يوميات عدوان نيسان 1996

خاص العهد

هل لا تزال
19/11/2019

هل لا تزال "الودائع" آمنة في المصارف؟

فاطمة سلامة

شيئاً فشيئاً تُحكِم الأزمة المالية والنقدية الطوق على عنق الاقتصاد اللبناني. ما يُنقل في هذا الصدد عمّن هم في مواقع المسؤولية يُثير القلق. الاقتصاد في وضع "خطير". هذا الكلام لا يندرج في سياق "التهويل" بل ينطلق من وقائع وحقائق باتت "ملموسة" حتى للمواطن العادي. الخوف وصل حد "الودائع". هذه النقطة باتت على رأس أحاديث الناس الذين ربما جمّع بعضهم الليرة فوق الليرة ووضعوا "شقاء" عمرهم في المصارف. منذ بدء الأزمة، لم تهدأ هواتف الخبراء الاقتصاديين. أولئك يتلّقون اتصالات من "مودعين" يطلبون منهم النصيحة انطلاقاً من قراءتهم للواقع المالي والنقدي. يُغدقون عليهم الأسئلة من قبيل: هل أموالنا في "مأمن"؟ ماذا لو أفلست المصارف؟ ما الضمانة لاسترجاع أموالنا؟ هل تنصحوننا بسحب ودائعنا؟. كل تلك الأسئلة تبدو "بديهية" وسط كل تلك الضبابية التي تحيط بمصير البلد ومستقبل المصارف على حد سواء. ولا عجب إن تحوّل الاقتصاديون الى جهة استشارات للمودعين. لكنّ الاقتصاد مرهون بجملة كبيرة من العوامل تبدأ بالوضع السياسي ولا تنتهي بالاجتماعي، وعليه، فإنّ أحداً لا يملك الكلمة النهائية في هذا الملف، لتبقى التوصيات مرهونة بالظروف المحيطة. 

لدى سؤال الخبير الاقتصادي الدكتور شربل قرداحي عما اذا كانت أموال المودعين في مأمن، قال "حتى هذه اللحظة لا زلنا قادرين على الحفاظ على مجمل الودائع". يُصر قرداحي على عبارة "حتى اللحظة"، برأيه، فإنّ هذا الجو قد يتغيّر بعد أسبوعين ما يحملنا الى الحديث بنفَس مختلف. بالأرقام، يتحدّث قرداحي عن واقع المصارف، فيشير الى أنّ أصول المصارف تقدّر بـ 250 مليار دولار، تشكّل الودائع منها 170 مليار دولار. جزء من هذه الأصول موجود في البنك المركزي ويفوق السبعين مليار دولار من أصل 120 مليار دولار، أما الباقي فقد اقترضته الدولة. 

يُفصّل قرداحي أكثر، فيوضح أنّ 71 بالمئة من أصول القطاع المصرفي موظّفة إما مع البنك المركزي أو مع الحكومة، إذ لدينا 38.6 من الدين العام أي بحدود 33 مليار دولار يمسك بها المصرف المركزي، وهي موظفة من المصارف مباشرة في سندات الخزينة سواء بالليرة أو الدولار. متى تصبح الودائع في خطر حقيقي؟. يجيب قرداحي على هذا السؤال قائلاً "اذا تلكأت الحكومة في دفع ديونها للمصارف، بطبيعة الحال، ستخسر المصارف جزءاً من رأسمالها وتخسر قدرتها على الاقراض، وستزيد خسائر المصرف المركزي -نتيجة فقدان عامل الثقة- ما سيجعله عاجزاً عن رد إيداعات البنوك، وبالتالي ودائع اللبنانيين". هذا الأمر -برأي قرداحي- سيكون له بالتأكيد انعكاسات كبيرة جداً على الاقتصاد. فأموال المودعين مقسّمة: 28 مليار دولار وظّف في سندات خزينة، أكثر من 60 مليار دولار وُظّف في الاقتصاد، وجزء في البنك المركزي. الأخير قد يفقد قدرته على رد الودائع ما سيجعل من الصعوبة استرداد الودائع كاملة. يطرح قرداحي بعض السيناريوهات التي تستطيع من خلالها البنوك الايفاء بالتزاماتها كأن يُصار الى وضع اليد على "الشقق" السكنية التي يتمنّع أصحابها عن سد القروض المتوجبة عليهم، ويصار الى طرحها في المزاد العلني لبيعها، ورد الودائع، إلا أن الأمر يأخذ وقتاً، ومن المحتمل أن لا يحصل المودعون على أموالهم كاملة.
 
ويختم قرداحي حديثه بالتأكيد "حتى هذه اللحظة لا زلنا قادرين على الحفاظ على مجمل الودائع". 

هذا ما يقوله القانون

بموازاة هذا الواقع الاقتصادي المزري، تمارس المصارف ما يسمى بـ"الكابيتال كونترول"، بمعنى تقييد عمليات السحب والتحويل على الودائع. فهل هذا الأمر قانوني؟ وهل من خيارات قانونية مطروحة أمام المودعين في حال أفلست المصارف؟. 

رئيسة قسم القانون الخاص في كلية الحقوق بالجامعة اللبنانية الدكتورة سابين الكيك،  وهي متخصصة في قانون المصارف، تؤكّد أنّ  القانون منح الحق لأي شخص برفع دعوى قضائية سواء فردية أو جماعية على أي مصرف "يتمنّع" عن رد إيداعاته أو يقيّدها. نحن نتكلم عن علاقة عقدية بين المودع والمصرف. الأخير مدين للمودع، ونص المادة 307 من قانون التجارة واضح جداً لجهة أن الأموال المودعة في المصارف تصبح ملك المصرف ويتصرف بها بحرية شرط أن يلتزم بإعادتها الى المودع عند الطلب، وضمن شروط محددة مسبقاً. برأيها، فإنّ هذه العلاقة تحكمها أنظمة الزامية لا يستطيع المصرف مخالفتها. وتشدّد على أنّ "الكابيتال كونترول" الذي يطبق اليوم هو غير قانوني، اذا لم يصدر ضمن قانون يُشرّعه مجلس النواب. 

وفي سياق متصّل، تلفت الكيك الى أنّ القانون اللبناني نظم أحكاماً تتعلق بمرحلة توقف المصارف عن الدفع وما ينتج عنها من مفاعيل. أول القوانين التي تنظم هذه المرحلة هو قانون 2/67 أو ما يعرف بقانون "انترا" الذي وجد عقب أزمة بنك "انترا". هذا القانون بالاضافة الى قوانين أخرى، منها قانون "إنشاء المؤسسة الوطنية لضمان الودائع"، "قانون الاصلاح المصرفي 110/91" فضلاً عن أحكام متعددة في القانون اللبناني يمكن أن تطبق في حال توقفت المصارف عن الدفع أو أصيبت بتعثر مالي كبير. توضح الكيك أنّ الأمثلة في الواقع اللبناني متعددة، فمنذ أزمة "انترا" حتى اليوم، شهدنا الكثير من  التعثرات المصرفية وإن تباينت حدتها. في الثمانينيات وإثر أزمة بنك "المشرق" أصيب حوالى 13 مصرفاً بتعثر مالي، تعامل معها حينها المصرف المركزي وعدد من الجهات المالية بمسؤولية لاحتواء الأزمة والحفاظ على أموال المودعين.

تُشدّد الأستاذة المحاضرة في الجامعة اللبنانية على أنّ القانون 2/67 ينظم الواقع المصرفي وحالة إفلاس المصارف بشكل مختلف عن أنظمة الافلاس التي تطبق في القطاعات الأخرى. فقبل هذا القانون كانت المصارف بصفتها شركات مساهمة تابعة لأنظمة الافلاس حسب قانون التجارة اللبناني، لكن ومع اندلاع أزمة "انترا" تبيّن للمشرّع والسلطة آنذاك أن أحكام الافلاس كما هي في القانون التجاري غير قابلة للتطبيق على المصارف. الأخيرة تتعامل مع "الدائنين" الذين ليسوا فقط "جهات"، بل أشخاص لديهم مدخرات وأموال، ما دفع الى تخصيص  قوانين مختلفة. 

ووفق الكيك، جاء قانون التوقف عن الدفع ليقول إنّ هذه المؤسسة المصرفية ونظراً لارتباطها بأموال المودعين فإنّ استمراريتها أهم من إعلان افلاسها أو ايقافها ككيان قانوني، لذلك جرى إيجاد اجراءات تقضي بعدم الدخول بمرحلة تصفية الموجودات، حتى ولو أعلن المصرف أنّه في حالة التوقف عن الدفع. إجراءات تقوم على إعطاء المصرف  الفرصة  عبر إمكانية تعويمه. وهنا لدينا أكثر من مرحلة. في الأولى يصار الى تشكيل لجنة ادارة تتكون من مجلس إدارة المصرف لايجاد حلول أو لتقديم إمكانيات مادية قادرة على استيعاب هذه الأزمة عبر مشاركة المساهمين في تعويم المصرف، كونهم شركاء أساسيين في المؤسسة المصرفية. إجمالا ًفي هذه المرحلة، لم يثبت أية حالة تمكّن خلالها المساهمون من استيعاب الأزمة. 

في المرحلة الثانية يصار -وفق الكيك- الى تشكيل لجنة إدارة ثانية تتألف من حاكم مصرف لبنان، مفوض الحكومة وأشخاص خارج الادارة الداخلية للمصرف. مهمة هذه اللجنة البحث عن حلول تعمل على تعويم المصرف وضخ أموال جديدة قادرة على استيعاب حجم التعثر المالي. في هذا الصدد، لدينا تجربتان نجحتا في تاريخ المصارف. ولا تخفي المتحدّثة أن ارتدادات أي أزمة مصرف في العالم لا يمكن حصر مفاعيلها داخل البنك نفسه، بل إنّ ارتداداتها قد تمتد الى فقدان الثقة بالقطاع المصرفي بشكل عام. لذلك فإنّ عملية احتواء الأزمة بشكل هادئ وتفادي إقفال المصرف  تساعد على التخفيف من التداعيات التي قد تكون كارثية.

ما سبق ذكره يمكن أن "ينفعنا" في حالة مصرف أو مصرفين، لكننا اليوم نعاني من أزمة مختلفة، فنحن نواجه واقعًا لم يسبق له مثيل في تاريخ لبنان، تقول الكيك. الأزمة امتدت لتطال القطاع المصرفي بأكمله، ولذلك فإنّ المعالجات لن تكون معالجات فردية وكل القوانين والأنظمة المصرفية القابلة للتطبيق لا نستطيع تطبيقها على كامل القطاع. ففي الحالات السابقة شكّل مصرف لبنان سنداً للمصارف، أما اليوم فالبنك المركزي غير قادر على احتواء هذا القطاع بأكمله. 

لا تنكر الكيك أننا أمام أزمة مالية نقدية ومصرفية، لكنها في المقابل ترى أنّ احتواءها حتى اللحظة ليس احتواء قانونيا ولا مسؤولا. المسؤولون يعملون فقط على شراء الوقت، ولا يجوز تحميل المودعين تبعات ما يحصل، تختم الكيك.
 

المصارف

إقرأ المزيد في: خاص العهد