورة بالانتماء الأيديولوجي الديني أو العلماني. فقد يوجد متدينون وعلمانيون يتبنّون نهجاً سياسياً واحداً في مقابل علمانيين آخرين. ولا يتعارض ذلك مع كون الصراع بين المعسكرين الديني والعلماني، صراعًا حقيقيًا ومتجذرًا، حتى لو كان تحت سقف الإجماع الواسع.

في السابق، كان الدور المتعاظم للأحزاب "الحريدية" ينبع من كونها طرفاً مرجّحاً في الانقسام بين اليمين واليسار، وهو مسار تبلور منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي. لكن بعد أفول معسكر اليسار عملياً، وجنوح المجتمع الإسرائيلي إلى اليمينية لأسباب عديدة، على رأسها التركيبة الديمغرافية، تعاظم دور المعسكر الديني نتيجة تزايد نسبة "الحريديم" العددية. انعكست هذه التغيرات الديمغرافية على المشهد السياسي في "إسرائيل". ففي الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، كان التيار اليساري هو المهيمن، ثم تحولت الهيمنة إلى يمين الوسط، أما الآن فبات اليمين أقرب إلى اليمين المتطرف، وهو ما يتجلى في تركيبة حكومات نتنياهو. هذا المسار من التحولات يؤكد أن التصادم بين المعسكرين العلماني والديني، بغض النظر عن شخص نتنياهو أو غيره، إلى تصاعد، وأن ليس ثمة إمكانية للتوصل إلى حلول وسط، وخاصة أن التيار الديني يتغلغل في مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش، الذي تؤكد العديد من الدراسات أن نسبة المتدينين (الصهاينة) فيه ارتفعت بشكل ملحوظ.

إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات